الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1220 [ ص: 7 ] 21 باب ما جاء في الأقراء وعدة الطلاق وطلاق الحائض

1176 - مالك ، عن نافع : أن عبد الله بن عمر طلق امرأته وهي حائض على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . فسأل عمر بن الخطاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " مره فليراجعها ، ثم يمسكها حتى تطهر ، [ ص: 8 ] ثم تحيض ، ثم تطهر ، ثم إن شاء أمسك بعد . وإن شاء طلق قبل أن يمس ، فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء " .


26601 - هكذا روى هذا الحديث نافع ، عن ابن عمر ، قال به : حتى تطهر ، ثم تحيض ، ثم تطهر .

26602 - كذلك رواه مالك ، وعبد الله بن عمر ، وأيوب ، وابن جريج ، والليث بن سعد ، ومحمد بن إسحاق ، عن نافع ، عن ابن عمر .

[ ص: 9 ] 26603 - ولم يخالفهم في هذا المعنى أحد عن نافع .

26604 - وكذلك رواه ابن شهاب ، عن سالم ، عن ابن عمر ، قال فيه ، كما قال نافع : " حتى تطهر ، ثم تحيض ، ثم تطهر " ، ولم يختلف على ابن شهاب في ذلك .

26605 - وكذلك رواه علقمة ، عن ابن عمر ، قال فيه : حتى تطهر ، ثم تحيض ، ثم تطهر ، إلا أنه لم يقل فيه : قبل أن يمس .

26606 - وكذلك روى عطاء الخراساني ، عن ابن عمر ، عن النبي - [ ص: 10 ] عليه السلام - مثل رواية ابن شهاب ، عن سالم .

26607 - ورواه يونس بن جبير ، وأنس بن سيرين ، وعبد الرحمن بن أيمن ، وسعيد بن جبير ، ويزيد بن أسلم ، وأبو الزبير ، كلهم عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " مره ، فليراجعها حتى تطهر ، ثم إن شاء الله طلق ، وإن شاء أمسك " لم يقولوا : ثم تحيض ، ثم تطهر .

26608 - وكذلك رواه منصور ، عن أبي وائل ، عن ابن عمر .

26609 - وكذلك أيضا رواه محمد بن عبد الرحمن ، عن سالم ، عن ابن عمر ، إلا أن محمد بن عبد الرحمن زاد في هذا الحديث ذكر الحامل ، فقال فيه : إن شاء طلقها طاهرا قبل أن يمس ، أو حاملا .

[ ص: 11 ] [ ص: 12 ] 26610 - وقد ذكرنا الآثار بذلك كله في " التمهيد " .

26611 - ولا نعلم خلافا أن طلاق الحامل إذا تبين حملها طلاق سنة إذا طلقها واحدة ، وأن الحمل كله موضع للطلاق .

26612 - قال ابن أبي ذئب : سألت الزهري عن ذلك ؟ فقال : حملها كله وقت لطلاقها .

26613 - ولم يختلفوا في ذلك .

26614 - والأصل فيه ما حدثني سعيد ، وعبد الوارث ، قالا : حدثني قاسم ، قال : حدثني محمد ، قال : حدثني أبو بكر ، قال : حدثني وكيع ، عن سفيان ، عن محمد بن عبد الرحمن - مولى آل طلحة ، عن سالم ، عن ابن عمر : أنه طلق امرأته ، وهي حائض ، فذكر ذلك عمر للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : " مره ، فليراجعها ، ثم ليطلقها طاهرا ، أو حاملا " .

26615 - قال أبو عمر : ذهب إلى ما رواه نافع : فقهاء الحجازيين منهم : مالك ، والشافعي ، فقالوا فيمن طلق امرأته حائضا : إنه يراجعها ، ثم يمسكها حتى تطهر ، ثم تحيض ، ثم تطهر ، ثم إن شاء طلق قبل أن يمس ، وإن شاء أمسك .

