الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
137 [ ص: 215 ] ( 27 ) باب المستحاضة

111 - مالك ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة زوج النبي [ ص: 216 ] - صلى الله عليه وسلم - أنها قالت : قالت فاطمة بنت أبي حبيش : يا رسول الله ! إني لا أطهر ، أفأدع الصلاة ؟ فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إنما ذلك عرق ، وليست بالحيضة ؛ فإذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة . فإذا ذهب قدرها ، فاغسلي الدم عنك وصلي " .


[ ص: 217 ] 3510 - ولم يختلف رواة مالك في إسناده ولفظه . ورواه محمد بن كناسة عن هشام عن أبيه عن عائشة .

3511 - قال سفيان : وتفسيره إذا رأت الدم بعد ما تغسل الدم فقط .

3512 - وقد رواه حماد بن زيد عن هشام بإسناده ، فجود لفظه ، قال : فإذا أدبرت الحيضة فاغسلي عنك أثر الدم وتوضئي ، فقيل لحماد : فالغسل ؟ قال : ومن يشك أن في ذلك غسلا واحدا بعد الحيضة .

3513 - وقال حماد : قال أيوب : أرأيت لو خرج من جنبها دم أتغتسل ؟ .

3514 - وقال فيه أبو حنيفة عن هشام بإسناده : فإذا أدبرت فاغتسلي لطهرك .

3515 - وقال فيه أبو معاوية عن هشام بإسناده : وإذا أدبرت فاغسلي .

3516 - قال هشام : قال أبي : ثم تتوضأ لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت .

3517 - وكان ابن عيينة يقول فيه عن هشام مرة : فإذا أدبرت فاغتسلي وصلي ، ومرة قال : اغسلي عنك الدم وصلي ، ومرة قال : كذا ، أو كذا .

3518 - وقال فيه حماد بن سلمة عن هشام بإسناده : فإذا ذهب قدرها فاغسلي عنك الدم ، وتطهري ، وصلي .

3519 - قال حماد : قال هشام : كان عروة يقول : الغسل الأول ، ثم الطهر لكل صلاة .

3520 - وقال فيه يحيى بن هاشم ، عن هشام بن عروة بإسناده : فإذا أدبرت [ ص: 218 ] فاغسلي عنك الدم ، وتوضئي لكل صلاة وصلي .

3521 - وقد ذكرنا أسانيد هذه الأحاديث ومتونها في التمهيد ، وذكرنا الاختلاف على الزهري فيه في قصة أم حبيبة بنت جحش واستحاضتها .

3522 - وكلهم يقول في حديث هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة : إن النبي - عليه السلام - قال لفاطمة بنت أبي حبيش : إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة .

3523 - وهذا نص ثابت عنه - عليه السلام - في أن الحيض يمنع من الصلاة .

3524 - وهذا إجماع من علماء المسلمين ، نقلته الكافة ، كما نقلته الآحاد العدول . ولا مخالف فيه إلا طوائف من الخوارج ، يرون على الحائض الصلاة .

3525 - وأما علماء السلف والخلف وأهل الفتوى بالأمصار ، فكلهم على أن الحائض لا تصلي ولا تقضي الصلاة أيام حيضها ، إلا أن من السلف من كان يرى للحائض ، ويأمرها أن تتوضأ عند وقت الصلاة ، وتذكر الله ، وتستقبل القبلة ، ذاكرة لله ، جالسة .

3526 - وروى خالد ، عن عقبة بن عامر ، ومكحول ، قال مكحول : كان ذلك من هدي نساء المسلمين في أيام حيضهن .

3527 - ذكر عبد الرزاق ، قال : قال معمر : بلغني أن الحائض كانت تؤمر بذلك عند وقت كل صلاة .

3528 - وابن جريج عن عطاء قال : لم يبلغني ذلك ، وإنه لحسن .

3529 - قال أبو عمر : هو أمر متروك عند جماعة الفقهاء بل يكرهونه .

[ ص: 219 ] 3530 - ذكر دحيم ، قال حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري ، عن سليمان التيمي ، قال : سئل أبو قلابة عن الحائض إذا حضرت الصلاة : أتتوضأ وتذكر الله ؟ فقال أبو قلابة : قد سألنا عنه فلم نجد له أصلا .

