الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
[ ص: 180 ] ( 15 ) باب بيع الفاكهة 28668 - قال مالك : الأمر المجتمع عليه عندنا ، أن من ابتاع شيئا من الفاكهة ، من رطبها أو يابسها ، فإنه لا يبيعه حتى يستوفيه ، ولا يباع شيء منها بعضه ببعض ، إلا يدا بيد ، وما كان منهما مما ييبس ، فيصير فاكهة يابسة تدخر وتؤكل ، فلا يباع بعضه ببعض ، إلا يدا بيد ومثلا بمثل ، إذا كان من صنف واحد ; فإن كان من صنفين مختلفين ، فلا بأس أن يباع منه اثنان بواحد ، يدا بيد ، ولا يصلح إلى أجل ، وما كان منها مما لا ييبس ولا يدخر وإنما يؤكل رطبا ، كهيئة البطيخ والقثاء والخربز والجزر والأترج والموز والرمان وما كان مثله ; وإن يبس لم يكن فاكهة بعد ذلك ، وليس هو مما يدخر ويكون فاكهة . قال : فأراه حقيقا أن يؤخذ منه من صنف واحد ، اثنان بواحد ، يدا بيد ، فإذا لم يدخل فيه شيء من الأجل ، فإنه لا بأس به .


28669 - قال أبو عمر : أما بيع الفاكهة رطبها ، ويابسها ، فلا أعلم خلافا بين فقهاء العراق ، والحجاز ، والشام ، والمشرق ، والمغرب أنه لا يباع شيء منها قبل القبض ، وهو الاستيفاء ، وقبض الشيء منها أن يبرأ البائع منه إلى مبتاعه ، ويمكنه من قبضه .

[ ص: 181 ] 28670 - والأصل في ذلك نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام حتى يستوفي .

28671 - وسيأتي هذا الحديث في موضعه من هذا الكتاب ، والقول فيه - إن شاء الله عز وجل .

28672 - وما يدخر من المأكول ، وما لا يدخر طعام كله ، فواجب ألا يباع شيء منه حتى يستوفى .

28673 - وأما التفاضل في المأكول ، والمشروب : 28674 - فالذي ذهب إليه مالك ، وأصحابه في ذلك هو أن كل ما يؤكل أو يشرب إذا كان يدخر ، وييبس في الأغلب ، فإن الربا فيها يدخله إذا كان واحدا من وجهين ، وهما : التفاضل ، والنسيئة ، فإن كانا جنسين مختلفين ، فلا ربا فيهما إلا في النسيئة ، وجائز بيع بعض ذلك ببعض متفاضلا يدا بيد .

28675 - وأما ما لا ييبس ، ولا يدخر مثل التفاح والإجاص ، والكمثرى ، والرمان ، والخوخ ، والموز ، والبطيخ ، وما أشبه ذلك مما قد اختلفت أسماؤه ، فلا بأس بالتفاضل فيه يدا بيد ، جنسا واحدا كان ، أو جنسين .

28676 - والجنس هو الصنف عندهم ، فالرمان صنف غير التفاح ، والتفاح صنف غير الخوخ ، وما أشبه ذلك على عرف الناس .

[ ص: 182 ] 28677 - وأصل ما ذهب إليه مالك في ذلك ما نقلته الكافة ، وروته الجماعة من نقل العدول من حديث عبادة وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " الذهب بالذهب ، والورق بالورق ، والبر بالبر ، والشعير بالشعير ، والتمر بالتمر ، والملح بالملح ، مثلا بمثل ، يدا بيد ، ومن زاد ، أو ازداد ، فقد أربى ، وبيع الذهب بالورق كيف شئتم يدا بيد " .

28678 - فلم يذكر من الطعام إلا ما يدخر ، وييبس ، وحرم في الجنس الواحد التفاضل ، والنسيئة معا ، وفي الجنس حرم النسيئة فقط ، وبالله التوفيق .

28679 - وأما الشافعي ، فالمأكول كله ، والمشروب كله كان مما يدخر ، أو لم يكن : لا يجوز عنده شيء منه بشيء من جنسه ، وصنفه متفاضلا ; لا يجوز عنده رمانة برمانتين ، ولا تفاحة بتفاحتين ، ولا بطيخة ببطيختين يدا بيد ، ويدخله الربا في الجنس الواحد في الوجهين : النسيئة والتفاضل ، على حسب ما هو عند مالك فيما يدخر من الطعام ، فإذا اختلف الجنسان جازا ، متفاضلين يدا بيد ، والطعام المدخر ، وغير المدخر ، والمقتات ، وغير المقتات من المأكولات عنده سواء ، لا يجوز منه شيء بأكثر من وزنه إن كان يوزن ، أو كيله إن كان يكال ، وفي [ ص: 183 ] الجنس الواحد ، وإذا اختلف الجنسان جاز التفاضل دون النسيئة .

