الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
149 [ ص: 5 ] كتاب الصلاة [ ص: 6 ] [ ص: 7 ] ( 1 ) باب ( ما جاء ) في النداء للصلاة

123 - مالك ، عن يحيى بن سعيد ; أنه قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أراد أن يتخذ خشبتين ، يضرب بهما ليجتمع الناس للصلاة . فأري عبد الله بن زيد الأنصاري ، ثم من بني الحارث بن الخزرج ، خشبتين في النوم . فقال : إن هاتين لنحو مما يريد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقيل : ألا تؤذنون للصلاة ؟ فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين فذكر له ذلك فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالأذان .


3851 - قال أبو عمر : روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قصة عبد الله بن زيد ، [ ص: 8 ] ورؤياه في بدء الأذان - جماعة من الصحابة بألفاظ مختلفة ومعان متقاربة ، قد ذكرت منها في التمهيد ما فيه بلاغ وشفاء .

3852 - على أنا لم نقتصر منها إلا على أحسنها ، وهي متواترة الطرق من نقل أهل المدينة وأهل الكوفة .

3853 - ولا أعلم فيها ذكر الخشبتين إلا في مرسل يحيى بن سعيد هذا .

3854 - وفي حديث أبي جابر البياضي ، عن سعيد بن المسيب ، عن عبد الله بن زيد ذكره عبد الرزاق ، عن إبراهيم بن أبي يحيى ، عن أبي جابر البياضي .

وإبراهيم وأبو جابر متروكان .

[ ص: 9 ] 3855 - وأما سائر الآثار فإنما فيها : أنه أراد أن يتخذ بوقا كبوق اليهود . وفي بعضها : شبور كشبور النصارى . وفي أكثرها : ناقوس كناقوس النصارى ، حتى رأى عبد الله بن زيد رؤياه في الأذان ، ورأى عمر بن الخطاب مثل ذلك . فلما حكى عبد الله بن زيد لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأذان الذي علمه في المنام قال له : " ألقه على بلال ; فإنه أندى منك صوتا " .

3856 - وقد ذكرنا الآثار بذلك كله في التمهيد .

[ ص: 10 ] 3857 - وفي ذلك أوضح الدلائل على أن الرؤيا من الوحي والنبوة ، وحسبك بذلك فضلا لها وشرفا . ولو لم تكن من الوحي ما جعلها - عليه السلام - شرعة ومنهاجا لدينه ، والله أعلم .

3858 - والآثار المروية في الأذان ، وإن اختلفت الألفاظ فيها فهي متفقة كلها في أن أصل أمره ، وبدء شأنه كان عن رؤيا عبد الله بن زيد .

3859 - وقد رآه عمر أيضا .

[ ص: 11 ] 3860 - وأجمع المسلمون على أن رسول الله - عليه السلام - أذن له بالصلاة حياته كلها في كل مكتوبة ، وأنه ندب المسلمين إلى الأذان ، وسنه لهم .

3861 - وقد اختلف العلماء في وجوبه على الجماعات والمنفردين ، على حسب ما نذكره في هذا الباب ، وفيما بعده من هذا الكتاب ، والأحاديث عن أبي محذورة في الأذان أيضا مختلفة في التكبير : في أوله ، وفي الترجيع .

[ ص: 12 ] 3862 - وعلى حسب اختلاف الروايات في ذلك عن بلال وأبي محذورة - اختلف الفقهاء ، واختلف كل فريق منهم ببلده أيضا ، إلا أن الأذان مما يصح الاحتجاج فيه بالعمل المتواتر في ذلك في كل بلد ; ولذلك قال الجلة من المتأخرين بالتخيير والإباحة في كل وجه نقل منه .

3863 - وأما اختلاف أئمة الأمصار في كيفية الأذان والإقامة - فذهب مالك ، والشافعي ، وأصحابهما إلى أن الأذان مثنى مثنى ، والإقامة مرة مرة .

3864 - إلا أن الشافعي يقول في أول التكبير : الله أكبر ، أربع مرات ، وذلك محفوظ من رواية الثقات في حديث أبي محذورة ، وفي حديث عبد الله بن زيد ، قال : وهي زيادة يجب قبولها .

3865 - وزعم الشافعي أن أذان أهل مكة لم يزل في آل أبي محذورة كذلك إلى وقته وعصره .

3866 - قال أصحابه : وكذلك هو حتى الآن عندهم .

