الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
[ ص: 7 ] 29 - كتاب الطلاق

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم

( 1 ) باب ما جاء في البتة

1119 - مالك ; أنه بلغه أن رجلا قال لعبد الله بن عباس : إني طلقت امرأتي مائة تطليقة . فماذا ترى علي ؟ فقال له ابن عباس : طلقت [ ص: 8 ] منك لثلاث . وسبع وتسعون اتخذت بها آيات الله هزوا .

1120 - مالك ; أنه بلغه أن رجلا جاء إلى عبد الله بن مسعود : فقال : إني طلقت امرأتي ثماني تطليقات . فقال ابن مسعود : فماذا قيل لك ؟ قال : قيل لي إنها قد بانت مني . فقال ابن مسعود : صدقوا . من طلق كما أمره الله فقد بين الله له . ومن لبس على نفسه لبسا . جعلنا لبسه ملصقا به . لا تلبسوا على أنفسكم ونتحمله عنكم . هو كما يقولون .


25001 - قال أبو عمر : ليس في هذين الخبرين ذكر " البتة " ، وإنما فيهما وقوع الثلاثة مجتمعات ، غير متفرقات ، ولزومها ، وهو ما لا خلاف فيه بين أئمة الفتوى بالأمصار ، وهو المأثور عن جمهور السلف ، والخلاف فيه شذوذ ، تعلق به أهل البدع ، ومن لا يلتفت إلى قوله لشذوذه عن جماعة لا يجوز على مثلها [ ص: 9 ] التواطؤ على تحريف الكتاب ، والسنة ، إلا أنهم يحتجون فيه بابن عباس .

25002 - وابن عباس قد اختلف فيه في ذلك .

25003 - ويحتجون أيضا بقوله تعالى : الطلاق مرتان 4 [ البقرة : 229 ] .

25004 - وسنبين ذلك إن شاء الله عز وجل .

25005 - وإنما أدخل مالك - رحمه الله - هذين الحديثين في باب " البتة " ; لأنه يرى البتة ثلاثا ، فأراد إعلام الناظر في كتابه بمذهبه في ذلك .

25006 - وأما وقوع الثلاث تطليقات مجتمعات بكلمة واحدة ، فالفقهاء مختلفون في هيئة وقوعها كذلك ، هل تقع للسنة أم لا ؟ مع إجماعهم على أنها لازمة لمن أوقعها كما تقدم ذكرنا له :

25007 - فعند مالك ، والكوفيين : ليست الثلاثة المجتمعات بسنة ، وقعت في طهر لم تمس فيه ، أو لم تقع .

25008 - وقال الشافعي : إذا طلق في طهر لم تمس فيه ، فله أن يطلق واحدة أو اثنتين ، أو ثلاثة .

25009 - وكل ذلك سنة .

25010 - قال : ومن كان له أن يوقع واحدة كان له أن يوقع ثلاثا .

[ ص: 10 ] 25011 - وهو قول أحمد ، إلا أنه قال : أحب إلي أن يوقع واحدة ، وهو الاختيار .

25012 - فإن أوقع ثلاثا في طهر لم يمس فيه ، فهو مطلق للسنة أيضا .

25013 - وسيأتي هذا المعنى في موضعه بأبلغ من هذا - إن شاء الله تعالى .

25014 - قال أبو عمر : الذي ذهب إليه مالك في أن الطلاق الثلاث مجتمعات لا يقعن لسنة ، وأن ذلك مكروه من فعل من فعله ، هكذا قول أكثر السلف ، وهم مع ذلك يلزمونه ذلك الطلاق ، ويحرمون به امرأته ، إلا بعد زوج ، كما لو أوقعها مفترقات عند الجميع .

25015 - ذكر أبو بكر بن أبي شيبة ، قال : حدثني ابن نمير ، عن الأعمش ، عن مالك ، عن مالك بن الحارث ، عن ابن عباس ، قال : أتاه رجل ، فقال : إن عمي طلق امرأته ثلاثا ، فقال : إن عمك عصى الله ، فأندمه الله ، ولم يجعل له مخرجا .

25016 - قال : وحدثني علي بن مسهر ، عن شقيق بن أبي عبد الله ، عن أنس ، قال : كان عمر إذا أتي برجل يطلق امرأته ثلاثا في مجلس واحد أوجعه ضربا ، وفرق بينهما .

25017 - وذكر عبد الرزاق ، عن الثوري ، عن سلمة بن كهيل ، عن زيد بن [ ص: 11 ] وهب ، عن عمر بن الخطاب ، مثله بمعناه .

