الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
150 124 - وأما حديثه عن ابن شهاب ، عن عطاء بن يزيد الليثي ، عن أبي سعيد الخدري ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " إذا سمعتم النداء فقولوا مثل ما يقول المؤذن " .


[ ص: 19 ] 3899 - فاختلف العلماء في معناه :

3900 - فذهب بعضهم إلى أن الذي يسمع النداء يقول مثل ما يقول المؤذن ، من أول الأذان إلى آخره .

3901 - وحجتهم ظاهر هذا الحديث وعمومه .

3902 - وحديث أم حبيبة ، قالت : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كان عندي فسمع المؤذن قال كما يقول حتى يسكت .

3903 - وحديث عبد الله بن عمرو أن رجلا قال : يا رسول الله ، ما بال المؤذنين يفضلوننا ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " قل كما يقولون ، فإذا انتهيت فسل تعط " .

[ ص: 20 ] 3904 - وقال آخرون : يقول كما يقول المؤذن في كل شيء ، إلا في قوله : حي على الصلاة ، حي على الفلاح ; فإنه يقول إذا سمع المؤذن يقول ذلك : لا حول ولا قوة إلا بالله ، ثم يتم الأذان معه إلى آخره .

3905 - وحجتهم حديث عمر بن الخطاب .

3906 - وحديث معاوية عن النبي - عليه السلام - بذلك . على أن حديث معاوية مضطرب الألفاظ . وقد ذكرنا طرقه في التمهيد .

3907 - وقال آخرون : إنما يقول مثل ما يقول المؤذن في التكبير والتشهد ، ورووا بذلك أثرا تأولوه .

3908 - وقال آخرون : إنما يقول مثل ما يقول المؤذن في التشهد خاصة ، وإن شاء قال : وأنا أشهد بما تشهد به . ونحو هذا .

[ ص: 21 ] 3909 - واحتجوا بحديث سعد بن أبي وقاص أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " من قال حين يسمع المؤذن : وأنا أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا عبده ورسوله . رضيت بالله ربا ، وبمحمد رسولا ، وبالإسلام دينا - غفر له " .

3910 - وبحديث عائشة : أن النبي - عليه السلام - كان إذا سمع الأذان قال : " وأنا أشهد ، وأنا أشهد " 3911 - وهذان الحديثان فيهما الإتيان بمعنى الأذان وبمعنى الذكر والإخلاص والتشهد دون لفظه .

3912 - وقد ذكرنا الآثار كلها بطرقها في التمهيد .

3913 - واختلف الفقهاء في المصلي يسمع الأذان - وهو في نافلة أو فريضة .

3914 - فقال مالك إذا أذن وأنت في صلاة مكتوبة فلا تقل مثل ما يقول ، وإذا كنت في نافلة فقل - مثل ما يقول - التكبير والتشهد ، فإنه الذي يقع في نفسي أنه أريد بالحديث .

[ ص: 22 ] 3915 - هذه رواية ابن القاسم ومذهبه .

3916 - وقال ابن خويز منداد : فإن قال عند مالك : حي على الصلاة إلى آخر الأذان في النافلة كان مسيئا ، وصلاته تامة ، وكرهه في المكتوبة .

3917 - وقال ابن وهب : يقول المصلي مثل ما يقول المؤذن في المكتوبة والنافلة .

3918 - وقال سحنون : لا يقول ذلك في نافلة ، ولا مكتوبة .

3919 - وقال الليث مثل قول مالك ، إلا أنه قال : ويقول في موضع حي على الصلاة ، حي على الفلاح : لا حول ولا قوة إلا بالله .

3920 - وقال الشافعي : لا يقول المصلي مثل ما يقول المؤذن ، لا في نافلة ، ولا مكتوبة ، إذا سمعه وهو في الصلاة ، ولكن إذا فرغ من الصلاة قاله .

3921 - وذكر الطحاوي ، قال : لم أجد عن أحد من أصحابنا في هذا شيئا منصوصا ، وقد حدثنا ابن أبي عمران ، عن ابن سماعة ، عن أبي يوسف فيمن أذن في صلاته إلى قوله : أشهد أن محمدا رسول الله ، ولم يقل : حي على الصلاة ، ولا حي على الفلاح - أن صلاته لا تفسد إن أراد الأذان في قول أبي يوسف .

3922 - وفي قول أبي حنيفة تفسد صلاته إذا أراد الأذان .

3923 - قال أبو جعفر : وقول محمد كقول أبي حنيفة ; لأنه يقول فيمن يجيب إنسانا وهو يصلي ب لا إله إلا الله : إن صلاته فاسدة .

3924 - قال فهذا يدل على أن من قولهم : إن من سمع الأذان في الصلاة لا يقوله .

[ ص: 23 ] 3925 - وذكر ابن خويز منداد عن الشافعي أنه قال : يقول في النافلة الشهادتين ، فإن قال : حي على الصلاة ، حي على الفلاح - بطلت صلاته نافلة كانت أو فريضة .

3926 - قال أبو عمر : القياس عندي أنه لا فرق بين المكتوبة والنافلة في هذا الباب ; لأن الكلام محرم فيهما .