[ ص: 13 ] 26616 - وذهب أبو حنيفة ، وأصحابه ، وأكثر العراقيين إلى ما رواه يونس بن جبير ، وسعيد بن جبير ، وأنس بن سيرين ، ومن تابعهم عن عمر في هذا الحديث ، فقالوا : يراجعها ، فإن طهرت طلقها إن شاء .

26617 - وإلى هذا ذهب المزني - صاحب الشافعي - فقالوا : إنما أمر المطلق في الحيض بالمراجعة ; لأن طلاقه ذلك أخطأ فيه السنة ، فأمر أن يراجعها ليخرجها من أسباب الطلاق الخطأ ، ثم يتركها حتى تطهر من تلك الحيضة ، ثم يطلقها إن شاء طلاقا صوابا .

[ ص: 14 ] 26618 - ولم يروا للحيضة الأخرى بعد ذلك معنى ، وصاروا إلى رواية من روى ذلك عن ابن عمر .

26619 - وأما القائلون بما رواه نافع ، ومن تابعهم في أنها تطهر ، ثم تحيض ، ثم تطهر : منهم : أصحاب الشافعي ، وغيرهم ، فقالوا : الطهر الثاني والحيضة الثانية وجوه ومعان حسان منها :

26620 - أنه لما طلق في الموضع الذي نهي عنه لئلا تطول عدة المرأة أمر بمراجعتها ، ليوقع الطلاق على سنته ، ولا يطول في العدة على امرأته ، فلو أتيح له أن يطلقها إذا طهرت من تلك الحيضة كانت في معنى المطلقة قبل الدخول ، وكانت تبني على عدتها الأولى ، فأراد الله - عز وجل - على لسان رسوله أن يقطع صلاة الحائض بالوطء ، فإذا وطئها في الطهر لم تتهيأ له أن يطلقها .

26621 - وفيه : أنه قد نهي أن يطلقها في طهر حتى تحيض عنده ، ثم تطهر بعد ذلك ، استأنفت عدتها بعد ذلك ، ولم تبن .

26622 - وقيل في الطهر الثاني : جعل للإصلاح الذي قال الله تعالى : وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا [ البقرة : 228 ] لأن حق المرتجع ، أن لا يرجع رجعة ضرار ; لقوله تعالى : ولا تمسكوهن ضرارا [ البقرة : 231 ]

[ ص: 15 ] 26623 - قالوا : فالطهر الأول فيه الإصلاح بالوطء ، فإذا وطئ لم يجز له أن يطلق في ذلك الطهر ، ولزمه أن يتزوجها حتى تحيض ، ثم تطهر إن أراد طلاقها .

26624 - وقيل : إن مراجعته لها لم تعلم صحتها إلا بالوطء ; لأنه المنتفي من النكاح والمراجعة في الأغلب ، وكان ذلك الطهر موضعا للوطء الذي تستعين به المراجعة ، فإذا مسها لم يكن له سبل إلى طلاقها في طهر قد مسها فيه ; للنهي عن ذلك ; ولإجماعهم على أنه لو فعل كان مطلقا لغير العدة ، فقيل له : دعها ، حتى تحيض أخرى ، ثم تطهر ، ثم تطلق ، وإن شئت قبل أن تمس .

26625 - وقد جاء معنى ما ذكرنا من هذه الوجوه منصوصا في حديث ابن عمر .

26626 - حدثني عبد الوارث ، قال : حدثني قاسم ، قال : حدثني إبراهيم بن عبد الرحيم ، قال : حدثني معلى بن عبد الرحمن الواسطي ، قال : حدثني عبد الحميد بن جعفر ، قال : حدثني نافع ، ومحمد بن قيس ، عن عبد الله بن عمر : أنه طلق امرأته ، وهي في دمها حائض ، فأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يراجعها ، فإذا طهرت مسها حتى إذا طهرت آخرا ، فإن شاء طلقها ، وإن شاء أمسكها .