3531 - قال دحيم : وحدثنا الوليد بن مسلم ، قال : سألت سعيد بن عبد العزيز عن الحائض : أنها إذا كان وقت صلاة مكتوبة توضأت ، واستقبلت القبلة ، فذكرت الله ، في غير صلاة ولا ركوع ولا سجود . قال : ما نعرف هذا ، ولكنا نكرهه .

3532 - وقال معمر : قلت لابن طاوس : أكان أبوك يأمر الحائض عند وقت كل صلاة بطهر وذكر ؟ قال : لا .

3533 - وعلى هذا القول جماعة الفقهاء وعامة العلماء اليوم في الأمصار .

3534 - قال دحيم : وحدثنا سعيد بن منصور : قال حدثنا حماد بن زيد ، عن يزيد الرشك ، عن معاذة ، عن عائشة أن امرأة سألتها : أتقضي المرأة صلاة أيام حيضتها ؟ قالت : أحرورية أنت ؟ كانت إحدانا على عهد رسول الله تحيض ، فلا تؤمر بقضاء الصلاة .

[ ص: 220 ] 3535 - وذكر عبد الرزاق ، عن معمر ، عن عاصم الأحول ، عن معاذة العدوية قالت : سألت عائشة ، فقلت : ما بال الحائض تقضي الصوم ، ولا تقضي الصلاة ؟ فقالت : أحرورية أنت ؟ قلت : لست بحرورية ولكني أسأل . قالت : قد كان يصيبنا ذلك مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنؤمر بقضاء الصوم ، ولا نؤمر بقضاء الصلاة .

3536 - وروى قتادة وأبو قلابة عن معاذة العدوية عن عائشة مثله .

3537 - رواه شعبة ، وسعيد ، وغيرهما عن قتادة ، وحماد بن زيد ، عن أيوب ، عن أبي قلابة .

3538 - وذكر عبد الرزاق ، عن معمر ، عن أيوب عن أبي قلابة ، عن معاذة ، عن عائشة مثله .

3539 - وذكر ابن جريج عن عطاء قال : قلت : أتقضي الحائض الصلاة ؟ قال : لا ، ذلك بدعة .

3540 - وعن معمر ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن عكرمة مثله سواء .

3541 - وعن معمر ، عن الزهري قال : الحائض تقضي الصوم ، ولا تقضي الصلاة . قلت : عمن ؟ قال : اجتمع الناس عليه ، وليس في كل شيء تجد الإسناد .

[ ص: 221 ] 3542 - وعن الثوري ، عن رجل ، عن إبراهيم ، عن عائشة قالت : كنا عند رسول الله ، فلم يأمر امرأة منا أن تقضي الصلاة .

3543 - وقال دحيم : وحدثنا يعلى بن عبيد ، عن عبيدة ، عن إبراهيم ، عن الأسود عن عائشة قالت : كنا نحيض على عهد النبي - عليه السلام - فما يأمر امرأة منا برد الصلاة .

3544 - وقال عجلان أبو غالب : سألت ابن عباس عن النفساء والحائض هل تقضيان الصلاة إذا طهرتا ؟ قال : هؤلاء نساء النبي - عليه السلام - لو فعلن ذلك أمرنا نساءنا به .

3545 - وروينا عن حذيفة أنه قال : ليكونن قوم في آخر هذه الأمة يكذبون أولاهم ويلعنونهم ، ويقولون : جلدوا في الخمر ، وليس ذلك في كتاب الله ، ورجموا وليس ذلك في كتاب الله ، ومنعوا الحائض الصلاة ، وليس ذلك في كتاب الله .

3546 - وهذا كله قد قال به قوم من غالية الخوارج ، على أنهم اختلفوا فيه أيضا ، وكلهم أهل زيغ وضلال ، أما أهل السنة والحق فلا يختلفون في شيء من ذلك ، والحمد لله .

3547 - وفي حديث مالك عن هشام بن عروة في هذا الباب دليل على أن المستحاضة لا يلزمها غير ذلك الغسل لأن رسول الله لم يأمرها بغيره ، ولو لزمها غيره لأمرها به .