25018 - وقد ذكرناه في مسألة اللعب في النكاح والطلاق .

25019 - وقال أبو بكر ; حدثني سهل بن يوسف ، عن حميد بن رافع بن سحبان ، قال : سئل عمران بن حصين عن رجل طلق امرأته ثلاثا في مجلس ؟ قال : عصى ربه ، وحرمت عليه .

25020 - قال : وحدثني أسباط بن محمد ، عن أشعث ، عن نافع ، قال : قال ابن عمر : من طلق امرأته ثلاثا ، فقد عصى ربه ، وبانت منه امرأته .

25021 - وعبد الرزاق ، عن الثوري ، عن ابن أبي ليلى ، عن نافع ، عن ابن عمر ، مثله .

25022 - ومعمر ، عن الزهري ، عن سالم مثله .

25023 - قال أبو عمر : لا أعلم لهؤلاء مخالفا من الصحابة إلا ما خلا ذكره ، عن ابن عباس ، وهو شيء لم يروه عنه إلا طاوس ، وسائر أصحابه رووه عنه خلافه .

[ ص: 12 ] 25024 - وهو قول الحسن ، والقاسم ، وابن شهاب ، وجماعة .

25025 - وقد روي عن ابن سيرين ، والشعبي ، وطائفة نحو قول الشافعي .

25026 - ذكر أبو بكر ، قال : حدثني أبو أسامة ، عن هشام ، قال : سئل محمد عن الرجل يطلق امرأته ثلاثا في مقعد واحد ؟ قال : لا أعلم بذلك بأسا ، قد طلق عبد الرحمن بن عوف امرأته ثلاثا ، فلم تغب عنه .

25027 - قال : وحدثني أبو سلمة ، عن ابن عوف : أنه لم ير بذلك بأسا .

25028 - قال : حدثني غندر ، عن شعبة ، عن عبد الله بن أبي السفر ، عن الشعبي في رجل أبى أن تبين منه امرأته ، قال : فطلقها ثلاثا .

25029 - قال أبو عمر : وأما الرواية عن ابن عباس بمعنى بلاغ مالك عنه الذي ذكره في أول هذا الباب ، والرواية عن ابن مسعود - أيضا - بما ذكر [ ص: 13 ] عنه ، وما كان في معنى ذلك ;

25030 - فذكر أبو بكر بن أبي شيبة ، قال : حدثني عباد بن العوام ، عن هارون بن عنترة ، عن أبيه ، قال : كنت جالسا عند ابن عباس ، فأتاه رجل ، فقال : يا ابن عباس ! إني طلقت امرأتي مائة مرة ، وإنما قلتها مرة واحدة ، فقال : بانت منك بثلاث ، وعليك وزر سبع وتسعين .

25031 - قال : وحدثني وكيع ، عن سفيان ، قال : حدثني عمرو بن مرة ، عن سعيد بن جبير ، قال : جاء رجل إلى ابن عباس ، فقال : إني طلقت امرأتي ألفا - أو قال مائة - قال : بانت منك بثلاث ، وسائرهن وزرا اتخذت بها آيات الله هزوا .

25032 - وذكر عبد الرزاق ، عن الثوري ، عن عمرو بن مرة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس مثله .

25033 - وقال عبد الرزاق : أخبرني ابن جريج ، قال : أخبرني عكرمة بن خالد أن سعيد بن جبير أخبره أن رجلا جاء إلى ابن عباس ، فقال : إني [ ص: 14 ] طلقت امرأتي ألفا ، فقال : تأخذ ثلاثا وتدع تسعمائة وسبعا وتسعين .

25034 - قال : وأخبرنا ابن جريج ، قال : أخبرني ابن كثير ، والأعرج ، عن ابن عباس مثله .

25035 - وذكر عبد الرزاق ، عن ابن جريج قال : أخبرني عبد الحميد بن رافع ، عن عطاء - بعد وفاته - أن رجلا قال لابن عباس : رجل طلق امرأته مائة .

قال ابن عباس : يأخذ من ذلك ثلاثا ، ويدع سبعا وتسعين .

25036 - قال أخبرنا معمر ، عن أيوب ، عن عبد الله بن كثير ، عن مجاهد ، قال : سئل ابن عباس عن رجل طلق امرأته عدد نجوم السماء ، قال : يكفيه من ذلك رأس الجوزاء .

25037 - وقال أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثني أبو بكر بن إبراهيم ، عن أيوب ، عن عمرو ، قال : سئل ابن عباس عن رجل طلق امرأته عدد النجوم ، فقال : يكفيه من ذلك رأس الجوزاء .