26627 - وقيل : إنه لو أتيح له أن يطلقها بعد الطهر من تلك الحيضة كان كأنه قد أمن أن يراجعها ليطلقها ، فاشتبه النكاح إلى أجل ، ونكاح المتعة ، فلم يجعل له ذلك حتى يطأ .

26628 - وقيل في ذلك أيضا غير ذلك ما يطول ذكره ، وما ذكرناه هو الذي [ ص: 16 ] عليه مراد معنى توجيهاتهم في قوله : ثم تحيض ، ثم تطهر ، وبالله التوفيق .

26629 - وأجمع العلماء على أن الطلاق في الحيض مكروه لمن أوقعه ، وأن من فعله لم يطلق للعدة التي أمر الله تعالى ، والدليل على ذلك من أخبار الآحاد العدول ، تغيظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ابن عمر حين فعل ذلك .

26630 - أخبرنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثني محمد بن بكر ، قال : حدثني أبو داود ، قال : حدثني أحمد بن صالح ، قال : حدثني عنبسة ، قال : حدثني يونس ، عن ابن شهاب ، قال : أخبرني سالم بن عبد الله ، عن أبيه أنه طلق امرأته وهي حائض ، فذكر ذلك عمر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتغيظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال : " مره فليراجعها ، ثم ليمسكها حتى تطهر ، ثم تحيض فتطهر ، ثم إن شاء طلقها طاهرا قبل أن يمسها ، فذلك الطلاق ، والعدة كما أمر الله - عز وجل - " .

26631 - واختلفوا في أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المطلق في الحيض بالرجعة :

26332 - فقال قوم عوقب بذلك ; لأنه تعدى ما أمر الله به ، ولم يطلق للعدة ، فعوقب بإمساك من لم يرد إمساكه حتى يطلق كما أمر للعدة .

26632 - قال آخرون : إنما أمر بذلك قطعا للضرر في التطويل عليها ; لأنه إذا طلقها في الحيض ، فقد طلقها في وقت لا تعتد به من قرئها الذي تعتد به ; فتطول عدتها ; فنهى أن يطول عليها ، وأمر ألا يطلقها إلا عند استقبال عدتها .

26633 - وكذلك كان ابن عمر يقرأ : " فطلقوهن لقبل عدتهن " .

[ ص: 17 ] 26634 - وفي أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عبد الله بن عمر بمراجعة امرأته التي طلقها حائضا دليل يبين على أن الطلاق في الحيض واقع لازم ; لأن المراجعة لا تكون إلا بعد صحة الطلاق ، ولزومه ، ولو لم يكن الطلاق واقعا لازما ما قال : مره فليراجعها ; لأن من لم يطلق لا يقال له راجع ; لأنه محال أن يقال لرجل امرأته في عصمته لم يفارقها : راجعها ، بل كان يقال له : طلاقك لم يصنع شيئا ، وامرأتك بعده كما كانت قبله ، ونحو هذا .

26635 - ألا ترى أن الله - عز وجل - قال في المطلقات : وبعولتهن أحق بردهن في ذلك [ البقرة : 228 ] يعني : في العدة .

وهذا لا يستقيم أن يكون مثله في الزوجات غير المطلقات .

26636 - وعلى هذا فقهاء الأمصار ، وجمهور علماء المسلمين ، إن كان الطلاق عند جميعهم في الحيض مكروها ، بدعة ، غير سنة .

26637 - ولا يخالف الجماعة في ذلك إلا أهل البدع ، والجهل الذين يرون الطلاق لغير السنة غير واقع ، ولا لازم .

26638 - وقد روي ذلك عن بعض التابعين .

26639 - وهذا شذوذ لم يعرج عليه أحد من أهل العلم ; لما روي ; ولأن ابن عمر الذي عرضت له القضية احتسب بتلك التطليقة وأفتى بذلك ، وهو مما لا يدفع علمه بقصة عرضت له .