3927 - وقول : حي على الصلاة ، حي على الفلاح - كلام فيها ، فلا يصلح في شيء من الصلاة .

3928 - وأما سائر الأذان فمن الذكر الذي يصلح في الصلاة .

3929 - وقد جاء في الآثار المرفوعة قول : لا حول ولا قوة إلا بالله - في مكان : حي على الصلاة ، وحي على الفلاح .

3930 - وقد جاء عن النبي - عليه السلام - في حديث معاوية بن الحكم أنه قال ، عليه السلام : " إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس ; إنما هو التسبيح ، والتهليل ، والتكبير ، وتلاوة القرآن " .

[ ص: 24 ] 3931 - وقد قال رسول الله ، صلى الله عليه وسلم : " قولوا مثل ما يقول المؤذن " ، ولم يخص نافلة من فريضة .

3932 - فما جاز في الفريضة جاز في المكتوبة ، إلا أن مالكا كرهه في المكتوبة كراهية من غير تحريم كتحريم الكلام .

3933 - والذي يوجبه القياس والنظر أن ما كان من الذكر الجائز في الصلاة لم يفرق فيه بين نافلة ولا مكتوبة .

3934 - وأما من كره ذلك ، وأبطل الصلاة به ، فجعله مثل تشميت العاطس ورد السلام ، وليس كذلك ; لأن التشميت ورد السلام من الكلام ، والكلام محرم في الصلاة .

3935 - قال زيد بن أرقم : لما نزلت : " وقوموا لله قانتين " [ البقرة : 238 ] أمرنا بالسكون ، ونهينا عن الكلام .

3936 - وقال ابن مسعود : قال لي رسول الله ، صلى الله عليه وسلم : " إن الله يحدث من أمره ما يشاء ، وإن مما أحدث ألا تكلموا في الصلاة " .

[ ص: 25 ] 3937 - وقد أباح فيها - عليه السلام - الذكر بالتهليل ، والتكبير ، والتسبيح ، والتحميد ، والتمجيد ، والدعاء ، فعلم أن الكلام المحرم فيها غير المباح من الذكر ، وبالله التوفيق .

3938 - وأما حديثه عن سمي مولى أبي بكر بن عبد الرحمن ، عن أبي صالح السمان ، عن أبي هريرة أن رسول الله - عليه السلام - قال : " لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ، ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه - لاستهموا . ولو علموا ما في التهجير لاستبقوا إليه . ولو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوهما [ ص: 26 ] ولو حبوا " . ففيه فضل الأذان ، والصلاة .

3939 - والأذان إنما هو النداء ، قال الله ، تعالى : إذا نودي للصلاة [ الجمعة : 9 ] ، وقال : وإذا ناديتم إلى الصلاة [ المائدة : 58 ] .

3940 - وفي فضائل الأذان آثار كثيرة ، قد جمعها جماعة .

3941 - وحسبك بقول رسول الله ، عليه السلام : لا يسمع صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة .

3941 م - وقال عليه السلام : اللهم أرشد الأئمة ، واغفر للمؤذنين .

3942 - وقالت عائشة : نزلت هذه الآية في المؤذنين ، قوله تعالى : ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين [ فصلت : 32 ] .

[ ص: 27 ] 3943 - وروى بيان ، وإسماعيل بن أبي خالد ، عن قيس بن أبي حازم : قال : قال عمر : لو كنت أطيق الأذان مع الخلافة لأذنت .

3944 - وقال سعد بن أبي وقاص : لأن أقوى على الأذان أحب إلي من أن أحج ، أو أعتمر .

3945 - وقال ابن مسعود : لو كنت مؤذنا لم أبال ألا أحج ، أو أعتمر .

3946 - وقال عمر لبعض أهل الكوفة : من مؤذنوكم ؟ فقالوا : عبيدنا ، وموالينا . فقال : إن ذلك لنقص بكم .

3947 - وقال ابن عمر لرجل : ما عمله ؟ قال : الأذان . قال : نعم العمل ، يشهد لك كل رطب ويابس يسمعك .

3948 - وعن أبي هريرة مثله .

3949 - وروى السكري ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، قال : قال النبي ، عليه السلام : الإمام ضامن ، والمؤذن مؤتمن ، اللهم أرشد الأئمة ، واغفر للمؤذنين .

[ ص: 28 ] قالوا : يا رسول الله ، لو تركتنا بعدك ننافس في الأذان . فقال : إن بعدكم قوما سفلتهم مؤذنوهم .

3950 - وهذا الحديث انفرد بهذه الزيادة فيه أبو حمزة ، وليس بالقوي .

3951 - وأما الصف الأول ففي فضله آثار كثيرة ، وأحسنها حديث مالك في الاستهام عليه ; لأنه أرشد ، وندب إليه مؤكدا .

3952 - ومنها حديث أبي بن كعب ، قال رسول الله ، صلى الله عليه وسلم : إن الصف الأول لعلى مثل صف الملائكة ، ولو تعلمون ما فيه لابتدرتموه .

