الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
136 110 - وأما حديث مالك ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن فاطمة بنت المنذر بن الزبير ، عن أسماء بنت أبي بكر الصديق ؛ أنها قالت : سألت امرأة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت : أرأيت إحدانا ، إذا أصاب ثوبها الدم من الحيضة ، كيف تصنع فيه ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " إذا أصاب ثوب إحداكن الدم من الحيضة فلتقرصه ثم لتنضحه بالماء ثم لتصل فيه " .


3423 - فقوله فيه : عن أبيه غلط ؛ لأن أصحاب هشام بن عروة كلهم يقول فيه : عن فاطمة بنت المنذر ، وهي امرأته ، ولم يرو عنها أبوه شيئا ، وإنما هشام يروي عنها هذا الحديث وغيره .

3424 - وأما قوله : " فلتقرصه " يعني : تعركه وتحته وتزيله بظفرها ، ثم تجمع عليه أصابعها ، فتغسل موضعه بالماء .

3425 - وقوله : " ولتنضحه " يريد : ولتغسله . والنضح : الغسل ، وهو المعروف [ ص: 204 ] في اللسان العربي : أنه قد يراد بالنضح الغسل بالماء .

3426 - وهذا الحديث أصل في غسل النجاسات من الثياب ؛ لأن الدم نجس إذا كان مسفوحا ، ومعنى المسفوح : الجاري الكثير .

3427 - ولا خلاف أن الدم المسفوح رجس نجس ، وأن القليل من الدم الذي لا يكون جاريا مسفوحا متجاوز عنه .

3428 - وليس الدم كسائر النجاسات التي قليلها رجس مثل كثيرها .

3429 - وقد ذكرت في التمهيد عن أبي طوالة عبد الله بن عبد الرحمن بن معمر ، قال : أدركت فقهاءنا يقولون : ما أذهبه الحك من الدم فلا يضر ، وما أخرجه الفتل مما يخرج من الأنف فلا يضر .

3430 - وقال مجاهد : لم يكن أبو هريرة يرى بالقطرة والقطرتين من الدم بأسا في الصلاة .

3431 - وتنخم ابن أبي أوفى دما في الصلاة .

3432 - وعصر ابن عمر بثرة فخرج منها شيء من دم أو قيح ، فمسحه بيده ، وصلى ، ولم يتوضأ .

[ ص: 205 ] 3433 - وذكر ابن المبارك عن المبارك بن فضالة عن الحسن أن النبي - عليه السلام - كان يقتل القملة في الصلاة .

3434 - ومعلوم أن في قتل القملة دما يسيرا .

3435 - وقد ذكرنا هذه الآثار بأسانيدها في التمهيد .

3436 - وقد تقدم في فتل سالم لما خرج من أنفه من الرعاف ، وفي هذا المعنى كفاية .

3437 - وأجمع العلماء على غسل النجاسات كلها من الثياب والبدن وألا يصلى بشيء منها في الأرض ، ولا في الثياب .

3438 - وأما العذرات وأبوال ما لا يؤكل لحمه فقليل ذلك وكثيره رجس وكثيره رجس نجس عند الجمهور من السلف ، وعليه فقهاء الأمصار .

3439 - واختلفوا : هل غسل النجاسات على ما وصفنا فرض ، أو سنة ؟ .

3440 - فقال منهم قائلون : غسلها فرض واجب ، ولا تجزئ صلاة من صلى بثوب نجس ، عالما كان بذلك ، أو ساهيا عنه .

3441 - واحتجوا بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بغسل الأنجاس من الثياب ، والأرض ، والبدن .

3442 - فمن ذلك حديث هذا الباب ، وهو حديث أسماء في غسل دم الحيض من الثوب ، ولم تخص منه مقدار درهم من غيره .

[ ص: 206 ] 3443 - ومنها أمره بصب الماء على بول الصبي إذا بال في حجره .

3444 - ومنها أمره بصب الذنوب من الماء على بول الأعرابي إذ بال في المسجد .

3445 - ومنها أنه قال - عليه السلام - " أكثر عذاب القبر في البول " .

[ ص: 207 ] 3446 - واحتجوا بإجماع الجمهور الذين هم الحجة على من شذ عنهم ، ولا يعد خلافهم خلافا عليهم - أن من صلى عامدا بالنجاسة ، يعلمها في بدنه ، أو ثوبه ، أو على الأرض التي صلى عليها ، وهو قادر على إزاحتها واجتنابها وغسلها ، ولم يفعل ، وكانت كثيرة أن صلاته باطلة ، وعليه إعادتها كمن لم يصلها .