[ ص: 222 ] 3548 - وفي ذلك رد لقول من رأى عليها الغسل لكل صلاة ، ولقول من رأى عليها أن تجمع بين صلاتي النهار بغسل واحد ، وصلاتي الليل بغسل واحد ، وتغتسل للصبح ؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يأمرها بشيء من ذلك كله في حديث هشام هذا ، ولا صح ذلك عنه في غيره .

3549 - وحديث هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة هذا أصح ما روي في هذا الباب ، وهو يدفع الغسل الذي وصفنا .

3550 - وفيه رد لقول من قال بالاستطهار يوما ويومين ، وثلاثة ، وأقل ، وأكثر ؛ لأنه أمرها إذا علمت أن حيضتها قد أدبرت وذهبت أن تغتسل وتصلي ، ولم يأمرها أن تترك الصلاة ثلاثة أيام ، لانتظار حيض يجيء أو لا يجيء .

3551 - والاحتياط إنما يجب في عمل الصلاة لا في تركها .

3452 - ولا يخلو قوله - عليه السلام - في الحيضة : إذا ذهب قدرها أن يكون أراد انقضاء أيام حيضتها لمن تعرف الحيضة وأيامها ، أو يكون أراد انفصال دم الحيض من دم الاستحاضة لمن تميزه ، فأي ذلك كان فقد أمرها عند ذهاب حيضتها أن تغتسل وتصلي ، ولم يأمرها باستطهار .

3553 - وقال أيضا من نفى الاستطهار : السنة تنفي الاستطهار ؛ لأن أيام دمها جائز أن تكون استحاضة ، وجائز أن تكون حيضا . والصلاة فرض بيقين ، فلا يجوز أن تدعها حتى تستيقن أنها حائض .

3554 - وذكروا أن مالكا وغيره من العلماء قالوا : لأن تصلي المستحاضة وليس عليها ذلك خير من أن تدع الصلاة وهي واجبة عليها ؛ لأن الواجب الاحتياط للصلاة ، [ ص: 223 ] فلا تترك إلا بيقين لا بالشك فيه .

3555 - وقال بعض أصحابنا : في هذا الحديث دليل على صحة الاستطهار ، لقوله - عليه السلام - للمستحاضة : فإذا ذهب قدرها - يعني الحيض - لأن قدر الحيض قد يزيد مرة ، وينقص أخرى ، فلهذا رأى مالك الاستطهار ؛ لأن الحائض يجب ألا تصلي حتى تستيقن زواله والأصل في الدم الظاهر من الرحم أنه حيض .

3556 - ولهذا أجمع الفقهاء على أن يأمروا المبتدأة بالدم بترك الصلاة في أول ما ترى الدم .

3557 - وكان أقصى الحيض عند مالك خمسة عشر يوما ، فكان يقول في المبتدأة وفي التي أيامها معروفة فيزيد حيضها : إنهما تقعدان إلى كمال خمسة عشر يوما ، فإذا زاد فهو استحاضة ، ثم رجع في التي لها أيام معروفة - أن تستطهر بثلاثة أيام على عادتها ما لم تجاوز خمسة عشر يوما احتياطيا للصلاة ، ثم تغتسل بعد ذلك وتصلي .

3558 - وكذلك تستطهر المبتدأة على أيام لداتها بثلاثة أيام ، ما لم تجاوز خمسة عشر يوما ، ثم تغتسل أيضا وتصلي ؛ لأن ما زاد على ذلك دم استحاضة وهو عرق - كما قال عليه السلام - لا يمنع من الصلاة .

3559 - ولا استطهار عند مالك إلا لهاتين المرأتين في هذين الموضعين ، وجعل الاستطهار ثلاثة أيام ليستبين فيها انفصال دم الحيض من دم الاستحاضة استدلالا بحديث [ ص: 224 ] المصراة ، إذ حد فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أيام في انفصال اللبن : لبن التصرية ، من اللبن الطارئ .

3560 - واحتجوا بحديث رواه حرام بن عثمان ، عن ابني جابر عن جابر أن أسماء بنت مرشد الحارثية كانت تستحاض ، فسألت النبي - عليه السلام - عن ذلك ، فقال لها النبي - عليه السلام - : " اقعدي أيامك التي كنت تقعدين ثم استطهري بثلاث ، ثم اغتسلي وصلي .

