الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
144 [ ص: 256 ] ( 29 ) باب ما جاء في البول قائما وغيره

118 - مالك ، عن يحيى بن سعيد ؛ أنه قال : دخل أعرابي المسجد ، فكشف عن فرجه ليبول ، فصاح الناس به ، حتى علا الصوت . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " اتركوه " فتركوه ، فبال . ثم أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذنوب من ماء ، فصب على ذلك المكان .

[ ص: 257 ] [ ص: 258 ] 119 - وعن عبد الله بن دينار ؛ أنه قال : رأيت عبد الله بن عمر يبول قائما .


3755 - لم يذكر مالك في حديثه عن يحيى بن سعيد أن الأعرابي بال قائما ، وترجم الباب في البول قائما .

3756 - وهذا الحديث رواه يحيى بن سعيد عن أنس ، سمعه منه عن النبي - عليه السلام - .

3757 - كذلك رواه يزيد بن هارون ، وعبد الله بن المبارك ، وعبدة بن سليمان عن يحيى بن سعيد ، قال : سمعت أنس بن مالك يحدث بذلك .

3758 - وقد رواه عن أنس أيضا ثابت البناني ، وإسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة . وقد ذكرنا طرقه في التمهيد .

3759 - حدثنا أحمد بن قاسم ، قال حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال حدثنا الحارث بن أبي أسامة ، قال حدثنا يزيد بن هارون ، قال أخبرنا يحيى بن سعيد ، قال : سمعت أنس بن مالك يقول : " دخل أعرابي المسجد ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه ، فأتى النبي - عليه السلام - فقضى حاجته . فلما قام بال في ناحية المسجد ، فصاح به الناس ، فكفهم رسول الله حتى فرغ من بوله ، ثم دعا بدلو من ماء ، فصبه على بول الأعرابي " .

[ ص: 259 ] 3760 - وقد رواه أبو هريرة عن النبي - عليه السلام - كما رواه أنس من حديث ابن شهاب ، عن سعيد بن المسيب وعبيد الله بن عبد الله ، عن أبي هريرة .

3761 - وهو حديث ثابت ، لا مطعن فيه لأحد ، ولا يختلف أهل الحديث في صحة إسناده ، وقد ذكرته في التمهيد .

3762 - وفيه من الفقه : أن الماء إذا غلب على النجاسة ، ولم يظهر فيه شيء منها فقد طهرها ، وأنها لا تضره ممازجته لها إذا غلب عليها ، وسواء كان قليلا أو كثيرا .

3763 - وقد جعله الله تعالى طهورا ، وأنزله علينا ليطهرنا به .

3764 - وقال رسول الله - عليه السلام - : " الماء لا ينجسه شيء " يعني إلا ما غلب عليه من النجاسة فغيره .

3765 - ومعلوم أنه لا يطهر نجاسة حتى يمازجها ، فإن غلب عليها ، ولم يظهر فيه شيء منها فالحكم له ، وإن غلبته النجاسة فالحكم لها إذا ظهر في الماء شيء منها .

3766 - هذا ما يوجبه ظاهر هذا الحديث ، وهو من أصح ما يروى في الماء عن النبي - عليه السلام - .

3767 - وإلى هذا المذهب ذهب جمهور أهل المدينة ، منهم سعيد بن المسيب ، وسالم والقاسم ، وابن شهاب ، وربيعة ، وأبو الزناد .

3768 - وهو قول مالك في رواية أهل المدينة عنه ، وقول أصحابه المدنيين .

3769 - وقد ذكرنا ما لابن القاسم وغيره من المصريين عن مالك في ذلك ، وما [ ص: 260 ] لسائر العلماء في الماء من المذاهب فيما تقدم ، والحمد لله .

3770 - وحديث هذا الباب لا يقدر أصحاب الشافعي ، ولا أصحاب أبي حنيفة على دفعه ، وهو ينقض ما أصلوه في الماء ، إلا أن أصحاب الشافعي فزعوا - لما لزمتهم الحجة به - إلى التفرقة بين ورود الماء على النجاسة ، وورودها عليه . فراعوا في ورودها عليه مقدار القلتين ، وهو عندهم خمسمائة رطل ، ولم يراعوا في وروده عليها ذلك المقدار ، لحديث أسماء في غسل ثوبها من دم الحيض ، وحديث أبي هريرة في غسل اليد قبل إدخالها في الإناء ونحوهما .

3771 - وقد مضى القول عليهم في ذلك فيما تقدم من هذا الكتاب ، والله الموفق للصواب .

3772 - ومن حجتهم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - نهى عن البول في الماء الدائم ، وأمر بصب الماء على بول الأعرابي ، ونهى أن يدخل من يستيقظ من نومه يده في الإناء .

3773 - ومعلوم أن غسلها من ماء الإناء مخالط لما في اليد من النجاسة .

3774 - وهذا وما كان مثله كثير دلل على الفرق بين ورود النجاسة على الماء وبين وروده عليها .

