الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
138 114 - مالك ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ؛ أنه قال : ليس على المستحاضة إلا أن تغتسل غسلا واحدا ، ثم تتوضأ بعد ذلك لكل صلاة .

3607 - قال مالك : الأمر عندنا في المستحاضة ؛ على حديث هشام بن عروة عن أبيه . وهو أحب ما سمعت إلي في ذلك .

115 - وأما حديث مالك ، عن نافع ، عن سليمان بن يسار ، عن أم سلمة ، زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أن امرأة كانت تهراق الدماء في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاستفتت لها أم سلمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : " لتنظر إلى عدد الليالي والأيام التي كانت تحيضهن من الشهر قبل أن يصيبها الذي أصابها ، فلتترك الصلاة قدر ذلك من الشهر . فإذا خلفت ذلك فلتغتسل ، ثم لتستثفر بثوب ، ثم لتصلي .


[ ص: 235 ] 3608 - فقد ذكرنا في التمهيد اختلاف الناس في هذا الحديث في إسناد ألفاظه :

3609 - فمن ذلك أن الليث بن سعد رواه عن نافع ، فأدخل بين سليمان بن يسار وأم سلمة رجلا لم يسمه .

3610 - وكذلك رواه أنس بن عياض ، عن عبد الله بن عمر ، عن نافع ، عن سليمان ، عن رجل من الأنصار ، عن أم سلمة .

3611 - وقال فيه أيوب السختياني : إن المرأة التي استفتت لها أم سلمة عن استحاضتها هي فاطمة بنت أبي حبيش المذكورة في حديث هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة على ما رواه مالك وغيره ، عن هشام في هذا الباب .

3612 - حدثنا سعيد بن نصر ، وعبد الوارث بن سفيان ، قالا حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال حدثنا محمد بن إسماعيل بن يوسف ، قال حدثنا الحميدي ، قال حدثنا سفيان ، قال حدثنا أيوب السختياني ، عن سليمان بن يسار : أنه سمعه يحدث عن أم سلمة . قالت : كانت فاطمة بنت أبي حبيش تستحاض ، فسألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : إنه ليس بالحيضة ، ولكنه عرق ، وأمرها أن تدع الصلاة قدر إقرائها أو قدر حيضتها ثم تغتسل . فإن غلبها الدم استثفرت بثوب وصلت .

3613 - وقد مضى القول في حديث هشام بن عروة ونذكرها هنا ما يوجب القول في حديث نافع هذا ؛ لأنه عندنا حديث آخر .

[ ص: 236 ] 3614 - وذلك أن حديث هشام في امرأة عرفت إقبال حيضتها من إدبارها ، فأجابها رسول الله على ذلك ، وحديث نافع في امرأة كانت لها أيام معروفة فزادها الدم ، وأطبق عليها ، ولم تميز إقبال دم الحيضة من إدباره وانقطاعه ، وإقبال دم الاستحاضة ، فأمرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تترك الصلاة قدر أيامها التي كانت تحيضهن من الشهر . ثم تغتسل ، ولم تذكر لها أيضا استطهارا .

3615 - والقول في الاستطهار هنا كالقول الذي مضى في حديث هشام سواء .

3616 - وقال أحمد بن حنبل في الحيض ثلاثة أحاديث : اثنان ليس في نفسي منهما شيء :

3617 - ( أحدهما ) حديث هشام ، عن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة في قصة فاطمة بنت أبي حبيش .

3618 - ( والثاني ) حديث نافع عن سليمان بن يسار ، عن أم سلمة .

3619 - وأما ( الثالث ) الذي في قلبي منه شيء ، فحديث حمنة بنت جحش ، رواه عبد الله بن محمد بن [ ص: 237 ] عقيل ، عن إبراهيم بن محمد بن طلحة ، عن عمه عمران بن طلحة ، عن أمه حمنة [ ص: 238 ] بنت جحش ، وقد ذكرناه في التمهيد .

3620 - فجعل أحمد حديث نافع عن سليمان بن يسار غير حديث هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة .

3621 - وقال مع أحمد جماعة غيره ، فلذلك قلنا : إنهما حديثان في معنيين مختلفين على ما وصفنا .

3622 - وأما حديث مالك عن سليمان بن يسار فمعناه عند أهل العلم أنها كانت امرأة لا ينقطع دمها ، ولا ينفصل ، ولا ترى منه طهرا . وقد زادها - على ذلك - على أيام كانت لها معروفة ، وتمادى بها . فسألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك ؛ لتعلم : هل حكم ذلك الدم كحكم دم الحيض ؟ إذا كانت عندها وعند غيرها عادة دم الحيض : أنه ينقطع . فأجابها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأمرها إذا انقضت أيامها أو عدد أيامها أن تغتسل وتستثفر ، وتصلي .