26640 - أخبرنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثني قاسم بن أصبغ ، [ ص: 18 ] قال : حدثني أبو قلابة ، قال : حدثني بشر بن عمر ، قال : حدثني شعبة ، عن أنس بن سيرين ، عن ابن عمر قال : طلقت امرأتي - وهي حائض - فأتى عمر النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره ، فقال له النبي - عليه السلام - : " مره فليراجعها ، ثم ليطلقها إن شاء إذا طهرت " . فقال له أنس : أفتعتد بتلك التطليقة ; قال : نعم .

26641 - وحدثني خلف بن قاسم ، قال : حدثني عبد الله بن محمد بن المفسر ، قال : حدثني أحمد بن علي بن سعيد القاضي المروزي ، قال : حدثني أبو السائب سلم بن جنادة ، قال : حدثني ابن إدريس ، عن عبيد الله بن عمر ، ويحيى بن سعيد ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : طلقت امرأتي وهي حائض ، فأتى عمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكر ذلك له ، فقال : مره فليراجعها حتى تطهر ، ثم تحيض ، ثم تطهر ، ثم إن شاء طلقها قبل أن يراجعها ، وإن شاء أمسك ، فإنها العدة التي قال الله - عز وجل - " .

قال عبيد الله : قلت لنافع : ما فعل تلك التطليقة ؟ فقال : اعتد بها .

26642 - وروى الشافعي : قال : أخبرنا مسلم بن خالد ، عن ابن جريج أنهم أرسلوا إلى نافع ليسأله : هل حبس التطليقة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ فقال : نعم .

26643 - وروى أيوب السختياني ، وسلمة بن علقمة ، عن ابن سيرين ، عن أبي غلاب يونس بن جبير ، قال : فسألنا ابن عمر : قلت لرجل طلق امرأة وهي [ ص: 19 ] حائض ، فذكر الخبر ، وفيه : فقلت : فتعتد بتلك التطليقة ، فقال : فمه ؟ قال : أرأيت إن عجز ، فاستحمق .

26644 - وقد ذكرنا هذا الخبر من طرق في " التمهيد " ، ومعنى قول ابن عمر فيه : أرأيت إن عجز ، واستحمق ، أي : وهل من ذلك بد ؟ أرأيت لو تعاجز عن فرض آخر من فرائض الله تعالى ، فلم يقمه أو استحمق ، فلم يأت به ، أكان يعذر فيه ؟ ونحو هذا من الإنكار على من شذ أنه لا يعتد بها .

26645 - والدليل على ذلك مذهب ابن عمر ; لأنه كان يفتي فيمن طلق امرأته ثلاثا في الحيض أنها لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره .

26646 - ولو كان الطلاق في الحيض غير جائز لم يلزمه ، ثلاثا كانت أو واحدة .

[ ص: 20 ] 26647 - أخبرنا أحمد بن محمد ، وخلف بن حماد ، قالا : حدثني أحمد بن مطرف ، قال : حدثني عبيد الله بن يحيى ، عن أبيه ، عن الليث بن سعد ، عن نافع ، أن عبد الله بن عمر طلق امرأته وهي حائض تطليقة واحدة ، فأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يراجعها ، ثم يمسكها حتى تطهر ، ثم تحيض عنده حيضة أخرى ، ثم يمهلها حتى تطهر من حيضتها ، فإن أراد أن يطلقها ، فليطلقها حين تطهر قبل أن يجامعها ، فتلك العدة التي أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يطلق لها النساء .

26648 - وكان ابن عمر إذا سئل عن ذلك ، قال : إذا أنت طلقت امرأتك ، وهي حائض مرة ، أو مرتين ، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بهذا وإن كنت طلقتها ثلاثا ، فقد حرمت عليك حتى تنكح زوجا غيرك ، وعصيت الله فيما أمرك به من طلاق امرأتك .

