الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
154 128 - وأما حديثه عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " إذا نودي للصلاة أدبر الشيطان له ضراط ; حتى لا يسمع النداء ، ( فإذا قضي النداء أقبل ، حتى إذا ثوب [ ص: 48 ] بالصلاة أدبر ، حتى إذا قضي التثويب أقبل ، حتى يخطر بين المرء ونفسه ; يقول : اذكر كذا ، اذكر كذا ، لما لم يكن يذكر ، حتى يظل الرجل إن يدري كم صلى " . )


[ ص: 49 ] 4062 - الحديث ففيه أن من شأن الصلاة النداء لها . قال ، تعالى : وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوا ولعبا [ المائدة : 58 ] . وقال ، تعالى : إذا نودي للصلاة [ الجمعة : 9 ] .

4063 - وأجمع المسلمون على أن الأذان في المكتوبات على ما قد ذكرناه عنهم ، ولم يختلفوا أن ذلك واجب في المصر على جماعته .

4064 - واتفق مالك ، والشافعي ، وأبو حنيفة ، والأوزاعي ، والثوري ، وأبو ثور ، وأحمد ، وجماعة العلماء - على أن الرجل إذا صلى بإقامة في مصر قد أذن فيه فإنه يجزيه .

4065 - وجملة القول في الأذان أنه عند مالك وأصحابه سنة مؤكدة ، واجبة على الكفاية ، وليس بفرض ، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه . واختلف أصحاب الشافعي .

4066 - فمنهم من قال : هو فرض على الكفاية ، ومنهم من قال : هو سنة مؤكدة على الكفاية .

4067 - وهذا في القرى والأمصار التي فيها الجماعات .

4068 - وتحصيل مذهب مالك في الإقامة أنها سنة أيضا مؤكدة ، إلا أنها [ ص: 50 ] أوكد من الأذان عنده وعند أصحابه ، ومن تركها فهو مسيء ، وصلاته مجزية . وهو قول الشافعي وسائر الفقهاء فيمن ترك الإقامة ; أنه مسيء بتركها ، ولا إعادة عليه .

4069 - وقال أهل الظاهر ، والأوزاعي ، وعطاء ، ومجاهد : هي واجبة ، ويرون الإعادة على من تركها عامدا ، أو ناسيا .

4070 - وقد ذكرنا في التمهيد وجوه أقوالهم في ذلك ، وسنذكر في الباب بعد هذا أقوال العلماء في الأذان في السفر ووجوهه ، ونبينه بأبسط وأكمل من ذكرنا له هنا ، إن شاء الله .

4071 - وأما قوله : " أدبر الشيطان له ضراط " فهكذا رواه أبو الزناد ، عن الأعرج في نقل جماعة أصحاب أبي الزناد .

4072 - وقد روي فيه : " له حصاص " ، كذلك رواه سهيل ، عن أبيه ، عن أبي هريرة .

4073 - حدثنا عبد الوارث ، حدثنا قاسم ، حدثنا محمد بن غال ، حدثنا أمية بن بسطام ، حدثنا يزيد بن زريع ، حدثنا روح بن القاسم ، عن سهيل بن أبي صالح ، عن أبيه ، قال : سمعت أبا هريرة يروي عن النبي - عليه السلام - قال : " إن الشيطان إذا نودي للصلاة ولى وله حصاص " ، الحديث .

4074 - لما يلحقه من الذعر والخزي عند ذكر الله في الأذان ، وذكر الله تفزع منه القلوب ما لا تفزع من شيء من الذكر ; لما فيه من الجهر بالذكر ، وتعظيم الله فيه ، [ ص: 51 ] وإقامة دينه ; فيدبر الشيطان ; لشدة ذلك على قلبه ، حتى لا يسمع الأذان ، فإذا قضي النداء أقبل على طبعه وحيلته ; يوسوس في الصدور ، ويفعل ما يقدر مما قد سلط عليه ، حتى إذا ثوب بالصلاة - والتثويب هاهنا الإقامة - أدبر أيضا ، حتى إذا قضي التثويب - وهو الإقامة كما ذكرت لك - أقبل حتى يخطر بين المرء ونفسه ، فيوسوس في صدره ، ويشغله بذكر ما لا يحتاج إليه ; ليخلط عليه حتى لا يدري كم صلى . وقد زدنا هذا المعنى بيانا في التمهيد .