3867 - وذهب مالك وأصحابه إلى أن التكبير في أول الأذان مرتين ، وقد روي ذلك من وجوه صحاح في أذان أبي محذورة ، وفي أذان عبد الله بن زيد . والعمل عندهم بالمدينة على ذلك في آل سعد القرظ إلى زمانهم .

[ ص: 13 ] 3868 - واتفق مالك والشافعي على الترجيع في الأذان ; وذلك رجوع المؤذن إذا قال : أشهد أن لا إله إلا الله ، مرتين ، أشهد أن محمدا رسول الله ، مرتين ، رجع ، فمد صوته جهرة بالشهادتين ، مرتين .

3869 - ولا خلاف بين مالك والشافعي في الأذان إلا في التكبير في أوله ; فإن مالكا يقوله مرتين : الله أكبر ، الله أكبر ، والشافعي يقوله أربع مرات .

3870 - ولا خلاف بينهما في الإقامة إلا في قوله : قد قامت الصلاة ; فإن مالكا يقولها مرة ، والشافعي يقولها مرتين . وأكثر العلماء على ما قال الشافعي ، وبه جاءت الآثار .

3871 - وأما الليث بن سعد فمذهبه في الأذان والإقامة كمذهب مالك سواء ، لا يخالفه في شيء من ذلك .

3872 - وقال أبو حنيفة ، وأصحابه ، والثوري ، والحسن بن حي ، وعبيد الله بن الحسن - : الأذان والإقامة جميعا مثنى مثنى ، والتكبير عندهم في أول الأذان ، وأول الإقامة : الله أكبر ، أربع مرات . قالوا كلهم : ولا ترجيع في الأذان ، وإنما يقول : أشهد أن لا إله إلا الله ، مرتين ، أشهد أن محمدا رسول الله ، مرتين ، ثم لا يرجع إلى الشهادة بعد ذلك ، ولا يمد صوته .

3873 - وحجتهم في ذلك حديث عبد الرحمن بن أبي ليلى ، قال : حدثنا [ ص: 14 ] أصحاب محمد - عليه السلام - أن عبد الله بن زيد جاء إلى النبي - عليه السلام - فقال : يا رسول الله ، رأيت في المنام كأن رجلا قام وعليه بردان أخضران على جذم حائط ، فأذن مثنى مثنى ، وأقام مثنى مثنى ، وقعد قعدة بينهما ، قال : فسمع بذلك بلال ، فقام ، فأذن مثنى ، وقعد قعدة ، وأقام مثنى . يشفعون الأذان والإقامة ، وهو قول جماعة التابعين والفقهاء بالعراق .

3875 - قال أبو إسحاق السبيعي : كان أصحاب علي وعبد الله يشفعون الأذان والإقامة .

3875 - فهذا أذان الكوفيين متوارث عندهم به العمل قرنا بعد قرن أيضا ، كما توارث الحجازيون في الأذان زمنا بعد زمن على ما وصفنا .

3876 - وأما البصريون فأذانهم ترجيع التكبير مثل المكيين ، ثم الشهادة بأن لا إله إلا الله مرة واحدة ، وب أشهد أن محمدا رسول الله مرة ، ثم حي على الصلاة مرة ، ثم حي على الفلاح مرة ، ثم يرجع المؤذن ، فيمد صوته ، ويقول : أشهد أن لا إله إلا الله ، الأذان كله مرتين مرتين إلى آخره .

3877 - أخبرنا أحمد بن عبد الله بن محمد بن علي ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا أحمد بن خالد ، قال : حدثنا علي بن عبد العزيز ، قال : حدثنا حجاج بن منهال ، قال : حدثنا يزيد بن إبراهيم أنه سمع الحسن وابن سيرين يصفان الأذان : الله أكبر ، الله أكبر ، الله أكبر ، الله أكبر . أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أن محمدا [ ص: 15 ] رسول الله . حي على الصلاة ، حي على الفلاح . يسمع بذلك من حوله ، ثم يرجع ، فيمد صوته ، ويجعل إصبعيه في أذنيه ، فيقول : أشهد أن لا إله إلا الله ، مرتين ، أشهد أن محمدا رسول الله ، مرتين ، حي على الصلاة ، مرتين ، حي على الفلاح ، مرتين ، الله أكبر ، الله أكبر ، لا إله إلا الله .

