الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
[ ص: 56 ] ( 3 ) باب ما يبين من التمليك

1128 - مالك ; أنه بلغه أن رجلا جاء إلى عبد الله بن عمر فقال : يا أبا عبد الرحمن ، إني جعلت أمر امرأتي في يدها ، فطلقت نفسها ، فماذا ترى ؟ فقال عبد الله بن عمر : أراه كما قالت . فقال الرجل : لا تفعل يا أبا عبد الرحمن . فقال ابن عمر : أنا أفعل ؟ أنت فعلته .

1129 - مالك ، عن نافع ; أن عبد الله بن عمر كان يقول : إذا ملك الرجل امرأته أمرها ، فالقضاء ما قضت به . إلا أن ينكر عليها ويقول : لم أرد إلا واحدة ، فيحلف على ذلك ، ويكون أملك بها ، ما كانت في عدتها .


25251 - قال أبو عمر : هذا قول مالك ، وأصحابه أن له أن يناكرها ، ويحلف ، فإن نكل عن اليمين لزمه ما طلقت به نفسها .

[ ص: 57 ] 25252 - قال أبو عمر : وفي هذه المسألة للسلف أقوال :

25253 - أحدها : أن القضاء ما قضت ، ولا تنفعه مناكرته إياها .

25254 - ( والثاني ) : أن ذلك مردود في عدة الطلاق إلى نيته ، فإن قال : أردت واحدة كانت واحدة رجعية ، وله أن ينكر عليها أن توقع أكثر من واحدة ; لإرادته للواحدة ، ويحلف أنه ما أراد إلا واحدة .

25255 - ( والثالث ) : أن طلاقها لا يكون إلا واحدة على كل حال ، وهو أملك بها ما دامت في عدتها .

25256 - ( والرابع ) : أنه لا يكون بيد المرأة طلاق الرجل وليس قولها لزوجها : قد طلقت نفسي منك بشيء ، كما لو قالت له : أنت مني طالق ، لم يكن شيئا .

25257 - وهو قول شاذ ، روي عن ابن عباس ، وطاوس .

25258 - والقول الأول روي عن علي - رضي الله عنه - وعن ابن المسيب .

25259 - وبه قال الزهري ، وعطاء ، وطائفة .

25260 - روى الثوري ، عن منصور ، عن الحكم ، عن علي - رضي الله عنه - قال : إذا جعل أمرها بيدها ، فالقضاء ما قضت ، هي وغيرها سواء .

[ ص: 58 ] 25261 - وعن ابن جريج ، قال : أخبرني ابن شهاب قال : سمعت الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة ، يقول : أيما امرأة جعل زوجها أمرها بيدها ، أو بيد وليها ، فطلقت نفسها ثلاث تطليقات فقد برئت منه .

25262 - ومعمر ، عن الزهري ، قال : إن طلقت نفسها ، فالقضاء ما قضت ، إن نوى واحدة ، فواحدة ، وإن اثنتين ، فاثنتين ، وإن ثلاثا ، فثلاثا .

25263 - وعن الزهري ، عن ابن المسيب مثله .

25264 - وابن جريج ، عن عطاء مثله .

25265 - فإن قيل : إنه قد روي عن ابن عمر مثل ذلك ، ولم يذكر مناكرة ، فالجواب أن رواية مالك قد فسرت ما أجمل غيره بقوله : إلا أن ينكر عليها ، فيقول : لم أرد إلا واحدة .

25266 - فهذا هو القول الثاني .

25267 - وأما القول الثالث فقول عمر ، وابن مسعود .

25268 - وروى الثوري ، عن منصور ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، أو الأسود ، عن ابن مسعود أنه جاءه رجل فقال : كان بيني وبين امرأتي بعض ما يكون بين الناس [ ص: 59 ] فقالت لو أن الذي بيدك من أمري بيدي لعلمت كيف أصنع ، فقال : فإن الذي بيدي من أمرك بيدك ، قالت : فأنت طالق ثلاثا ، قال : أراها واحدة ، أنت أحق بها ما دامت في عدتها ، وسألقى أمير المؤمنين عمر ، ثم لقيه فقص عليه القصة ، فقال : فعل الله بالرجال وفعل ; يعمدون إلى ما جعل الله في أيديهم فيجعلونه في أيدي النساء ، بفيها التراب ، ماذا قلت فيها ، قال : قلت أراها واحدة ، وهو أحق بها ، قال : وأنا أرى ذلك ، ولو رأيت غير ذلك ، لرأيت أنك لم تصب .