3623 - وأجمع العلماء على أن للدماء الظاهرة من الأرحام ثلاثة أحكام :

3624 - ( أحدها ) دم الحيض يمنع الصلاة ، وتسقط الصلاة مع وجوده من غير إعادة لها على ما قدمناه عن جماعة العلماء .

3625 - ( والثاني ) دم النفاس عند الولادة ، وحكمه في الصلاة كحكم دم الحيض بإجماع .

3626 - وقد اختلف العلماء في مقداره كما اختلفوا في مقدار الحيض . وسنبين ذلك كله إن شاء الله .

[ ص: 239 ] 3627 - ( والدم الثالث ) دم ليس بعادة ولا طبع للنساء ، ولا خلقه معروفة منهن ، وإنما هو عرق انقطع وسال دمه ، فهذا حكمه أن تكون المرأة في الأيام التي ينوبها فيها طاهرة . ولا يمنعها من صلاة ، ولا صوم ، ولا يوقف على دم العرق من غيره إلا بمعرفة ما زاد على هذا الحيض بإجماع ، أو ما نقص عنه باختلاف .

3628 - وقد اختلف العلماء في ذلك :

3629 - فأما فقهاء أهل المدينة فيقولون : إن الحيض لا يكون أكثر من خمسة عشر يوما وجائز عندهم أن يكون خمسة عشر يوما فما دون ، وما زاد على خمسة عشر يوما فلا يكون حيضا ، وإنما هو استحاضة وهو دم العرق المنقطع .

3630 - وهذا مذهب مالك وأصحابه في الجملة .

3631 - وقد روي عن مالك أنه لا وقت لقليل الحيض ولا لكثيره ، إلا ما يوجد في النساء ، وأكثر ما بلغه أنه وجد في النساء خمسة عشر يوما .

3632 - والدفعة عنده من الدم حيض تمنع من الصلاة ، ولكن الدفعة وما كان مثلها لا تحسب قرءا في العدة .

3633 - هذا مذهب ابن القاسم ، وأكثر المصريين والمدنيين عنه .

3634 - وقال ابن الماجشون عنه : أقل الحيض خمسة أيام ، وأقل الطهر خمسة أيام ، [ ص: 240 ] وهو قول ابن الماجشون .

3635 - قال أبو عمر : أما أقل الطهر فقد اضطرب فيه قول مالك وأصحابه :

3636 - فروى ابن القاسم عنه : عشرة أيام ، وروى عنه أيضا : أقل الطهر ثمانية أيام ، وهو قول سحنون .

3637 - وقال عبد الملك بن الماجشون ، عبد الملك قال : أقل الطهر خمسة أيام ، ورواه عن مالك ، وإلى هذه الرواية مال بعض البغداديين من المالكيين .

3638 - وقال محمد بن مسلمة : أقل الطهر خمسة عشر يوما ، وهو اختيار أكثر البغداديين من المالكيين ، وهو قول الشافعي ، وأبي حنيفة ، وأصحابهما ، والثوري .

3639 - وهو الصحيح ؛ لأن الله قد جعل عدة ذات الأقراء ثلاثة قروء ، وجعل عدة من لا تحيض من كبر أو صغر ثلاثة أشهر . فكان كل قرء عوضا من شهر ، والشهر يجمع الطهر والحيض . فإذا قل الحيض كثر الطهر ، وإذا كثر الحيض قل الطهر . فلما كان أكثر الحيض خمسة عشر يوما وجب أن يكون أقل الطهر خمسة عشر يوما ليكمل في الشهر الواحد حيض وطهر ، وهو المتعارف في الأغلب من كثرة النساء وجبلتهن مع دلائل القرآن والسنة على ذلك كما ذكرنا .

3640 - وقال ابن أبي عمران عن يحيى بن أكثم : أقل الطهر تسعة عشر يوما .

3641 - واحتج بأن الشهر جعل عدل كل حيضة وطهر في العدة ، والحيض في [ ص: 241 ] العادة أقل من الطهر . فلم يجز أن يكون الحيض خمسة عشر يوما ، ووجب أن يكون عشرة أيام ؛ لأن الناس في أكثر الحيض على هذين القولين . فلما لم تصح الخمسة عشر ؛ لأن العادة في الحيض أن يكون أقل من الطهر صحت العشرة الأيام . وإذا صحت العشرة حيضا كان ما بقي طهرا ، وهو تسعة عشر يوما ؛ لأن الشهر قد يكون تسعة وعشرين .