3775 - وقد فرق المسلمون كافة بين غسل النجاسات من الثياب والأبدان وغيرها ، فلم يراعوا في ذلك مقدارا ، وبين ورود النجاسات من العذرات والميتات في الآبار والأواني والغدر الصغار .

[ ص: 261 ] 3776 - قالوا : فدل ذلك على ما ذكرنا من الاعتبار .

3777 - وأما مذهب جمهور أهل المدينة - وهو قول أهل البصرة وغيرهم - فإنهم لا يعتبرون في قليل الماء ولا كثيره إلا ما غيره .

3778 - وقد مضى القول في ذلك واضحا والحمد لله .

3779 - ذكر ابن أبي شيبة ، حدثنا ابن علية ، عن داود بن أبي هند ، قال : سألت سعيد بن المسيب عن الحياض والغدر يلغ فيها الكلاب . فقال : أنزل الله الماء طهورا فلا ينجسه شيء .

3780 - وعن القاسم ، والحسن ، وعكرمة مثله .

3781 - وأما البول قائما فليس فيه عند مالك حديث مسند ، وله فيه عن ابن عمر ما ذكره .

3782 - وقد اختلف في البول قائما ، فأرفع ما في ذلك ما حدثنا سعيد بن نصر ، قال حدثنا قاسم بن أصبغ ، حدثنا محمد ، قال : حدثنا أبو بكر ، حدثنا وكيع ، حدثنا الأعمش ، عن أبي وائل ، عن حذيفة : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتى سباطة قوم ، فبال عليها [ ص: 262 ] قائما .

3783 - وذكر أبو بكر ، عن ابن إدريس ، عن الأعمش وحميد ، عن أبي ظبيان ، قال : رأيت عليا بال قائما .

3784 - وذكرنا الأسانيد عن أبي هريرة ، وابن عمر ، وسعد بن عبادة ، وزيد بن ثابت ، وسعيد بن المسيب ، والشعبي ، ومحمد بن سيرين ، وعروة بن الزبير ، ويزيد بن الأصم ، والحكم - أنهم بالوا قياما .

3785 - ثم ذكرنا في باب من كره البول قائما - إنكار عائشة أن يكون رسول الله بال قائما .

3786 - وعن عمر قال : ما بلت قائما منذ أسلمت .

3787 - وعن ابن مسعود ، وابن بريدة ، والشعبي أنهم قالوا : من الجفاء أن يبول قائما .

3788 - وعن الحسن أنه كره البول قائما .

3789 - وعن مجاهد ، قال : ما بال رسول الله قائما إلا مرة في كثيب أعجبه .

[ ص: 263 ] 3790 - قال أبو عمر : من أجاز البول قائما فإنما أجازه خوف ما يحدثه البائل جالسا في الأغلب من الصوت الخارج عنه ، إذا لم يمكنه التباعد عمن يسمعه .

3791 - ويحتاج مع ذلك أن يرتاد لبوله موضعا دمثا ؛ لئلا يطير إليه شيء من بوله .

3792 - فهذا وجه البول قائما .

3793 - وبنحو هذا قال عمر بن الخطاب " البول قائما أحصر للدبر " .

3794 - وقد جاء عن النبي - عليه السلام - : أنه كان إذا بال قائما لم يبعد عن الناس ، ولا أبعدهم عن نفسه بل أمر حذيفة بالقرب منه إذ بال قائما .

3795 - وروى أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن شقيق سفيان ، عن حذيفة ، قال : كنت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فانتهى إلى سباطة قوم ، فبال قائما ، فتنحيت ، فقال : " ادن " فدنوت حتى قمت عند عقبيه .

3796 - وروي عنه من مراسيل عطاء ، وعبيد بن عمير ، أنه بال جالسا ، فدنا منه رجل ، فقال : " تنح فإن كل بائلة تفيخ " ، ويروى " تفيش " .

[ ص: 264 ] 3797 - وقال إسحاق ابن راهويه : لا ينبغي لأحد أن يتقرب من الرجل وهو يتغوط أو يبول جالسا ؛ لقول النبي - عليه السلام - : " تنح " وروي عن النبي - عليه السلام - من حديث المغيرة بن شعبة أنه كان إذا تبرز تباعد .

3798 - وبعضهم يقول فيه : إذا ذهب أبعد في المذهب .

3799 - وفي حديث جابر : حتى لا يراه أحد .

3800 - وفي حديث يعلى بن مرة : استبعد ، وتوارى .

3801 - وروى عبد الرحمن بن أبي قراد أنه سمع - عن النبي - عليه السلام - مثله .

3802 - وروي عنه - عليه السلام - من حديث أبي موسى أنه قال : " إذا أراد أحدكم أن يبول فليرتد لبوله " .

3803 - يعني موضعا دمثا ، أو ذا صبب ونحوه ، مما يكون أنزه له من الأذى .

التالي السابق


الخدمات العلمية