3953 - ومنها حديث جابر ، وأبى هريرة ، وأبي سعيد ، عن النبي ، عليه السلام : خير صفوف الرجال مقدمها ، وشرها مؤخرها . وخير صفوف النساء المؤخر .

3954 - حدثنا البراء بن عازب ، عن النبي - عليه السلام - أنه قال : إن الله [ ص: 29 ] وملائكته يصلون على الصف الأول .

3955 - وحديث العرباض بن سارية ، قال : كان النبي - عليه السلام - يصلي على الصف المقدم ثلاثا ، وعلى الثاني واحدة " .

3956 - وحديث أبي سعيد الخدري : أن رسول الله - عليه السلام - رأى في بعض أصحابه تأخرا ، فقال لهم : " تقدموا ، وأتموا بي ، وليأتم بكم من بعدكم ، ولا يزال قوم يتأخرون حتى يؤخرهم الله " .

[ ص: 30 ] 3957 - وروت عائشة مثله ، وزادت : " حتى يؤخرهم الله في النار " .

3958 - وهذا الوعيد إنما خرج على المنافقين الذين كانوا يرغبون عن رسول الله ، وعن القرب منه ، ويتأخرون عنه .

3959 - وأما قوله في حديث مالك : ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا ; فالهاء في ( عليه ) عائدة على الصف الأول ، لا على النداء . وهو حق الكلام ; أن يرد الضمير منه إلى أقرب مذكور ، ولا يرد إلى غير ذلك إلا بدليل .

3960 - وقد قيل : إنه ينصرف إلى النداء أيضا ، وفسره القائل بأنه الموضع الذي لا يؤذن فيه إلا واحد بعد واحد . وهذا موضع لا أعرفه في سنة ثابتة ، ولا قول صحيح .

3961 - وقد روي عن سعد بن أبي وقاص أنه أقرع بين قوم اختلفوا في الأذان .

3962 - ولقول سعد وجوه محتملة ، فلا حجة فيه لمن ذهب إليه . وإنما جاء الاستهام على الصف الأول ، لا على الأذان .

[ ص: 31 ] 3963 - وقد روي منصوصا عن النبي - عليه السلام - وعن طائفة من أصحابه : " لو يعلم الناس ما في الصف الأول ما صفوا فيه إلا بقرعة " .

3964 - وآثار هذا الباب كلها عند ابن أبي شيبة ، وأبي داود ، وسائر المصنفات .

3965 - وأما التهجير فمعروف ، وهو البدار إلى الصلاة في أول وقتها ، وقبل وقتها لمن شاء ، ثم انتظارها .

3966 - قال الله ، تعالى : فاستبقوا الخيرات [ سورة البقرة : 148 ] 3967 - وقال ، عليه السلام : المهجر إلى الجمعة كالمهدي بدنة .

3968 - وتواترت الآثار عن النبي - عليه السلام - أن من انتظر الصلاة - فهو في صلاة ما انتظرها .

[ ص: 32 ] 3969 - وحسبك من هذا فضلا ; إذ الصلاة من أفضل أعمال البر ، ولا ينتظر بها إلا من هجر إليها .

3970 - وقد سمى رسول الله - عليه السلام - انتظار الصلاة بعد الصلاة رباطا .

3971 - وجاء : " رباط يوم خير من صيام شهر " .

3972 - ولا أعلم خلافا بين العلماء أن من بكر ، وانتظر الصلاة وإن لم يصل في الصف الأول - أفضل ممن تأخر عنها ، ثم صلى في الصف الأول .

3973 - وفي هذا ما يوضح لك معنى الصف الأول ، وأنه ورد من [ ص: 33 ] أجل البكور إليه والتقدم ، والله أعلم .

3974 - وفي حديث قتادة ، عن أنس ، عن النبي - عليه السلام - أنه قال : أتموا الصف المقدم ، ثم الذي يليه ، فما كان من نقص فليكن في المؤخر .

3975 - وأما العتمة والصبح فالآثار فيهما كثيرة أيضا .

3976 - روى أبو هريرة ، وأبي بن كعب ، وعائشة ، عن النبي - عليه السلام - بمعنى واحد ، أنه قال : أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء ، وصلاة الفجر . لو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا .

3977 - وقال أبو الدرداء في مرضه الذي مات فيه : " اسمعوا ، وبلغوا من خلفكم ، حافظوا على هاتين الصلاتين - يعني في جماعة - العشاء ، والصبح ، ولو تعلمون ما فيهما لأتيتموهما ولو حبوا على مرافقكم وركبكم .

3978 - وقد روي عن النبي ، عليه السلام : شهود صلاة العشاء خير من [ ص: 34 ] قيام نصف ليلة .

3979 - وعن عمر ، قال : لأن أشهد العشاء والفجر أحب إلي من أن أحيي ما بينهما .

3980 - وعن الحسن مثله .

3981 - وقال ابن عمر : كنا إذا فقدنا الرجل في صلاة العشاء وصلاة الصبح أسأنا به الظن .

3982 - وهذه الآثار كلها بطرقها في كتاب أبي بكر بن أبي شيبة .

التالي السابق


الخدمات العلمية