26649 - ومن جهة النظر قد علمنا أن الطلاق ليس من الأعمال التي يتقرب بها إلى الله - عز وجل - كالصلاة ، والصيام ، وغيرهما ، فلا تقع إلا على سنتها ، وإنما هي زوال عصمة فيها حق لآدمي ، فكيفما أوقعه على سنته ، أو على غير سنته وقع ، إلا أنه إن أوقعه على غير سنته أثم ، ولزمه ما أوقع منه .

[ ص: 21 ] 26650 - ومحال أن يلزم المطيع المتبع للسنة طلاقه ، لا يلزم العاصي المخالف ; لأنه لو لزم المطيع لم يكن العاصي لكان العاصي أحسن حالا ، وأحق من المطيع .

26651 - وقد احتج قوم من أهل العلم في أن الطلاق في الحيض لازم ; لقول الله - عز وجل - : ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه [ الطلاق : 1 ] يقول : عصى ربه ، وفارق امرأته .

26652 - واختلف العلماء فيمن طلق زوجته حائضا ، هل يجبر على رجعتها إن أبى ذلك ؟

[ ص: 22 ] 26653 - فقال مالك ، وأصحابه : يجبر على رجعتها إذا طلقها ، وفي الحيض ، أو في دم النفاس ، حملوا الأمر ، وذلك على الوجوب ، وقاسوا النفاس على الحيض .

26654 - وقال الشافعي ، وأبو حنيفة ، وأصحابه ، والثوري ، والأوزاعي ، [ ص: 23 ] وابن أبي ليلى ، وأحمد بن حنبل ، وإسحاق ، وابن شبرمة ، وأبو ثور ، والطبري : يؤمر برجعتها ، ولا يجبر على ذلك .

26655 - وقال داود : كل من طلق امرأته حائضا واحدة ، أو اثنتين أجبر على رجعتها ، وإن طلقها نفساء لم يجبر على رجعتها .

26656 - وقال أبو عمر : لم يختلفوا أنها إذا انقضت عدتها لم يجبر على رجعتها ، فدل ذلك على أن الأمر بمراجعتها ندب . والله أعلم .

26657 - وقال مالك ، وأكثر أصحابه : يجبر المطلق في الحيض على الرجعة في الحيضة التي طلق فيها ، وفي الطهر بعدها ، وفي الحيضة بعد الطهر ، وفي الطهر بعدها ، ما لم تنقض عدتها ، إلا أشهب بن عبد العزيز قال : يجبر على الرجعة في الحيضة الأولى ما لم تطهر منها ، فإذا صارت في حال يجوز له طلاقها فيه لم يجبر على رجعتها .

26658 - ولم يختلف مالك ، وأصحابه أنه لا يطلقها في الطهر الأول ; لأنه يمسها فيه ، فإذا حاضت بعده ، ثم طهرت طلقها إن شاء .

26659 - وأجمع العلماء أنه إذا طلقها في طهر لم يمسها فيه لم يجبر على رجعتها ، ولم يؤمر بذلك ، وإن كان طلاقه قد وقع على غير سنة ، وإنما يجبر [ ص: 24 ] ويؤمر إذا طلقها حائضا .

26660 - وفي هذا الحديث دليل على أن الأقراء : الأطهار ; لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ثم تحيض ، ثم تطهر ، ثم إن شاء أمسك ، وإن شاء طلق قبل أن يمس ، فتلك السنة التي أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يطلق لها النساء ، فأخبر أن الطلاق للعدة لا يكون إلا في طهر تعتد به ، وموضع يحتسب به من عدتها ، ويستقبلها من حينئذ .

[ ص: 25 ] 26661 - وكان هذا منه - صلى الله عليه وسلم - بيانا لقوله - عز وجل - : فطلقوهن لعدتهن [ الطلاق : 1 ] .

26662 - وقد قرئت : لقبل عدتهن ، أي لاستقبال عدتهن .

26663 - ونهى عن الطلاق في الحيض ; لأنها لا تستقبل العدة في تلك الحيضة عند الجميع ; لأن من قال : الأقراء : الحيض لا يجزئ بتلك الحيضة من الثلاث حيض عنده حتى تستقبل حيضة بعد طهر .

