الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
مسألة من الإيلاء 25411 - قال مالك ، في الرجل يولي من امرأته ، فيوقف ، فيطلق عند انقضاء الأربعة الأشهر ، ثم يراجع امرأته : أنه إن لم يصبها حتى تنقضي عدتها ، فلا سبيل له إليها ، ولا رجعة له عليها . إلا أن يكون له عذر ، من مرض أو سجن ، أو ما أشبه ذلك من العذر ، فإن ارتجاعه إياها ثابت عليها . فإن مضت عدتها ثم تزوجها بعد ذلك ، فإنه إن لم يصبها حتى تنقضي الأربعة الأشهر ، وقف أيضا فإن لم يفئ دخل عليه الطلاق بالإيلاء الأول . إذا مضت الأربعة الأشهر . ولم يكن له عليها رجعة . لأنه نكحها ثم طلقها قبل أن يمسها . فلا عدة له عليها ، ولا رجعة .

قال مالك ، في الرجل يولي من امرأته ، فيوقف بعد الأربعة الأشهر ، فيطلق ، ثم يرتجع ولا يمسها ، فتنقضي أربعة أشهر قبل أن تنقضي عدتها : إنه لا يوقف ، ولا يقع [ ص: 96 ] عليه طلاق . وإنه إن أصابها قبل أن تنقضي عدتها ، كان أحق بها . وإن مضت عدتها قبل أن يصيبها ، فلا سبيل له إليها . وهذا أحسن ما سمعت في ذلك .


25412 - قال أبو عمر : أما قوله : إنه لم يمسها حتى تنقضي عدتها ، فلا سبيل له إليها ، ولا رجعة له عليها .

25413 - ولا أعلم أحدا شرط في صحة الرجعة الجماع إلا مالكا - رحمه الله - ويجعله إذا لم يطأ في حكم المولي ، كما أنه لو قال لأجنبية : والله لئن تزوجتك لا أطأنك ، ثم تزوجها كان موليا عنده .

25414 - وكذلك لو قال : إن تزوجتك فأنت طالق ، فإنها تطلق عنده إذا تزوجها ، ولا يسقط عنه الطلاق الإيلاء .

25415 - ودليل ذلك على أن اليمين عليه باقية ، وأنه مذ وطئها بعد النكاح الجديد حنث كالموالي قبل النكاح الجديد ، ولا يسقط الإيلاء إلا الجماع لمن قدر عليه . وإن عجز عنه بعذر مانع مثل السجن الذي لا يصل معه إليها ، أو المرض المانع المذنب له من وطئها ، أو البعد من السفر ، كان مبيته عنده كفارته بيمينه إن كان ممن يكفر ، إذ بان عذره .

25416 - قال : ومما تعرف به فيئة المريض أن يكفر ، فتسقط يمينه ، [ ص: 97 ] وإن كانت ممن يكفر إذ قد بان عذره ، وكذلك المسجون ، والغائب .

25417 - وإن كانت اليمين لا تكفر ، فنيته بالقول ، فمتى زال العذر عاد الحكم .

25418 - هذا كله تحصيل مذهب مالك .

25419 - وأما غيره من العلماء ، فالطلاق عندهم من السلطان ، أو انقضاء الأربعة الأشهر عند من أوقع الطلاق بانقضائها ، كالفيئة ; لما في الفيئة من الحنث ، بدليل قول الله عز وجل : فإن فاءوا [ البقرة : 226 ] أي رجعوا إلى الجماع الذي حلفوا عليه ، فحنثوا أنفسهم ، أو عزموا الطلاق ، فبرئوا .

25420 - فإذا وقع الطلاق لم يعد الإيلاء إلا بيمين أخرى ; لأن الحنث بالفيئة قد وقع ، ولا يحنث مرتين .

25421 - وكذلك قال ابن عباس ، وجابر بن زيد ، وعطاء ، والحسن ، وإبراهيم ، والشعبي ، وقتادة ، وغيرهم من العلماء ; لا إيلاء إلا بيمين .

25422 - ولا يرون الممتنع من الوطء بلا يمين موليا .

[ ص: 98 ] 25423 - والإيلاء مصدر أولى إيلاء ، وألية .

25424 - والألية : اليمين وجمعها الآلاء .

25425 - قال كثير يمدح عمر بن عبد العزيز :


قليل الألاء حافظ ليمينه وإن بدرت منه الألية برت

25426 - وقد اختلف الفقهاء فيمن طلق ثلاثا بعد الإيلاء ، ثم تزوجها بعد زوج :

25427 - فقال مالك : يكون موليا .

25428 - وهو قول حماد بن أبي سليمان ، وزفر .

25439 - وقال أبو حنيفة ، وأبو يوسف ، ومحمد : لا يكون موليا وإن قربها كفر يمينه .

25430 - وهو قول الثوري .

25431 - وقال الشافعي في موضع : إذا بانت المرأة ، ثم تزوجها كان موليا ، وفي موضع آخر : لا يكون موليا .

25432 - واختاره المزني ; لأنها صارت في حال لو طلقها لم يقع طلاقه عليها .

[ ص: 99 ] 25433 - وقال ابن القاسم : إذا آلى وهي صغيرة لم يجامع مثلها لم يكن موليا حتى تبلغ الوطء ، ثم يوقف بعد مضي أربعة أشهر منذ بلغت الوطء .

