الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
158 126 - فروى مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر ، أنه سمع الإقامة وهو بالبقيع ; فأسرع المشي إلى المسجد .


3989 - وروي عن عمر بن الخطاب أنه كان يهرول إلى الصلاة .

[ ص: 37 ] 3990 - وفي إسناده لين وضعف .

3991 - وعن ابن مسعود أنه قال : لو قرأت : فاسعوا إلى ذكر الله [ الجمعة : 9 ] لسعيت حتى يسقط ردائي .

3992 - وكان يقرأ : " فامضوا إلى ذكر الله " ، وهي قراءة عمر أيضا .

3993 - وعن ابن مسعود أنه قال : أحق ما سعينا إليه الصلاة .

3994 - وعن الأسود بن يزيد ، وعبد الرحمن بن يزيد ، وسعيد بن جبير ، أنهم كانوا يهرولون إلى الصلاة .

3995 - فهؤلاء كلهم ذهبوا إلى أن من خاف الفوت سعى ، ومن لم يخف مشى على هينته .

3996 - وقد روي عن ابن مسعود خلاف ما ذكرنا عنه ; روى عنه القاسم بن عبد الرحمن أنه قال : إذا أتيتم الصلاة فأتوها وعليكم السكينة ، فما أدركتم فصلوا ، وما فاتكم فأتموا .

3997 - وروى عنه أبو الأحوص ، قال : لقد رأيتنا وإنا لنقارب بين الخطا .

3998 - وروى ثابت عن أنس ، قال : خرجنا مع زيد بن ثابت إلى المسجد ، [ ص: 38 ] فأسرعت المشي ; فحبسني .

3999 - وعن أبي ذر ، قال : إذا أقيمت الصلاة فامش إليها كما كنت تمشي ، فصل ما أدركت ، واقض ما سبقك .

4000 - وهذه الآثار مذكورة بطرقها كلها في التمهيد .

4001 - وقد اختلف السلف في هذا الباب كما ترى على القول بظاهر حديث النبي - عليه السلام - في هذا .

4002 - إلا أن في سماع ابن القاسم قال : سئل مالك عن الإسراع في المشي إلى الصلاة إذا أقيمت . قال : ما أرى بذلك بأسا ما لم يسع ، أو يخف فوت الركعة .

4003 - قال : وسئل مالك عن الرجل يخرج إلى الحرس ، فيسمع مؤذن المغرب في الحرس ; فيحرك فرسه ليدرك الصلاة . قال مالك : لا أرى بذلك بأسا .

4004 - قال إسحاق بن راهويه : إذا خاف فوت التكبيرة الأولى فلا بأس أن يسعى .

4005 - قال أبو عمر : معلوم أن النبي - عليه السلام - إنما زجر عن السعي من خاف الفوت ; لقوله : " إذا أقيمت الصلاة " ، و " إذا ثوب بالصلاة " ، وقال : " فما أدركتم فصلوا " . فالواجب أن يأتي الصلاة من خاف فوتها ، ومن لم يخف - بالوقار ، والسكينة ، وترك السعي ، وتقريب الخطا ; لأمر النبي - عليه السلام - بذلك ، وهو الحجة ، عليه السلام .

[ ص: 39 ] 4006 - وقد قال بعض أصحابنا : إن ابن عمر لم يزد على هيئة مشيته المعهودة ; لأنه كان من عادته الإسراع في المشي ، ويقول : هو أبعد من الزهو .

4007 - وهذا عندي خلاف ظاهر الحديث عنه ; لأن نافعا مولاه قد عرف مشيه وحاله فيه ، ثم زعم أنه لما سمع الإقامة أسرع المشي . وهذا بين .

4008 - وقد روى ابن عيينة ، عن حصين ، عن محمد بن زيد ، قال : كان ابن عمر إذا مشى إلى الصلاة لو مشت معه نملة ما سبقها .

4009 - وهذا عندي ليس بمخالف لحديث نافع عنه ; أنه أسرع إذا سمع الإقامة ; لأنه يحتمل أن يكون ما حكاه محمد بن زيد عنه في حال لا يخاف فيها أن يفوت شيء من الصلاة مع الإمام ، وكانت أغلب أحواله .

4010 - وأما قوله - عليه السلام - في هذا الحديث : " وما فاتكم فأتموا " على ما رواه مالك وغيره - ففيه دليل على أن ما أدرك المصلي مع إمامه فهو أول صلاته .