3447 - فدل هذا على ما وصفنا من أمر رسول الله بغسل النجاسات ، وغسلها له من ثوبه على أن غسل النجاسة فرض واجب ، وإذا كان فرضا غسلها لم يسقط فرض غسلها على من نسيه ، وصلى بثوب نجس ؛ لأن الفرائض لا يسقطها النسيان ، كما لو نسي مسح رأسه أو غير ذلك من فرائض وضوئه أو صلاته .

3448 - وممن ذهب إلى هذا في غسل النجاسة قليلها وكثيرها ، إلا ما وصفنا من الدم اليسير نحو دم البراغيث ، وما كان مثله - الشافعي ، وأحمد بن حنبل ، وأبو ثور . وإليه مال أبو الفرج المالكي . وهو مذهب الكوفيين ، إلا أنهم راعوا ما زاد على مقدار الدرهم قياسا على المخرج في الاستنجاء .

3449 - وقد روي عن ابن عباس ما يدل على أن غسل النجاسة فرض مأخوذ من قوله تعالى " وثيابك فطهر " ( سورة المدثر : 4 ) كما قال ابن سيرين .

3450 - ويأتي ذلك بعد احتجاجا لما ذهب إليه أبو الفرج ، إن شاء الله تعالى .

3451 - وقال آخرون : غسل النجاسة سنة واجبة ، مؤكدة وليس بفريضة .

[ ص: 208 ] 3452 - قالوا : والدليل على ذلك أن كتاب الله تعالى ليس فيه ما يوجب غسل الثياب .

3453 - وتأولوا قوله تعالى " وثيابك فطهر " على ما تأوله عليه جمهور السلف : من أنها طهارة القلب ، وطهارة الجيب ، ونزاهة النفس عن الدنايا والآثام ، والذنوب .

3454 - وذكروا قول سعيد بن جبير : اقرأ علي آية بغسل الثياب .

3455 - ذكره أبو بكر ، قال : حدثنا وكيع ، قال حدثنا سفيان ، عن أبي شيخ ، عن سعيد بن جبير ، قال : اقرأ علي آية بغسل الثياب .

3455 م - قالوا : وقول ابن سيرين : إنه أراد بذلك تطهير الثياب - شذوذ لم يقله غيره .

3456 - وقد أشبعنا هذا المعنى بأقاويل المفسرين من السلف ، ومن تابعهم من الفقهاء في التمهيد بالآثار ، والنظر ، والاعتبار ، والحمد لله .

3457 - وتقصينا هناك أقاويل الفقهاء فيمن صلى بثوب نجس ، أو على ثوب نجس ، أو على موضع نجس ، أو كانت في بدنه نجاسة ، أو تيمم على موضع نجس . فمن أراد ذلك تأمله هناك .

3458 - ومن الحجة لمن جعل غسل النجاسة سنة حديث حماد بن سلمة ، عن أبي نعامة السعدي ، عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد الخدري ، قال : " بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي بأصحابه إذ خلع نعليه ، فوضعهما عن يساره . فلما رأى ذلك القوم خلعوا نعالهم . فلما قضى رسول الله صلاته قال : ما حملكم على إلقائكم نعالكم ؟ فقالوا : [ ص: 209 ] رأيناك ألقيت نعالك فألقينا نعالنا . فقال رسول الله : إن جبريل أتاني ، فأخبرني أن فيهما قذرا " .

3459 - وقد ذكرناه في التمهيد مسندا ومرسلا من وجوه .

3460 - وذكرنا هناك بمثل ذلك حديث ابن مسعود أيضا ، ذكره ابن أبي شيبة ، عن أبي غسان مالك بن إسماعيل النهدي ، عن زهير بن معاوية ، عن أبي حمزة ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، عن عبد الله ، قال : خلع النبي - عليه السلام - نعليه وهو يصلي ، فخلع من خلفه . فقال : ما حملكم على خلع نعالكم ؟ قالوا : يا رسول الله ! إنك خلعت فخلعنا . فقال : إن جبريل أخبرني أن في إحداهما قذرا ، فإنما خلعتهما لذلك . فلا تخلعوا نعالكم " .

3461 - ولما بنى - عليه السلام - على ما صلى بالنجاسة ، ولم يقطع صلاته لذلك - علمنا أن غسلها لم يكن واجبا ، ولو كان واجبا فرضا لم تكن صلاة من صلى بها جائزة ، ولما تمادى في صلاته إذ رآها وعلمها في نعليه .