25434 - وهو قول ابن القاسم ، ولم يروه عن مالك .

25435 - قال : ولا يوقف الخصي وإنما يوقف من يقدر على الجماع .

25436 - وقال الشافعي : إذا لم يبق للخصي ما ينال به من المرأة ما يناله الصحيح بمغيب الحشفة ، فهو كالمجبوب فاء بلسانه ، ولا شيء عليه غيره ; لأنه ممن لا يجامع مثله .

25437 - وقال في موضع آخر : لا إيلاء على مجبوب .

25438 - واختاره المزني .

25439 - وأما اختلافهم في المولي العاجز عن الجماع ، فقد مضى قول مالك ، ومذهبه في ذلك .

25440 - وقال في المسافر : إذا طالبته امرأته كتب موضعه ، فيوقف ليفيء ، أو ليطلق ، أو يطلق عليه .

25441 - وقال أبو حنيفة ، وأصحابه : إذا آلى ، وهو مريض ، أو بينها وبينه ، مسيرة أربعة أشهر ، أو كانت رتقاء ، أو صغيرة ، ففيه الرضا بالقول إذا دام به العذر حتى تمضي المدة ، فإن قدر في المدة على الجماع لزمه الجماع .

[ ص: 100 ] 25442 - قالوا : ولو كان أحدهما محرما بالحج ، وبينه وبين وقت الحج أربعة أشهر لم يكن فيؤه إلا بالجماع ، وكذلك المحبوس .

25443 - وقال زفر : فيؤه بالقول .

25444 - وقال الثوري في رواية الأشجعي عنه : إذا كان للمولي عذر من مرض ، أو كبر ، أو حبس ، أو كانت حائضا ، أو نفساء ، فليفئ بلسانه ، يقول : قد فئت ، ويجزئه ذلك .

25445 - وهو قول الحسن بن حي .

25446 - وقال الأوزاعي : إذا آلى من امرأته ، ثم مرض ، أو سافر ، فأشهد على الفيء من غير جماع ، وكان لا يقدر على الجماع ، وقد فاء ، فليكفر عن يمينه ، وهي امرأته .

25447 - وكذلك إن ولدت في الأربعة الأشهر ، أو حاضت ، أو طرده السلطان ، فإنه يشهد على الفيء ، ولا إيلاء عليه .

25448 - وقال الليث بن سعد : إذا مرض بعد الإيلاء ، ثم مضت أربعة أشهر ، فإنه يوقف كما يوقف الصحيح ، فإما فاء ، وإما طلق ، ولا يؤخر إلى أن يصح .

25449 - وقال المزني عن الشافعي : إذا آلى المجبوب ، ففيؤه باللسان .

25450 - قال : وقال في كتاب الإيلاء : لا إيلاء على مجبوب .

[ ص: 101 ] 25451 - قال : ولو كانت صبية ، فآلى منها استأنف لها أربعة أشهر بعدما تصير في حال يمكن جماعها .

25452 - قال : ولو أحرم بالحج لم يكن فيؤه إلا بالجماع ، فإن وطئ فسد حجه .

25453 - قالوا : ولو آلى ، وهي بكر ، فقال : لا أقدر على افتضاضها أجل أجل العنين .

25454 - قال : وإذا كان ممن لا يقدر على الجماع ، وفاء بلسانه ، ثم قدر ، وقف حتى يفيء ، أو يطلق .

25455 - قال : وإذا كانت حائضا ، أو محرمة ، لم يلزمه الفيء حتى تحل إصابتها .

25456 - وقال في موضع آخر : إذا حبس استأنف أربعة أشهر ، وإن كان بينهما مسيرة أربعة أشهر ، فطالبه الوكيل ، فاء بلسانه ، وسار إليها كيف أمكنه ، وإلا طلقت عليه .

25457 - قال أبو عمر : لم يختلف العلماء من السلف ، والخلف ، أن قول الله تعالى : فإن فاءوا [ البقرة : 226 ] هو الجماع لمن قدر عليه فصار بإجماعهم على ذلك من المحكم .

[ ص: 102 ] 25458 - واختلفوا في معنى قوله - عز وجل : وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم [ البقرة : 227 ] .

25459 - وعلى حسب اختلافهم الذي ذكرنا عنهم جاءت فروع مذاهبهم على ما وصفنا .

25460 - وجمهور العلماء على أن المولي إذا فاء بالوطء ، وحنث نفسه ، فعليه الكفارة إلا رواية عن إبراهيم ، والحسن أنه لا كفارة عليه إذا فاء ; لأن الله - عز وجل - قد غفر له ، ورحمه .

25461 - وهذا مذهب في الأيمان لبعض التابعين في كل من حلف على بر ، أو تقوى ، أو باب من أبواب الخير ألا يفعله ، فإنه يفعله ، ولا كفارة عليه .

25462 - وهو مذهب ضعيف ترده السنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم على من حلف على يمين ، فرأى غيرها خيرا منها ، فليأت الذي هو خير ، وليكفر عن يمينه ، فلم يسقط عنه - بإتيانه الخير - ما لزمته من الكفارة .

التالي السابق


الخدمات العلمية