3642 - وأما اختلافهم مجملا في أقل الحيض وأكثره فكان مالك لا يوقت في قليل الحيض ولا في كثيره .

3643 - وقال : أقله دفقة من دم ، غير أنها لا تعتد بها من طلاق .

3644 - ثم قال : أكثره الحيض خمسة عشر يوما فيما بلغنا .

3645 - وقال محمد بن مسلمة : أكثره خمسة عشر يوما ، وأقله ثلاثة أيام .

3646 - وقال الشافعي : أقله يوم وليلة ، وأكثره خمسة عشر يوما . وقد روي عنه مثل قول مالك : أن ذلك مردود إلى عرف النساء .

3647 - وقال الطبري : أقله يوم ، وأكثره خمسة عشر يوما . فإن تمادى بها الدم خمسة عشر يوما ، وزادها قضت صلاة أربعة عشر يوما .

3648 - وروي عن سعيد بن جبير : إذا زاد على ثلاثة عشر يوما فهو استحاضة .

3649 - وقال أحمد بن حنبل : أقصى ما سمعنا سبعة عشر يوما .

3650 - وكان نساء الماجشون يحضن سبعة عشر يوما .

3651 - وبه قال ابن نافع صاحب مالك .

3652 - وقال أبو ثور مثل قول الشافعي : أقله يوم وليلة ، وأكثره خمسة عشر يوما .

3653 - وبه قال أحمد بن حنبل ، وهو قول عطاء بن أبي رباح .

[ ص: 242 ] 3654 - وقال الأوزاعي : أقل الحيض يوم . 3655 - قال : وعندنا امرأة تحيض غدوة ، وتطهر عشية .

3656 - وقال أبو حنيفة وأصحابه : أقل الحيض ثلاثة أيام . وأكثره عشرة أيام .

3657 - قال أبو عمر : ما نقص عند هؤلاء عن ثلاثة أيام فهو استحاضة ، لا يمنع من الصلاة إلا عند ظهوره ؛ لأنه لا يعلم مبلغ مدته .

3658 - ثم على المرأة قضاء صلاة تلك الأوقات إن كانت أقل من ثلاثة أيام . وكذلك ما زاد على عشرة أيام عند الكوفيين ، وعند الحجازيين على خمسة عشر يوما . فهو استحاضة على ما قدمنا .

3659 - وأما الشافعي والأوزاعي فما كان أقل من يوم أو يوم وليلة فهو استحاضة ، وهو قول الطبري .

3660 - واعتبروا في أقل الطهر ما ذكرنا عنهم : خمسة عشر يوما ، فجعلوا ما دونها كدم متصل .

3661 - وعند محمد بن مسلمة في هذا شيء من خلاف ليس بنا حاجة إلى ذكره .

3662 - فهذه أصولهم ، فقف عليها في مقدار الطهر والحيض ، فلا غنى عنها في المسألة الواردة في الحيضة المنقطعة وفي العدة . فمن قاد أصله فيها كان أسعد بالصواب .

3663 - والمسألة امرأة حاضت يوما أو يومين ، ثم طهرت يوما أو يومين ، فتمادى بها الأمر أياما .

3664 - فأما مالك وأصحابه فقالوا : تجمع أيام الدم بعضها إلى بعض ، وتلغي أيام الطهر ، وتغتسل عند كل يوم ترى فيه الطهر أول ما تراه ، وتصلي ما دامت طاهرة ، [ ص: 243 ] وتكف عن الصلاة في أيام الدم ، وتحصي ذلك . فإذا اجتمع لها من الدم خمسة عشر يوما اغتسلت ، وصلت ، وعلمنا أنها حيضة انقطعت . وإن زادت على خمسة عشر يوما فهي مستحاضة .

3665 - هذه رواية أهل المدينة عن مالك ، وهو قول الشافعي في رواية الربيع وغيره عنه .

3666 - وقال الطحاوي : قد أجمعوا أنه لو انقطع ساعة أو نحوها - أنه كدم متصل ، فكذلك اليوم واليومان ؛ لأنه لا يعتد به من طلاق . وليس الثلاث عنده كاليومين ، وهو قول محمد بن مسلمة .