3462 - وقد روي عن ابن عمر ، وسعيد بن المسيب ، وسالم ، وعطاء ، وطاوس ، ومجاهد ، والشعبي ، والزهري ، ويحيى بن سعيد الأنصاري في الذي يصلي بالثوب فيه نجاسة ، وهو لا يعلم ، ثم علم : أنه لا إعادة عليه .

[ ص: 210 ] 3463 - وبه قال إسحاق ، واحتج بحديث أبي سعيد المذكور .

3464 - ومالك - رحمه الله - مذهبه في هذه المسألة نحو مذهب هؤلاء ؛ لأنه لا يرى الإعادة إلا في الوقت . والإعادة في الوقت استحباب ، لاستدراك فضل السنة في الوقت ، ولا يستدرك فضل السنة بعد الوقت ، لإجماع العلماء على أن من صلى وحده في الوقت ووجد قوما يصلون جماعة بعد الوقت ، قد فاتتهم تلك الصلاة بنوم أو عذر - أنه لا يصلي معهم .

3465 - وكلهم يأمره لو كان في الوقت - أن يعيد الظهر والعشاء هذا ما لم يختلفوا فيه ، وقد اختلفوا فيما عدا هاتين الصلاتين على ما نذكره في بابه من هذا الكتاب إن شاء الله .

3466 - ومن ها هنا قال أصحابنا : مذهب مالك في غسل النجاسات أنه سنة ، لا فرض .

3467 - وجملة قول مالك في هذا الباب أن إزالة النجاسة من الثياب والأبدان واجبة بالسنة ، وليست بوجوب فرض .

3468 - وعلى ذلك جماعة أصحابه إلا أبا الفرج ، فإن غسلها عنده فرض واجب .

3469 - قالوا : ومن صلى بثوب نجس أعاد في الوقت ، فإن خرج الوقت فلا إعادة عليه .

3470 - وحجة أبي الفرج ومن قال قوله من المالكيين - وهو قول الشافعي ، وأحمد [ ص: 211 ] بن حنبل ، وإسحاق ، وقد تقدم إلى القول به الحسن ، ومحمد بن سيرين ، عالما أهل البصرة ، وروي عن ابن عباس معنى ذلك . ذكر محمد بن المثنى ، ومحمد بن يسار قالا : حدثنا يحيى بن سعيد ، عن ابن جريج ، عن عطاء ، عن ابن عباس في قوله : " وثيابك فطهر " قال في كلام العرب : أنقها إنها القلب ، وقال ابن المثنى في حديثه : أنق الثياب .

3471 - فالحجة لهم ظاهر قوله تعالى " وثيابك فطهر " والثياب غير القلوب عند العرب ، وهي لغة القرآن ، وسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - في غسل الدماء والأنجاس من الأبدان والثياب والنعال . وقد ذكرنا الآثار بذلك في موضعه من التمهيد .

3472 - وإجماع العلماء على أن من صلى وثوبه الذي يستر عورته قد امتلأ بولا ، أو عذرة ، أو دما ؛ وهو عامد فلا صلاة له ، وعليه الإعادة في الوقت وبعده .

3473 - وهذا كله دليل عندهم على أن غسل النجاسات فرض واجب ، وبالله التوفيق .

3474 - وقال مالك : لا تعاد الصلاة من يسير الدم في وقت ولا غيره ، وتعاد من يسير البول والغائط والمذي والمني .

3475 - قال مالك : ومن رأى في ثوبه دما يسيرا - وهو في الصلاة - مضى ، وفي الدم الكثير ينزعه ويستأنف الصلاة .

3476 - فإن رآه بعد فراغه أعاد ما دام في الوقت ، وكذلك البول ، والرجيع ، [ ص: 212 ] والمذي ، والمني ، وخرء الطير التي تأكل الجيف ، يعيد ما كان في الوقت من صلى ، ومن لم يعلم بالنجاسة إلا بعد الوقت لم يعد . ومن تعمد الصلاة بالنجاسة أعاد أبدا .

3477 - هذا تحصيل مذهب مالك عند جماعة أصحابه إلا أشهب ، فإنه لا يعيد المتعمد عنده أيضا إلا في الوقت وقد شذ في قوله ذلك عن الجمهور من السلف والخلف .

3478 - وروي عن الليث بن سعد في ذلك كمذهب مالك .