3561 - ورواه إسماعيل بن إسحاق ، قال حدثنا إبراهيم بن حمزة ، قال : حدثنا عبد العزيز بن محمد الدراوردي ، عن حرام بن عثمان ، عن محمد وعبد الرحمن ابني جابر بن عبد الله عن أبيهما ، عن أسماء بنت مرشد كانت تستحاض ، فذكر معنى ما ذكرنا .

[ ص: 225 ] 3562 - وهذا حديث لا يوجد إلا بهذا الإسناد .

3563 - وحرام بن عثمان المدني متروك الحديث مجتمع على طرحه لضعفه ونكارة حديثه حتى لقد قال الشافعي : الحديث عن حرام بن عثمان حرام .

3564 - وقال بشر بن عمر : سألت مالك بن أنس عن حرام بن عثمان ، فقال : ليس ثقة .

3565 - وقد مضى اختلاف قول مالك وأصحابه في الحامل ترى الدم : هل تستطهر أم لا ؟ في صدر هذا الباب .

3566 - وأما قوله : فإذا أدبرت الحيضة فاغسلي عنك الدم وصلي فقد تقدم من رواية الثوري ، ومحمد بن زيد ، وحماد بن سلمة ، وغيرهم ما يفسر ذلك ، وهو أن تغتسل عند إدبار الحيضة وإقبال استحاضتها كما تغتسل الحائض عند رؤية طهرها ؛ لأن المستحاضة طاهر ودمها دم عرق كدم الجرح السائل والخراج وذلك لا يوجب طهارة ، إذ لا يمنع من صلاة ، وهذا إنما يكون في امرأة تعرف دم حيضتها من دم استحاضتها .

3567 - وليس في حديث مالك هذا ذكر الوضوء لكل صلاة المستحاضة وقد [ ص: 226 ] ذكرناه في هذا الحديث عنده ، فلذلك كان مالك يستحبه لها ، ولا يوجبه عليها ، كما لا يوجبه على من سلس بوله فلم ينقطع عنه .

3568 - وممن أوجب الوضوء لكل صلاة على المستحاضة سفيان الثوري ، وأبو حنيفة وأصحابه ، والليث بن سعد والشافعي وأصحابه ، والأوزاعي وهؤلاء كلهم ومالك معهم لا يرون على المستحاضة غسلا غير مرة واحدة عند إدبار حيضتها ، وإقبال استحاضتها ، ثم تغسل عنها الدم ، وتصلي ولا تتوضأ إلا عند الحدث عند مالك وهو قول عكرمة ، وأيوب السختياني .

3569 - وكذلك التي تقعد أيامها المعروفة ، ثم تستطهر عند مالك ، أو لا تستطهر عند غيره .

3570 - وتغتسل أيضا عند انقضاء أيامها واستطهارها ولا شيء عليها إلا أن تحدث حدثا يوجب الغسل أو الوضوء عند مالك ، ومن قال بقوله .

3571 - وأما عند الشافعي ، وأبي حنيفة ، والثوري فتتوضأ لكل صلاة على حسب ما ذكرنا عنهم فيما سلف من كتابنا في سلس البول ، وذلك واجب عليها عندهم .

3572 - وذهبت طائفة إلى أن الغسل لكل صلاة واجب عليها ؛ لأحاديث رووها بذلك ، قد ذكرناها في التمهيد .

[ ص: 227 ] 3573 - قالوا : لأنه لا يأتي عليها وقت صلاة إلا وهي فيه شاكة : هل هي حائض أو طاهر ، مستحاضة ؟ أو هل طهرت في ذلك الوقت بانقطاع دم حيضتها أم لا ؟ فواجب عليها الغسل للصلاة .

3574 - قالوا : ولو شاء الله لابتلاها بأشد من هذا .

3575 - ورووا هذا عن علي ، وابن عباس ، وابن الزبير ، وسعيد بن جبير .

3576 - وقد ذكرنا الأسانيد عنهم بذلك في التمهيد .

التالي السابق


الخدمات العلمية