[ ص: 15 ] 25038 - قال أبو عمر : فهذا سعيد بن جبير ، ومجاهد ، وعطاء ، وعمرو بن دينار ، وغيرهم يروون عن ابن عباس في طلاق الثلاث المجتمعات ، أنهن لازمات واقعات

. 25039 - وكذلك روى عنه محمد بن إياس بن البكير ، والنعمان بن أبي عياش الأنصاري في التي لم يدخل بها أن الثلاث المجتمعات تحرمها ، والواحدة تبينها .

25040 - وسنذكر ذلك في باب طلاق البكر - إن شاء الله - عز وجل .

25041 - وذلك دليل واضح على وهي رواية طاوس عنه ، وضعفها حين روى عنه في طلاق الثلاث المجتمعات ، أنها كانت تعد واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأبي بكر ، وصدر من خلافة عمر .

25042 - قال أبو عمر : ما كان ابن عباس ليخالف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والخليفتين إلى رأي نفسه ، ورواية طاوس ، وهم وغلط ، ولم يعرج عليها أحد من فقهاء الأمصار بالحجاز ، والعراق ، والمغرب ، والمشرق ، والشام .

25043 - وقد قيل : إن أبا الصهباء - مولاه - لا يعرف في موالي ابن عباس وطاوس ، يقول : إن أبا الصهباء - مولاه - سأله عن ذلك ، فأجابه بما وصفنا .

[ ص: 16 ] 25044 - وقد روى معمر ، قال : أخبرني ابن طاوس ، عن أبيه قال : كان ابن عباس إذا سئل عن رجل طلق امرأته ثلاثا ؟ قال : لو اتقيت الله جعل لك مخرجا ، لا يزيده على ذلك .

25045 - وهذه الرواية لطاوس ، عن ابن عباس كرواية سائر أصحاب ابن عباس عنه ; لأن من لا مخرج له ، فقد لزمه من الطلاق ما أوقعه .

25046 - ولو صح عن ابن عباس ما ذكره طاوس عنه ، وذلك لا يصح ; لرواية الثقات الجلة ، عن ابن عباس خلافه ، ما كان قوله حجة على من هو من الصحابة أجل ، وأعلم منه ، وهم : عمر ، وعثمان ، وعلي ، وابن مسعود ، وابن عمر ، وعمران بن حصين ، وغيرهم .

25047 - وقد ذكرنا الرواية عن بعضهم بذلك .

25048 - ذكر أبو بكر بن أبي شيبة ، قال : حدثني وكيع ، عن سفيان ، عن سلمة بن كهيل ، عن زيد بن وهب أن رجلا بطالا كان بالمدينة طلق امرأته ألفا ، فرفع إلى عمر ، فقال : إنما كنت ألعب ، فعلا عمر رأسه بالدرة وفرق بينهما .

25049 - قال : وحدثني وكيع ، عن الأعمش ، عن حبيب ، قال جاء رجل إلى علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - فقال : إني طلقت امرأتي ألفا ، فقال : [ ص: 17 ] بانت منك بثلاث .

25050 - قال : حدثني وكيع ، والفضل بن دكين ، عن جعفر بن برقان ، عن معاوية بن أبي يحيى ، قال : جاء رجل إلى عثمان - رضي الله عنه - فقال : إني طلقت امرأتي مائة ، قال : ثلاث تحرمها عليك ، وسبع وتسعون عدوان .

25051 - قال : وحدثني محمد بن بشير ، عن أبي معشر ، قال : أخبرنا سعيد المقبري ، قال ، جاء رجل إلى عبد الله بن عمر ، وأنا عنده ، فقال : يا أبا عبد الرحمن ! إني طلقت امرأتي مائة مرة ، قال : تأخذ منها ثلاثا ، وسبع وتسعون يحاسبك الله بها يوم القيامة .

25052 - قال : وحدثني غندر ، عن شعبة ، عن طارق ، عن قيس بن أبي حازم أنه سمعه يحدث عن المغيرة بن شعبة أنه سئل عن رجل طلق امرأته مائة ، قال : ثلاثا تحرمها عليك ، وسبع وتسعون فضل .

25053 - وأما الخبر عن ابن مسعود بمثل ما روي عن سائر الصحابة ، فروى وكيع ، عن الثوري ، عن منصور ، والأعمش ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، [ ص: 18 ] قال : جاء رجل إلى عبد الله ، فقال : إني طلقت امرأتي مائة ، قال : بانت منك بثلاث ، وسائرهن معصية .

