الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1342 [ ص: 7 ] ( 20 ) باب ما يكره من بيع الطعام إلى أجل .

1303 - مالك ، عن أبي الزناد ، أنه سمع سعيد بن المسيب ، وسليمان بن يسار ينهيان أن يبيع الرجل حنطة بذهب إلى أجل . ثم يشتري بالذهب تمرا ، قبل أن يقبض الذهب .

1304 - مالك ، عن كثير بن فرقد ، أنه سأل أبا بكر بن محمد بن عمرو بن حزم : عن الرجل يبيع الطعام من الرجل بذهب إلى أجل ، ثم يشتري بالذهب تمرا قبل أن يقبض الذهب ؟ فكره ذلك ، ونهى عنه .

1305 - مالك ، عن ابن شهاب ، بمثل ذلك .

[ ص: 8 ] 29001 - قال مالك : وإنما نهى سعيد بن المسيب ، وسليمان بن يسار ، وأبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ، وابن شهاب ، عن أن لا يبيع الرجل حنطة بذهب ، ثم يشتري الرجل بالذهب تمرا قبل أن يقبض الذهب من بيعه الذي اشترى منه الحنطة . فأما أن يشتري بالذهب التي باع بها الحنطة ، إلى أجل ، تمرا من غير بائعه الذي باع منه الحنطة قبل أن يقبض الذهب ويحيل الذي اشترى منه التمر على غريمه الذي باع منه الحنطة بالذهب التي له عليه في ثمر التمر ، فلا بأس بذلك .

قال مالك : وقد سألت عن ذلك غير واحد من أهل العلم ، فلم يروا به بأسا .


29002 - قال أبو عمر : ما ذكره مالك ، ( وفسر به ) قول سعيد ، وسليمان ، وأبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ، وابن شهاب ، فهو كما ذكر لا خلاف علمته بين العلماء في ذلك إذا كان البائع للطعام قد اشترى طعاما من غير الذي باعه منه ، ثم أحاله بثمن ما اشتراه من ثمنه الذي باعه منه طعامه ؛ لأنها حوالة لا يدخلها شيء من بيع طعام بطعام .

29003 - وإنما اختلف العلماء فيما كرهه سعيد ، وسليمان وأبو بكر ، وابن شهاب :

29004 - فقالت طائفة من العلماء بقولهم : إنه لا يجوز لبائع الطعام أن يأخذ [ ص: 9 ] من مبتاعه منه في ثمنه طعاما إذا حل الأجل ؛ لأن الطعام بالطعام ، لا يجوز فيه النسيء ، وجعلوا ذكر الذهب لغوا ؛ لأن بائع الحنطة بالذهب إذا أخذ في الذهب تمرا لم يحصل بيده الإطعام بدلا من طعام باعه إلى أجل .

29005 - قال عيسى بن دينار : سألت ابن القاسم عن رجل باع طعاما بمائة دينار إلى شهر ، فلما حل الأجل اشترى بائع الطعام من رجل آخر طعاما ، فأحاله عليه بالثمن .

قال : لا بأس به .

29006 - قال مالك : وإنما نهى سعيد بن المسيب ، وسليمان بن يسار ، وأبو بكر بن حزم ، وابن شهاب عن أن يبيع الرجل حنطة بذهب ، فذكر مسألة " الموطأ " إلى آخر قوله فيها .

29007 - قال عيسى : قلت لابن القاسم : فلو أحال الذي عليه المائة الدينار بائع الطعام على غريم له عليه مائة دينار ، فيجوز لبائع الطعام أن يأخذ من الذي أحال عليه بالمائة طعاما .

قال : لا يجوز ذلك .

29008 - قال أبو عمر : لا فرق بين ذلك في قياس ، ولا أثر ، لأنه طعام مأخوذ من ثمن طعام من غير المشترى له .

29009 - قال أبو عمر : وقد أجاز جماعة من أهل العلم لمن باع طعاما [ ص: 10 ] إلى أجل ، فحل الأجل أن يأخذ بثمن طعامه ما شاء طعاما ، وغيره .

29010 - وكذلك اختلفوا في الرجل يبيع سلعته بدراهم إلى أجل ، فحل الأجل ، هل له أن يأخذ فيها ذهبا أم لا ؟ 29011 - فمذهب مالك ، وأصحابه أن ذلك جائز في الدراهم من الدنانير والدنانير من الدراهم يأخذها ، لما اتفقا عليه من الصرف . في حين التراضي قبل الافتراق .

29012 - وهو قول أبي حنيفة ، وأصحابه ، إذا تقابضا في المجلس .

29013 - وقال عثمان البتي : يأخذ الدنانير من الدراهم ، والدراهم من الدنانير بسعر يومه ، فإن افترقا لم يجز عند جميعهم ، وكان على المبتاع الدراهم التي ابتاع بها السلعة حتى يتفقا ، ويتقابضا قبل الافتراق .

29014 - ولم يجز مالك ، ولا أبو حنيفة أن يأخذ من ثمن الطعام المبيع إلى أجل طعاما ، وجعلوه طعاما بطعام ليس يدا بيد .

29015 - قال مالك فيمن له على رجل دراهم حالة فإنه يأخذ دنانير عنها إن شاء ، وإن كانت إلى أجل لم يجز أن يبيعها بدنانير ، ويأخذ في ذلك عوضا إن شاء .

[ ص: 11 ] 29016 - وقال أبو حنيفة وأصحابه : جائز أن يأخذ الدنانير بالدراهم ، والدراهم من الدنانير ، حل الأجل أو لم يحل إذا تقابضا في المجلس .

29017 - وأما الشافعي فقوله في أخذ الدراهم من الدنانير ، وأخذ الدنانير من الدراهم .

29018 - وهو قول مالك ، وأبي حنيفة .

