الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1282 - قال مالك : ومن استأجر عبدا بعينه أو تكارى راحلة بعينها إلى أجل . يقبض العبد أو الراحلة إلى ذلك الأجل ، فقد عمل بما لا يصلح . لا هو قبض ما استكرى أو استأجر ، ولا هو سلف في دين يكون ضامنا على صاحبه حتى يستوفيه .


[ ص: 176 ] 28649 - قال أبو عمر : أما قوله : لا يصلح التسليف في شيء بعينه ، فإن الأمة مجتمعة على أن السلف لا يكون في شيء بعينه ، وإنما التسليف في صفة معلومة ، لا يستكيل كيلا ، أو وزنا ، أو شيئا موصوفا مضمونا في الذمة إلى أجل معلوم ، وسنبين ذلك في باب السلم - إن شاء الله عز وجل .

28650 - وأما قوله : إلا أن يقبض المسلف ما سلف فيه عند دفعه الذهب إلى صاحبه .

28651 - والمعنى في ذلك أن من اشترى شيئا بعينه ، لا يمكن قبضه رجعة واحدة ، وإنما يقبض شيئا بعد شيء في الرطب ، وما كان مثله ، أو كإجارة العبد ، أو الدابة ، فإنه لا يجوز أن يشتريه بدين إلى أجل أنه كالدين بالدين ، ولا يجوز أن يشتريه بنقد ، ولا يشرع في قبض ما يمكن قبضه ، أو قبض أصله الذي إليه ذهب وإليه يقصد إلى شراء منفعته كالإجارة ; لأنه إن لم يقبضه لم يؤمن عليه الهلاك قبل القبض ، فيكون البائع قد انتفع بالثمن من غير عوض ، وأنه أيضا يشبه البيع ، والسلف المنهي عنه .

28652 - ولا أعلم خلافا أنه لا يجوز شراء عين مرئية غير مأمون هلاكها [ ص: 177 ] بشرط تأخير قبضها إلى أجل لا يؤمن قبله ذهابها ، لأنه من بيوع الغرر المنهي عنها .

28653 - وقد أجمعوا أن من شرط بيع الأعيان تسليم المبيع إلى المبتاع بأثر عقد الصفقة فيه نقدا كان الثمن أو دينا .

28654 - إلا أن مالكا ، وربيعة ، وطائفة من أهل المدينة أجازوا بيع الجارية المرتفعة على شرط المواضعة ، ولم يجيزوا فيه النقد .

28655 - وأبى ذلك جمهور أهل العلم ; لما في ذلك من عدم التسليم إلى ما يدخله من الدين في الدين .

28656 - وسيأتي القول في ذلك عند ذكره - إن شاء الله تعالى .

28657 - ومن معنى هذا الباب أيضا ما نذكره فيه .

28658 - كان ابن القاسم لا يجيز عن أحد أن يأخذ من غريمه في دين له عليه ثمرا قد بدا صلاحه ، ولا سكنى دار ، ولا جارية يتواضع ، ويراه من باب الدين بالدين .

28659 - وكان أشهب يجيز ذلك ، ويقول : ليس هذا من فسخ الدين بالدين ، وإنما الدين بالدين ما لم يشرع في أخذ شيء منه .

[ ص: 178 ] 28660 - وهذا هو القياس ، ألا يكون دينا بدين إلا ما اعترف الدين طرفيه .

28661 - وكان الأبهري يقول : القياس ما قاله أشهب .

28662 - وهو قول الكوفي ، والشافعي ، إذا قبض في الدين ما يبرئه إليه غريمه مما يقبض له مثله ، فقد خرج من الدين في الدين .

28663 - وفي " المدونة " قال مالك : كان الناس يتبايعون اللحم بسعر معلوم ، فيأخذ المبتاع كل يوم وزنا معلوما ، والثمن إلى العطاء ، ولم ير الناس بذلك بأسا .

28664 - قال : واللحم ، وكل ما يتبايعه الناس في الأسواق ، فهو كذلك ، وإن كل الثمن إلى أجل ، ولم يره من الدين بالدين .

28665 - وروى أبو زيد ، عن ابن القاسم أن ذلك لا يجوز إلا فيما يخشى عليه الفساد إذا أخذ جميعه مثل : الفاكهة ، وأما القمح ، وما كان مثله ، فلا يجوز .

28666 - قال أبو عمر : هذا لا يجوز عند الشافعي ، وجمهور العلماء ; لأن المتبايعين إذا تبايعا بدين ، وافترقا ، ولم يقبض المبتاع جميع ما ابتاعه ، فهو فيما لم يقبضه دين بدين .

28667 - وجملة قول مالك في هذا الباب أنه جائز عنده أن يسلم الرجل إلى الرجل في فاكهة في أوانها ، ولبن في أوانه ، أو لحم موصوف ، أو كباش [ ص: 179 ] موصوفة ، أو أرادب من قمح معلومة ، وما أشبه هذا كله على أن يشرع في قبض ما اشترى ، ويقبض في كل يوم شيئا معلوما ، ولا بأس عنده أن يتأخر النقد فيه إلى غير الأجل البعيد ، فإن لم يشرع في القبض كل يوم عندما سلف ، وكان في ذلك تأخير لم يجز أن يتأخر الثمن .

التالي السابق


الخدمات العلمية