4075 - وفي هذا الحديث فضل للأذان عظيم ; ألا ترى أن الشيطان يدبر منه ، ولا يدبر من تلاوة القرآن في الصلاة ; بدليل قوله : " فإذا قضي التثويب أقبل " ؟ وحسبك بهذا فضلا لمن تدبر .

4076 - وروى سحنون ، والحارث بن مسكين ، عن ابن القاسم ، وابن وهب ، عن مالك ، قال : استعمل زيد بن أسلم على معدن بني سليم ، وكان معدنا لا يزال يصاب فيه الناس من قبل الجن ، فلما وليهم شكوا ذلك إليه ; فأمرهم بالأذان ، وأن يرفعوا أصواتهم به ، ففعلوا ; فارتفع ذلك عنهم ، فهم عليه حتى اليوم .

4077 - قال مالك : وأعجبني ذلك من رأي زيد بن أسلم .

4078 - وقد ذكرنا في " التمهيد " من رواية سفيان الثوري ، وجرير بن حازم ، عن سليمان الشيباني ، عن بشير بن عمرو ، قال : سمعت عمر بن الخطاب يقول : إن شيئا من الخلق لا يستطيع أن يتحول في غير خلقه ، ولكن للجن سحرة كسحرة الإنس ، فإذا خشيتم شيئا من ذلك فأذنوا بالصلاة .

4079 - وفي رواية الثوري ، عن الشيباني ، عن بشير بن عمرو ، قال : ذكرت [ ص: 52 ] الغيلان عند عمر بن الخطاب ; فقال : إن شيئا من الخلق لا يستطيع أن يتحول في غير خلقه ، وذكر تمام الخبر .

4080 - حدثنا سعيد بن نصر ، حدثنا قاسم ، حدثنا محمد ، حدثنا أبو بكر ، حدثنا أبو معاوية عن الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن جابر ، قال : قال النبي ، عليه السلام : " إذا نادى المؤذن بالصلاة هرب الشيطان حتى يكون بالروحاء " . وهي ثلاثون ميلا من المدينة .

4081 - وأما لفظ التثويب فمأخوذ من ثاب الشيء يثوب : إذا رجع ، كأن المقيم للصلاة عاد إلى معنى الأذان ، فأتى به .

4082 - يقال ثوب الداعي : إذا كرر دعاءه للحرب .

4083 - قال حسان بن ثابت :

في فتية كسيوف الهند أوجههم لا ينكلون إذا ما ثوب الداعي

.

4084 - وقال حذيفة في معناه :

لخير نحن عند الناس منكم     إذا الداعي المثوب قال : يالا

.

4085 - ويقال : ثاب إلى الرجل عقله ، وثاب إلى المريض جسمه : أي عاد إلى حاله .

4086 - قال عبد المطلب بن هاشم وهو بالمدينة عن أخواله بني النجار : [ ص: 53 ] فحنت ناقتي فعلمت أني غريب حين ثاب إلي عقلي .

4087 - وقال الشاعر :

لو رأينا التأكيد خطة عجز     ما شفعنا الأذان بالتثويب

.

4088 - وأما قوله : " حتى يظل الرجل أن يدري كم صلى " ; فإنه يريد : حتى يصير الرجل لا يدري كم صلى . والرواية في ( أن ) هاهنا عند أكثرهم بالفتح ; فيكون حينئذ بمعنى لا يدري .

4089 - وكذلك رواه جماعة الرواة عن مالك بهذا اللفظ : " حتى يظل الرجل إن يدري كم صلى " بكسر الهمزة ; فمعناه : ما يدري ما صلى ، ( وإن ) بمعنى ( ما ) كثير .

4090 - وقيل : يظل هاهنا بمعنى : يبقى لا يدري كم صلى ، وأنشدوا :

ظللت ردائي فوق رأسي قاعدا     أعد الحصى ما تنقضي عبراتي

.

التالي السابق


الخدمات العلمية