3878 - وأما أحمد بن حنبل فذكر عنه أبو بكر الأثرم أنه سمعه يقول : أنا أذهب في الأذان إلى حديث محمد بن إسحاق ، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث ، عن محمد بن عبد الله بن زيد ، عن أبيه - ثم وصفه أبو عبد الله ، فكبر أربعا ، وتشهد مرتين مرتين ، لم يرجع .

3879 - قال أحمد : والإقامة : الله أكبر مرتين ، وسائرها مرة مرة ، إلا قوله : قد قامت الصلاة ، فإنها مرتين .

3880 - قال أبو بكر : وسمعت أبا عبد الله - يعني أحمد بن حنبل - يقول : من أقام مثنى مثنى لم أعنفه ، وليس به بأس .

3881 - قيل لأبي عبد الله : حديث أبي محذورة صحيح ؟

3882 - فقال : أما أنا فلا أدفعه .

3883 - ( قيل له : أفليس حديث أبي محذورة بعد حديث عبد الله بن زيد ؟ )

[ ص: 16 ] 3884 - فقال : أليس قد رجع النبي - عليه السلام - إلى المدينة ، فأقر بلالا على أذان عبد الله بن زيد ؟

3885 - قال أبو عمر : ذهب أحمد بن حنبل ، وإسحاق بن راهويه ، وداود بن علي ، ومحمد بن جرير - إلى إجازة القول بكل ما روي عن رسول الله في ذلك ، وحملوه على الإباحة والتخيير ، وقالوا : كل ذلك جائز ; لأنه قد ثبت عن النبي - عليه السلام - جواز ذلك ، وعمل به أصحابه . فمن شاء قال : الله أكبر ، الله أكبر ، مرتين في أول الأذان ، ومن شاء قال ذلك أربعا ، ومن شاء رجع في أذانه ، ومن شاء لم يرجع ، ومن شاء ثنى الإقامة ، ومن شاء أفردها ، إلا قوله : قد قامت الصلاة ; فإن ذلك مرتان مرتان على كل حال .

3886 - ذكر ابن أبي شيبة ، قال : حدثنا ابن علية ، عن يونس ، عن الحسن ، قال : الإقامة مرة مرة ، فإذا قال : قد قامت الصلاة ، قال مرتين .

3887 - ومن حجة من قال : قد قامت الصلاة ، مرتين - حديث أيوب ، عن أبي قلابة ، عن أنس ، قال : أمر بلال أن يشفع الأذان ، ويوتر الإقامة ; يعني قوله : قد قامت الصلاة ، فإنه يثنيه .

3888 - وحديث شعبة ، عن أبي جعفر المؤذن ، عن أبي المثنى ، أنه سمع ابن عمر يقول : كان الأذان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثنى مثنى ، والإقامة مرة مرة ، إلا قوله : قد قامت الصلاة ; فإنه كان يقوله المؤذن مرتين .

[ ص: 17 ] 3889 - واختلف العلماء في وجوب الأذان .

3890 - فأما مالك وأصحابه فإن الأذان عندهم إنما يجب في مساجد الجماعات ; حيث يجتمع الناس . وقد نص ذلك في موطئه .

3891 - واختلف المتأخرون من أصحابه على قولين :

3892 - ( أحدهما ) أنه سنة مؤكدة واجبة على الكفاية في المصر ، وما جرى مجرى المصر من القرى .

3893 - وقال بعضهم : هو فرض على الكفاية .

3894 - وكذلك اختلف أصحاب الشافعي .

3895 - وذكر الطبري عن مالك ، قال : إن ترك أهل مصر الأذان عامدين أعادوا [ ص: 18 ] الصلاة ، ولا أعلم خلافا في وجوب الأذان جملة على أهل الأمصار ; لأنه من العلامة الدالة المفرقة بين دار الإسلام ودار الكفر .

3896 - كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا بعث سرية يقول لهم : " إذا سمعتم الأذان فأمسكوا ، وكفوا . وإن لم تسمعوا الأذان فأغيروا " ، أو قال : " فشنوا الغارة " .

3897 - وقال عطاء ، ومجاهد ، والأوزاعي ، وداود : الأذان فرض ، ولم يقولوا : على الكفاية .

3898 - وسنزيد المسألة بيانا فيما بعد - إن شاء الله - من هذا الباب ، ومن باب النداء في السفر بعون الله . وقد ذكرنا الآثار بذلك في التمهيد .

التالي السابق


الخدمات العلمية