4011 - وهذا موضع اختلف العلماء فيه .

[ ص: 40 ] 4012 - وقد ذكرنا في التمهيد من قال في هذا الحديث عن النبي ، عليه السلام : " ما فاتكم فأتموا " ، ومن قال : " ما فاتكم فاقضوا " .

4013 - وهذان اللفظان تأولهما العلماء فيما يدركه المصلي من الصلاة مع الإمام ; هل هو أول صلاته أو آخرها ؟ ولذلك اختلفت أقوالهم فيها .

4014 - فأما مالك بن أنس فاختلفت الرواية عنه في ذلك ; فروى سحنون ، عن جماعة من أصحاب مالك ، عن مالك ، منهم ابن القاسم : أن ما أدرك فهو أول [ ص: 41 ] صلاته ، ولكنه يقضي ما فاته بالحمد وسورة .

4015 - وهذا هو المشهور من مذهبه عند أصحابه .

4016 - قال ابن خويز منداد : وهو الذي عليه أصحابنا ، وهو قول الأوزاعي ، والشافعي ، ومحمد بن الحسن ، وأحمد بن حنبل ، وداود ، والطبري .

4017 - وروى أشهب عن مالك أن ما أدرك فهو آخر صلاته ، وهو الذي ذكره ابن عبد الحكم ، عن مالك ، ورواه عيسى ، عن ابن القاسم ، عن مالك ، وهو قول أبي حنيفة ، والثوري ، والحسن بن حي .

4018 - هكذا ذكره ابن خويز منداد ، عن أبي حنيفة .

4019 - وذكر الطحاوي ، عن محمد بن الحسن ، عن أبي حنيفة أن الذي يقضي أول صلاته ، وكذلك يقرأ فيها ، ولم يحك خلافا ، وما ذكره الطحاوي أصح عندهم .

4020 - وقال أبو بكر الأثرم : قلت لأحمد بن حنبل : أرأيت قول من قال : يجعل ما أدرك مع الإمام أول صلاته ، ومن قال : يجعله آخر صلاته ، أي شيء يفرق بينهما ؟ قال من أجل القراءة فيما يقضي . قلت له : فحديث النبي - عليه السلام - على أي القولين هو عندك ؟ قال : على أنه يقضي ما فاته . قال ، عليه السلام : " صلوا ما أدركتم واقضوا ما سبقكم " .

4021 - قال أبو عمر : لا خلاف عن مالك وأصحابه أنه من أدرك مع الإمام ركعتين - أنه يقرأ فيهما كما يقرأ إمامه بأم القرآن وحدها في كل ركعة منهما ، ثم يقوم إذا سلم الإمام ، فيقرأ بأم القرآن وسورة فيما يقضي في كل ركعة .

[ ص: 42 ] 4022 - وهكذا قول الشافعي أيضا .

4023 - فكيف يصح مع هذا القول قول من قال عنهم : إن ما أدرك فهو أول صلاته .

4024 - بل الظاهر أن ما أدرك فهو آخر صلاته على ما روى أشهب وغيره عن مالك .

4025 - ولكن الشافعي قد صرح بأن ما أدرك فهو أول صلاته ، وقوله في القضاء والقراءة كقول مالك سواء ، وكذلك صرح الأوزاعي بأن ما أدرك من صلاة الإمام فهو أول صلاته .

4026 - وأظنهم راعوا الإحرام لأنه لا يكون إلا في أول الصلاة ، والتشهد والتسليم لا يكون إلا في آخرها ; فمن هاهنا - والله أعلم - قال ما أدرك فهو أول صلاته .

4027 - وقال الثوري : يصنع فيما يقضي مثل ما صنع الإمام فيه .

4028 - وقال الحسن بن حي : أول صلاة الإمام أول صلاتك ، وآخر صلاة الإمام آخر صلاتك ، إذا فاتك بعض صلاتك .

4029 - وأما المزني ، وإسحاق بن راهويه ، وداود بن علي فقالوا : ما أدركه فهو أول صلاته ، يقرأ فيه ( الحمد ) ، وسورة ، إن أدرك ذلك معه . وإذا قام إلى القضاء قرأ بالحمد وحدها فيما يقضي لنفسه ; لأنه آخر صلاته .