3667 - وروى ابن القاسم والمصريون عنه : أنها تضم أيام الدم بعضها إلى بعض ، فإن دام ذلك بها أيام عادتها استطهرت بثلاثة أيام على أيام حيضتها ، وإن رأت في أيام الاستطهار طهرا ألغته أيضا ، حتى تحصل لها ثلاثة أيام من الدم للاستطهار . وتصلي ، وتصوم ، ويأتيها زوجها ، وتكون ما جمعته من الدم حيضة واحدة ، ولا تعتد بشيء من أيام الطهر في عدة من طلاق ، وتغتسل كل يوم من أيام طهرها عند انقطاع الدم ؛ لأنها لا تدري لعل الدم لا يرجع إليها .

3668 - وقال محمد بن مسلمة : إذا كان طهرها يوما ، وحيضتها يوما ، فطهرها أقل الطهر ، وحيضتها أقل الحيض ، ولكنه يقطع طهرها وحيضها ، فكأنها قد حاضت خمسة عشر يوما متوالية ، وطهرت خمسة عشر يوما متوالية . فحال الحيضة لا يضرها ، واجتماع الأيام وافتراقها سواء ، ولا تكون هذه مستحاضة .

3669 - فقال محمد بن مسلمة في هذه المسألة بتلفيق الطهر إلى الطهر ، ولم يقله غيره .

[ ص: 244 ] 3670 - وسائر أصحاب مالك إنما يقولون بتلفيق الدم إلى الدم فقط .

3671 - وقال أبو الفرج : ليس بنكير أن تحيض يوما ، وتطهر يوما ، وتنقطع الحيضة عليها . كما لا ينكر أن يتأخر حيضها عن وقته ؛ لأن تأخر بعضه عن اتصاله كتأخره كله فمن أجل ذلك كانت عندنا بالقليل حائضا ، ولم يكن القليل حيضة ؛ لأن الحيضة لا تكون إلا بأن يمضي لها وقت حيض تام وطهر تام ، أقله فيما روي عن عبد الملك خمسة أيام .

3672 - قال : ولو أن قلة الدم تخرجه من أن تكون حيضا لأخرجت من أن تكون دم استحاضة ؛ لأن دم العرق هو استحاضة دون دم العرق الكثير الزائد على ما يعرف .

3673 - قال أبو عمر : راعى عبد الملك ، وأحمد بن المعذل في هذه المسألة ما أصلاه في أن أقل الطهر خمسة أيام .

3674 - وراعى محمد بن مسلمة خمسة عشر يوما .

3675 - وجعل كل واحد منهم ما يأتي من الدم قبل تمام الطهر مضافا إلى الدم الأول ، إلا أن يكون بعد تمام مدة أكثر الحيض ، فيكون حينئذ عرقا ، ولا تترك فيه الصلاة .

3676 - وكذلك يلزم كل من أصل في أقل الطهر وأقل الحيض أصلا بعدة معلومة أن [ ص: 245 ] يكون ما خرج عنها في النقصان والزيادة استحاضة .

3677 - وقد جعل ابن مسلمة أقل الحيض ثلاثة أيام ، وهو قول الكوفيين في أقل الحيض . فيجب أن يكون ما دونه عنده دم عرق واستحاضة .

3678 - وأما مذهب ابن القاسم وروايته وغيره من المصريين عن مالك فعلى ما احتج له أبو الفرج ؛ لأنه جعل اليسير حيضا يمنع من الصلاة ، ولم يجعله حيضة يعتد بها من طلاق ، وهو المشهور من أصل قولمالك .

3679 - وغيره يقول : ما لا يعتد به من عدة الطلاق فليس بحيض ، وإنما هو استحاضة لا يمنع من الصلاة .

3680 - وقد احتج أصحابنا عليهم في غير موضع ، والكلام في الحيض والاستحاضة ، ومقدار الحيض والنفاس بين المختلفين كثير جدا طويل .

3681 - وقد ذكرنا مذاهبهم وأصول أقوالهم ، وأضربنا عن الاعتلال لهم بما ذكروه لأنفسهم ، لما فيه من التطويل والتشغيب ، ولأن الحيض ومقداره ، والنفاس ومدته مأخوذ أصلهما من العادة والعرف ، والآراء والاجتهاد . فلذلك كثر بينهم فيه الاختلاف والتشغيب . وفيما لوحنا به ما يبين لك المراد منه إن شاء الله .

3682 - وقد أوضحنا القول وبسطناه في حكم الحيض والاستحاضة ومهدناه في باب نافع ، وباب هشام بن عروة من التمهيد ، والحمد لله .

3683 - قال أبو عمر : وأما مسألة تقطع الطهر والحيض فهي لمن تدبرها ناقضة لما أصلوه في أقل الحيض والطهر وأكثرهما ، فتدبرها تجدها كذلك إن شاء الله .

التالي السابق


الخدمات العلمية