25054 - ورواه أبو معاوية ، عن الأعمش بإسناده مثله ، قال : وسائرهن عدوان .

25055 - وقال أبو بكر : حدثني محمد بن فضيل ، عن عاصم ، عن ابن سيرين عن علقمة ، عن عبد الله ، قال : أتاه رجل ، فقال : إنه كان بيني وبين امرأتي كلام ، فطلقتها عدد النجوم ، قال : تكلمت بالطلاق ؟ قال : نعم ، فقال عبد الله : قد بين الله الطلاق ، فمن أخذ به ، فقد بين الله له ، ومن لبس على نفسه ، جعلنا به لبسه ، فلا تلبسوا على أنفسكم ، ونحمله عنكم ، هو كما تقولون .

25056 - قال أبو عمر : فهؤلاء الصحابة كلهم قائلون ، وابن عباس معهم بخلاف ما رواه طاوس ، عن ابن عباس .

25057 - وعلى ذلك جماعات التابعين ، وأئمة الفتوى في أمصار المسلمين .

[ ص: 19 ] 25058 - وإنما تعلق برواية طاوس أهل البدع ، فلم يروا الطلاق لازما ، إلا على سنته ، فجعلوا مخالف السنة أخف حالا ، فلم يلزموه طلاقا .

25059 - وهذا جهل واضح ; لأن الطلاق ليس من القرب إلى الله تعالى ، فلا يقع إلا على سنته إلى خلاف السلف والخلف الذين لا يجوز عليهم تحريف السنة ، ولا الكتاب .

25060 - وممن قال بأن الثلاثة في كلمة واحدة تلزم موقعها ، ولا تحل له امرأته حتى تنكح زوجا غيره : مالك ، وأبو حنيفة ، والشافعي ، وأصحابهم ، والثوري ، وابن أبي ليلى ، والأوزاعي ، والليث بن سعد ، وعثمان البتي ، وعبيد الله بن الحسن ، والحسن بن حي ، وأحمد بن حنبل ، وإسحاق ابن راهويه ، وأبو ثور ، وأبو عبيد ، ومحمد بن جرير الطبري .

25061 - وما أعلم أحدا من أهل السنة قال بغير هذا إلا الحجاج بن أرطأة ، ومحمد بن إسحاق ، وكلاهما ليس بفقيه ، ولا حجة فيما قاله .

25062 - قال أبو عمر : ادعى داود الإجماع في هذه المسألة ، وقال : ليس الحجاج بن أرطأة ومن قال بقوله من الرافضة ممن يعترض به على الإجماع ; [ ص: 20 ] لأنه ليس من أهل الفقه .

25063 - حكى ذلك عنه بعض أصحاب داود عنه ، وأنكر ذلك بعضهم عن داود .

25064 - ولم يختلفوا عنه في وقوعها مجتمعات .

25065 - وروى بشر بن الوليد ، عن أبي يوسف ، قال : كان الحجاج بن أرطأة خشيا ، وكان يقول : ليس طلاق الثلاث بشيء .

25066 - وقال أبو عمر : روى ابن إسحاق في ذلك عن داود بن الحصين ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : طلق ركانة بن عبد يزيد امرأته ثلاثا في مجلس واحد ، فحزن عليها حزنا شديدا ، فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كيف طلقتها ؟ قال : طلقتها ثلاثا في مجلس واحد ، قال : إنما تلك واحدة ، فارتجعها إن شئت ، قال : فارتجعها .

25067 - قال : وكان ابن عباس يرى أن السنة التي أمر الله بها في الطلاق أن يطلقها عند كل طهر ، وهي التي كان عليها الناس .

[ ص: 21 ] 25068 - قال ابن إسحاق : فأرى أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما رد عليه امرأته ; لأنه طلقها ثلاثا في مجلس واحد ; لأنها كانت بدعة مخالفة للسنة .

25069 - قال أبو عمر : هذا حديث منكر خطأ ، وإنما طلق ركانة زوجته البتة ، لا كذلك ، رواه الثقات ; أهل بيت ركانة العالمون به ، وسنذكره في هذا الباب .

25070 - وأما مذهب ابن إسحاق ، فهو قول طاوس ، وهو مذهب ضعيف مجهور عند جمهور العلماء .

25071 - وأما حديث طاوس ، فقد ذكرنا أن الجمهور من أصحاب ابن عباس رووا عنه ذلك .

25072 - وهو المأثور عن جماعة الصحابة وعامة العلماء ، وما التوفيق إلا بالله .

التالي السابق


الخدمات العلمية