4030 - وهو قول عبد العزيز الماجشون .

[ ص: 43 ] 4031 - فهؤلاء اطرد على أصلهم وقولهم وفعلهم .

4032 - وأما السلف قبلهم فروي عن عمر ، وعلي ، وأبي الدرداء : ما أدركت فهو آخر صلاتك .

4033 - وليست الأسانيد عنهم بالقوية في ذلك .

4034 - وعن ابن عمر ، ومجاهد ، وابن سيرين مثل ذلك .

4035 - وصح عن سعيد بن المسيب ، والحسن البصري ، وعمر بن عبد العزيز ، ومكحول ، وعطاء ، والزهري ، والأوزاعي ، وسعيد بن عبد العزيز : ما أدركت فاجعله أول صلاتك .

4036 - والذي يجيء على أصول هؤلاء ما قاله المزني ، وداود ، وإسحاق ، وليس عندي عنهم نص في ذلك .

4037 - واحتج القائلون بأن ما أدرك هو أول صلاته بقوله ، عليه السلام : " ما أدركتم فصلوا ، وما فاتكم فأتموا " . قالوا : والتمام هو الآخر .

4038 - واحتج الآخرون بقوله : " وما فاتكم فاقضوا " ; قالوا : فالذي يقضيه هو الفائت .

4039 - والحجج متساوية لكلا المذهبين من جهة الأثر والنظر ، إلا أن رواية من روى : " فأتموا " أكثر . والله أعلم .

4040 - إلا أنه ليس يطرد على أصل من قال : ما أدرك فهو أول صلاته ، إلا ما قال ابن أبي سلمة ، والمزني ، وإسحاق ، وداود .

4041 - وقد زعم بعض المتأخرين من أصحابنا أن من ذهب مذهب عبد العزيز [ ص: 44 ] بن أبي سلمة ، والمزني في هذه المسألة - أسقط الجهر في صلاة الليل ، وسنة السورة مع أم القرآن في الأوليين .

4042 - هذا ليس بشيء; لأن المأموم مأمور باتباع إمامه والإنصات معه . وإذا جاز أن يقعد معه في أولى له . ويقوم في ثانية وتنتقص رتبة صلاته معه ، فلا يضره ذلك ( لأنه أمر باتباعه ، فكذلك لا يضره سائر ذلك ) .

4043 - ألا ترى إلى إجماعهم أن من أدركه راكعا كبر ، وانحط ، ولا يقال له : أسقطت فرض القراءة وفرض الوقوف ، لما أمر به من اتباع إمامه .

4044 - وقد احتج داود بن علي بأن من أدرك الإمام يوم الجمعة في التشهد صلى ركعتين - بهذا الحديث : " ما أدركتم فصلوا ، وما فاتكم فاقضوا " ، أو " فأتموا " .

4045 - قالوا : والذي فاته ركعتان ، لا أربع ; فليس عليه إلا ما فاته ، وذلك ركعتان .

4046 - ولعمري إن هذا لقول لو لم يكن هناك ما يعارضه ، وينقض تأويل قول داود فيه ، وذلك قوله ، عليه السلام : " من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة .

4047 - وفي هذا القول دليل كالنص على أن من لم ( يدرك من الصلاة ركعة ، فلم يدرك الصلاة .

[ ص: 45 ] 4048 - ومعلوم أن من لم يدرك ) الجمعة صلى أربعا .

4049 - على أن داود قد جعل هذا الدليل أصلا لأحكام يرد بها كثيرا من الأصول الجسام ، وترك الاستدلال به في هذه المسألة .

4050 - وأما قوله : " فإن أحدكم في صلاة ما دام يعمد إلى الصلاة " فيدل على أن الماشي إلى الصلاة كالمنتظر لها ، وهما من الفضل فيما فيه المصلي - إن شاء الله - على ظاهر الآثار .

4051 - وهذا يسير في فضل الله ورحمته بعباده ، كما أنه من غلبه نوم على صلاة كانت له عادة - كتب له أجر صلاته ، وكان نومه عليه صدقة .

4052 - وكذلك من نوى الجهاد أو غيره من أعمال البر ، وقطعه عنه عائق عجزه . وفضل الله عظيم ، يمن به على من يشاء من عباده ، وليس فضائل الأعمال مما فيه للمقاييس مدخل ، والحمد لله .

التالي السابق


الخدمات العلمية