28680 - والخلاف بينه وبين مالك في هذا الباب إنما هو فيما يدخر من الفاكهة وما أشبهها .

28681 - واختلف قول مالك ، وأصحابه في البيض على قولين .

28682 - ( أحدهما ) : أنه لا يجوز فيه التفاضل يدا بيد .

28683 - ( والأخرى ) : أنه يجوز متفاضلا يدا بيد .

28684 - والمشهور من مذهبه أن البيض مما يدخر لا يجوز منه واحدة باثنتين ، وأجاز بيع الصغير بالكبير منه .

28685 - وقال في بيض الدجاج ، والإوز وبيض النعام : إذا تحرى أن يكون مثلا بمثل جاز .

28686 - وأما أبو حنيفة ، وأصحابه ، فالجنس عندهم بانفراده تحرم فيه النسيئة .

28687 - وكذلك الكيل والوزن ، كل واحد منها بانفراده تحرم فيه النسيئة .

28688 - وأما التفاضل ، فلا يحرم إلا بإجماع الجنس والكيل والوزن ، فلا يجوز عندهم العصفر بالعصفر ، ولا القطن بالقطن ، ولا الحديد بالحديد إلا مثلا بمثل ، [ ص: 184 ] يدا بيد كالمأكول عند الجميع من الجنس الواحد ، فإن اختلف الجنسان جاز فيهما التفاضل دون النسيئة كالذهب والورق .

28689 - وروي عن عمار بن ياسر من طريق ليس بالقوي جدا أنه قال : كل ما كيل ، أو وزن ، ألا يباع صنف منه بصنف آخر إلا مثلا بمثل ، وما لا يكال ، ولا يوزن ، فلا ربا فيه إلا في النسيئة .

28690 - وهو قول إبراهيم .

28691 - وأجاز أبو حنيفة ، وأصحابه بيع تمرة بتمرتين ، وبيضة ببيضتين ، وجوزة بجوزتين إذا كانت شيئا بعينه قد خرج على الكيل والوزن .

28692 - وهو قول الأوزاعي في البيضة بالبيضتين ، والجوزة بالجوزتين .

28693 - وقال الشافعي ، والثوري : لا يجوز تمرة بتمرتين ، ولا بتمرة أكبر منها ; لأن الأصل في التمر تحريم التفاضل .

28694 - واحتج من أجاز ذلك بأن مستهلك التمرة ، والتمرتين يلزمه فيها القيمة دون المثل ، لأنه لا مكيل ، ولا موزون ; لأن أصله الكيل ، ولا يدرك بالكيل ، ولا يصرف المكيل عندهم إلى الوزن .

28695 - وقال ابن أبي ليلى : لا يجوز رطل سمك برطلين .

[ ص: 185 ] 28696 - وأما أحمد بن حنبل ، فقال : لا أنظر في هذا الباب إلى الكيل ، والوزن إذا كان مما لا يؤكل ، ولا يشرب ، ولا ينظر إلى ما يؤكل ، أو يشرب إذا كان مما لا يأخذه الكيل والوزن ، وإنما الربا فيما يكال ، أو يوزن مما يؤكل ، أو يشرب على قول سعيد بن المسيب ، وما عدا ذلك ، فلا بأس به يدا بيد . ونسيئة .

28697 - وهذا كان قول الشافعي ببغداد ، ثم ضم بمصر إلى ما يكال ، أو يوزن ما لا يؤكل ، أو يشرب ، وإن كان مما لا يوزن ولا يكال ; لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الطعام بالطعام إلا مثلا بمثل .

28698 - وهذا محمول على الجنس الواحد بدليل قوله صلى الله عليه وسلم : " الذهب بالورق ، والبر بالشعير ، كيف شئتم يدا بيد إلا ما اختلفت ألوانه " ، وسنذكر الحديث في ذلك في باب بيع الطعام بالطعام - إن شاء الله عز وجل .

28699 - قال أبو عمر : قول سعيد بن المسيب : لا ربا إلا في كذا يدل على أن ذلك توقيف ، لا رؤيا ، والله أعلم .

وسيأتي حديثه ذلك في موضعه - إن شاء الله عز وجل .

التالي السابق


الخدمات العلمية