3479 - وقال الشافعي : قليل الدم والبول والعذرة والخمر ، وكثير ذلك سواء ، تعاد منه الصلاة أبدا ، والإعادة واجبة لا يسقطها خروج الوقت .

3480 - واختلف قول مالك في دم الحيض : فمرة جعله كسائر الدماء ، وهو الأشهر عنه ، ومرة كالبول ، وهو قول ابن وهب ، إلا ما كان نحو دم البراغيث وما يتعافاه الناس ويتجاوزونه لقلته ، فإنه لا يفسد الثوب ، ولا تعاد منه الصلاة .

3481 - وقول أحمد بن حنبل وأبي ثور في ذلك مثل قول الشافعي ، إلا أنهما يخالفانه في الدم خاصة ، فلا يريان غسله حتى يتفاحش .

3482 - وهو قول الطبري ، إلا أن الطبري قال : إن كانت النجاسة قدر الدرهم أعاد الصلاة أبدا ، ولم يحد أولئك حدا .

3483 - وكلهم يروي غسل النجاسة فرضا .

3484 - وقول أبي يوسف ، وأبي حنيفة في هذا الباب كقول الطبري في مراعاة قدر الدرهم من النجاسة : أنه معفو عنه حتى يكون أكثر ، فتجب منه الإعادة أبدا . [ ص: 213 ] ويجب حينئذ غسله فرضا .

3485 - وقال محمد بن الحسن : إن كانت النجاسة ربع الثوب فما دون جازت الصلاة به .

3486 - وقال أبو يوسف وأبو حنيفة في الدم والعذرة والبول ونحوها : إن صلى وفي ثوبه من ذلك مقدار الدرهم جازت صلاته ، وكذلك الروث عن أبي حنيفة .

3487 - وقال أبو يوسف ومحمد في الروث : حتى يكون كثيرا فاحشا .

3488 - وقال أبو حنيفة وأبو يوسف في بول ما يؤكل لحمه : حتى يكون كثيرا فاحشا .

3489 - وذهب محمد بن الحسن إلى أن بول ما يؤكل لحمه طاهر كقول مالك .

3490 - وقال الشافعي : بول ما يؤكل لحمه نجس .

3491 - وليس هذا موضع الاحتجاج لأقوالهم في نجاسة بول الإبل ، وما يؤكل لحمه . وسيأتي في موضعه إن شاء . الله تعالى .

3492 - وقال زفر في البول : قليله وكثيره يفسد الصلاة ، وفي الدم حتى يكون أكثر من قدر الدرهم .

3493 - وقال الحسن بن حي في الدم في الثوب : يعيد إذا كان مقدار الدرهم ، وإن كان أقل من ذلك لم يعد .

3494 - وكان يقول : إن كان في الجسد أعاد ، وإن كان أقل من الدرهم .

3495 - وقال في البول ، والغائط : يفسد الصلاة القليل والكثير منه إن كان في الثوب .

[ ص: 214 ] 3496 - وقال الثوري : يغسل الروث والدم ، ولم يعرف قدر الدرهم .

3497 - وقال الأوزاعي في البول : إذا لم يجد ماء يغسله به تيمم وصلى ، ولا إعادة عليه إذا وجد الماء .

3498 - وقد روي عن الأوزاعي أنه إذا وجد الماء في الوقت أعاد .

3499 - وقال في القيء يصيب الثوب ولا يعلم به حتى يصلي : مضت صلاته .

3500 - وقال : إنما جاءت الإعادة في الرجيع .

3501 - وكذلك في دم الحيض لا يعيد .

3502 - وقال في البول : يعيد في الوقت فإذا مضى الوقت فلا إعادة عليه .

3503 - وقال الليث في البول ، والروث ، والدم ، وروث الدابة ، ودم الحيض ، والمني : يعيد ، فات الوقت أو لم يفت .

3504 - وقال في يسير الدم في الثوب : لا يعيد في الوقت ، ولا بعده .

3505 - قال : وسمعت الناس لا يرون في يسير الدم يصلى به وهو في الثوب - بأسا ، ويرون أن تعاد الصلاة في الوقت من الدم الكثير .

3506 - قال : والقيح مثل الدم .

3507 - قال أبو عمر : هذا عن الليث أصح مما تقدم عنه . رواه ابن وهب وغيره عنه .

3508 - وقوله : هذا حسن جدا .

3509 - وقد أوردنا أقاويل الفقهاء والسلف في هذا الباب ، والله الموفق للصواب .

التالي السابق


الخدمات العلمية