25269 - روى الثوري ، عن الأعمش ، عن أبي الضحى ، عن مسروق أن رجلا جعل أمر امرأته بيدها ، فطلقت نفسها ثلاثا فسأل عمر عنها ابن مسعود ; ماذا ترى فيها ؟ قال : أراها واحدة ، وهو أحق بها .

قال عمر : وأنا أرى ذلك .

25270 - وروي عن زيد بن ثابت مثل ذلك ، رواه ابن عيينة ، عن أبي الزناد ، عن القاسم بن محمد ، عن زيد بن ثابت أنه قال في رجل جعل أمر امرأته بيدها ، فطلقت نفسها ثلاثا قال : هي واحدة .

25271 - وأما قول ابن عباس ، وطاوس ; فروى ابن جريج ، قال : أخبرني أبو الزبير أن مجاهدا أخبره أن رجلا جاء ابن عباس ، فقال : ملكت امرأتي أمرها ، [ ص: 60 ] فطلقتني ثلاثا ، قال خطأ الله نوءها ، إنما الطلاق لك عليها ، وليس لها عليك .

25272 - قال ابن جريج : وأخبرني ابن طاوس ، عن أبيه ، وقلت له : كيف كان أبوك يقول في رجل ملك امرأته أمرها : أتملك أن تطلق نفسها ؟ فقال : كان يقول : ليس إلى النساء طلاق .

25273 - قال أبو عمر : قد روي خبر ابن عباس على غير ما ذهب إليه طاوس .

25274 - وروى ابن جريج ، عن عطاء ، عن ابن عباس : أن امرأة ملكها زوجها أمر نفسها ، فقالت أنت الطلاق ، وأنت الطلاق ، وأنت الطلاق ، فقال : ابن عباس : خطأ الله نوءها ألا قالت : أنا طالق ، أنا طالق .

25275 - وهذه مسألة أخرى قد ذهب إليها طائفة من الفقهاء في المملكة ، قالوا : إذا قالت لزوجها : أنت طالق لم يقع طلاق حتى يقول : أنا منك طالق .

25276 - وذهب جماعة إلى أن ذلك بمعنى واحد ، وأنه يقع الطلاق بقولها لزوجها : أنت طالق ، كما يقع بقولها : أنا طالق منك .

[ ص: 61 ] 25277 - وأما أقاويل أئمة الفتوى بالأمصار في التمليك .

25278 - يقول مالك : ما ذكره في موطئه ما ذكرناه في هذا الباب ، ومذهبه في التخير خلاف مذهبه في التمليك ، ويأتي في باب الخيار من هذا الكتاب ، وهناك نذكر مذاهب السلف من الخيار - إن شاء الله تعالى .

25279 - وقال الشافعي : اختاري أمرك بيدك ، سواء ليس بشيء من ذلك بطلاق ، إلا أن يريد الزوج بقوله ذلك الطلاق .

فإن أراد الطلاق ، فهو ما أراد من الطلاق .

فإن أراد واحدة ، فهي رجعية ، ولو أراد الطلاق ، فقالت : قد اخترت نفسي ، فإن أراد الطلاق ، فهو الطلاق ، وإن لم يرده ، فليس بطلاق .

25280 - وقال أبو حنيفة ، وأصحابه في أمرك بيدك : إذا طلقت نفسها ، فهي واحدة بائنة إلا أن تنوي ثلاثا ، فيكون ثلاثا .

قال : والخيار لا يكون طلاقا ، وإن نواه .

25281 - وقال الثوري : أمرك بيدك مثل الخيار ، فإن اختارت نفسها ، فواحدة بائنة .

25282 - وكل هؤلاء ; التمليك والتخيير عندهم سواء .

25283 - وقال عثمان البتي في أمرك بيدك : القضاء ما قضت ، إلا أن يحلف [ ص: 62 ] أنه لم يرد إلا واحدة ، أو اثنتين نحو قول مالك .

25284 - وهو قول عبيد الله بن الحسن .

25285 - وقال ابن أبي ليلى في أمرك بيدك : هي ثلاث ، ولا يسأل الزوج عن نفسه .

25286 - وقال الأوزاعي في أمرك بيدك : القضاء ما قضت واحدة ، أو اثنتين ، أو ثلاثا .

25287 - وقال إسحاق : إذا ملكها أمرها ، فإن قال : لم أرد إلا واحدة حلف على ذلك ، ويكون أملك بها .

25288 - وقال أحمد : إن أنكر لم يقبل منه ، والقضاء ما قضت .

25289 - قال أبو عمر : كل هؤلاء يقولون : إذا ردت الأمر إلى زوجها ولم تقض بشيء ، ولم يرد طلاقها ، فلا طلاق ، والله الموفق .

التالي السابق


الخدمات العلمية