26664 - وقد ذكرنا ما للعلماء في معنى نهيه - صلى الله عليه وسلم - ابن عمر ، عن الطلاق في الحيض ، وأمره إياه بالمراجعة ، فأغنى ذلك عن تكراره .

26665 - وقد اختلف السلف ، والخلف من العلماء في معنى " الأقراء " التي عناه الله - عز وجل - بقوله : ثلاثة قروء [ البقرة : 228 ] .

[ ص: 26 ] 26666 - فقال منهم قائلون ، وهم أهل العراق : الأطهار في معنى هذه الآية الحيض .

26667 - وقال آخرون ، وهم جمهور أهل المدينة ، معناه : الأطهار ، والطهر : ما بين الحيضة والحيضة .

26668 - ولم يختلف أهل اللغة والعلم بلسان العرب أن القرء يكون في اللسان العربي حيضة ، ويكون طهرا .

[ ص: 27 ] 26669 - ولا اختلف العلماء في ذلك أيضا ، وإنما اختلفوا في المعنى المراد بقوله - عز وجل - : والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء [ البقرة : 228 ] على القولين المذكورين .

26670 - وقد ذكرنا أن في حديث ابن عمر هذا ما يدل على أن القرء : الطهر .

26671 - ويدل من السنة أيضا أنه الحيض ، قوله - صلى الله عليه وسلم - للمستحاضة : " اتركي الصلاة أيام أقرائك " ، والصلاة لا تتركها إلا في أيام حيضها .

26672 - وقد أوردنا من شواهد أشعار العرب على القولين جميعا ما فيه بيان ، وكفاية في " التمهيد " .

26673 - وذكرنا - أيضا - قول من قال : إن القرء الوقت ، وشاهده من الشعر أيضا .

26674 - واجتلبنا أقوال أهل اللغة هناك في الأقراء ، وما لوحنا به هاهنا كاف ، والحمد لله .

[ ص: 28 ] 26675 - فمن شاهد الشعر على أن الأقراء الأطهار قول الأعشى :

وفي كل عام أنت جاشم غزوة تشد لأقصاها عزيم عزائكا     مورثة مالا وفي الحمد رفعة
لما ضاع فيها من قروء نسائكا



26676 - يريد أنه لم يقرب نساءه في أقرائهن يعني أطهارهن .

26677 - ومن شاهد هذا الشعر في أن القرء الحيض ، قول الآخر :

يا رب ذي ظعن على فارض     له قرء كقرء الحائض



26678 - وقد روي : يا رب ذي ضب .

[ ص: 29 ] 26679 - والضب العداوة ، والظعن مثله .

26680 - يقول : إن عداوته تهيج حينا بعد حين . كما يهيج الحيض وقتا بعد وقت .

26681 - وممن قال : إن القرء وقت الحيض ، ووقت الطهر ، استشهد بقول الهذلي :

كرهت العقر عقر بني شليل     إذا هبت لقارئها الرياح


26682 - يعني لوقتها .

26683 - وذكر الطحاوي ، قال : حدثني محمود بن حسان النحوي : قال : حدثني عبد الملك بن هشام ، قال : حدثني أبو زيد الأنصاري ، قال : سمعت أبا عمرو بن العلاء يقول : العرب تسمي الطهر قرءا . وتسمي الحيض قرءا وتسمي الحيض مع الطهر جميعا قرءا .

26684 - وقال الأصمعي : أصل القرء الوقت ، يقال : أقرأت النجوم إذا طلعت لوقتها .

26685 - قال أبو عمر : قول من قال : إن القرء مأخوذ من قولهم : قريت [ ص: 30 ] الماء في الحوض ليس بشيء عندهم ; لأن القرء مهموز ، وهذا غير مهموز .

26686 - وأما اختلاف العلماء في معنى الأقراء ، فذكر مالك في هذا الباب :

التالي السابق


الخدمات العلمية