29019 - وقال في الطعام من ثمن الطعام بخلافهما لا فرق عنده بأخذ الدنانير من دراهم ، أو طعام من ثمن طعام مخالف لاسمه .

29020 - قال : ومن باع طعاما إلى أجل فحل الأجل فلا بأس أن يأخذ بالثمن طعاما .

29021 - وهو قول الثوري ، والأوزاعي ، والحسن البصري ، وابن سيرين ، وجابر بن زيد .

29022 - وروى الثوري عن حماد فيمن باع طعاما إلى أجل ثم حل الأجل فلا بأس أن يشتري منه بدراهمه طعاما .

[ ص: 12 ] 29023 - وهو قول ابن شبرمة .

29024 - وكرهه عطاء .

29025 - وقال الثوري : لا بأس به ، وقال مرة أخرى : أحب إلي ألا يأخذ شيئا مما يكال ، أو يشرب .

29026 - وقال ابن شبرمة : لا يجوز أن يأخذ عن دراهم دنانير ولا عن دنانير دراهم ، وإنما يأخذ ما أقرض وعين ما باع .

29027 - قال أبو عمر : قول ابن شبرمة صده قول مالك في الوجهين ، لأنه أجازه في الطعام ، وكرهه في الدراهم .

29028 - وقال الحسن بن حي : أكره أن يأخذ في ثمن ما يكال شيئا يكال ، ويأخذ ما لا يكال ، وكذلك إذا باع مالا يوزن أكره أن يأخذ شيئا يوزن ، ويأخذ ما لا يوزن ، لا يأخذ من الحنطة تمرا ، ولا من السمن زيتا .

29029 - وهو قول ابن شهاب .

29030 - وقال الليث بن سعد : إذا كان له عليه دين مؤجل دونهم ، ولكن عليه دنانير لم يجز أن يبيع أحدهما بالآخر ، لأنه صرف إلى أجل ، ولو كان الأجل حل ، وهذا كقول مالك سواء .

29031 - وروى الشيباني عن عكرمة ، عن ابن عباس أنه كره اقتضاء [ ص: 13 ] الذهب من الورق ، والورق من الذهب .

29032 - وعن ابن مسعود مثله .

29033 - وعن ابن عمر أنه لا بأس به .

29034 - وذكر عبد الرزاق ، عن ابن عيينة قال : قلت لعمرو بن دينار : أرأيت إذا بعت طعاما بذهب فحلت الذهب ، فجئت أطلبه فلم أجد عنده ذهبا ، فقال : خذ مني طعاما ، فقال : كره طاوس أن يأخذ منه طعاما .

29035 - وقال أبو الشعثاء : إذا حل دينك فخذ ما شئت .

29036 - قال : وأخبرنا معمر عن أيوب ، عن ابن سيرين ، قال : إذا بعت شيئا ، طعاما ، أو غيره بدين فحل الأجل فخذ ما شئت من ذلك النوع أو غيره .

29037 - قال : وأخبرنا الثوري عن حماد ، وابن سيرين ، عن رجل باع حنطة بدين إلى أجل قال : يأخذ طعاما ، وغير ذلك إذا حل .

29038 - قال : وأخبرنا معمر عن تميم بن خويص أنه أخبره عن أبي الشعثاء جابر بن يزيد قال : إذا بعت بدنانير فحل الأجل فخذ بالدنانير ما شئت .

[ ص: 14 ] 29039 - وأخبرنا معمر عن الزهري قال : إذا بعت شيئا مما يكال أو يوزن بدينار ، فلا تأخذ شيئا مما يكال أو يوزن إلا أن يصرفك إلى غير ذلك ، وإن بعت شيئا مما يكال ، فصرفك إلى شيء مما يوزن فخذه ، إلا أن يكون طعاما .

29040 - قال أبو عمر : المكيل كله عنده صنف واحد .

29041 - وهو مذهب أكثر الكوفيين ، فلا يجوز عندهم أن يؤخذ من الصنف الواحد غيره لمن وجب ذلك له من بيع أو سلم .

29042 - ولا أرى أن يأخذ من الصنف بدلا من ثمنه إلا مثل ما أعطى لا زيادة ، كما لا يجوز عند مالك في البر إذا باعه أن يأخذ في ثمنه تمرا أو زبيبا ، ولا أن يأخذ برا إلا مثل كيل البر الذي باعه في صفته وجود به ؛ لأنه بعده حينئذ برضا جر زيادة ، وسنذكر الأصناف عند مالك وغيره في باب بيع الطعام بالطعام ، إن شاء الله تعالى .

29043 - قال أبو عمر : أما من كره أن يأخذ من الدراهم دنانير ، ومن الدنانير دراهم ، فحجته حديث أبي سعيد ، وغيره ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل ، ولا تشفوا بعضها على بعض ، ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلا بمثل ، ولا تشفوا بعضها على بعض ، ولا تبيعوا منها شيئا [ ص: 15 ] غائبا بناجز " .

29044 - ففي قوله : لا تبيعوا منها غائبا بناجز ما يدل على أنه لا يجوز أن يأخذ من الدراهم دنانير ، لأن الغائب منها ما في الذمة من الدين ، والناجز ما يأخذه .

29045 - وهو مذهب ابن عباس ، وابن مسعود ، ومن قال بقولهما على ما ذكرنا عنهم في هذا الباب .

29046 - وأما من أجاز أخذ الدراهم من الدنانير ، والدنانير من الدراهم حجته حديث سماك بن حرب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عمر ، قال : كنت أبيع الإبل بالبقيع ، أبيع بالدنانير ، وآخذ الدراهم ، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير ، فسألت عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " لا بأس بذلك إذا كان بسعر يومكما " .

29047 - حدثني عبد الله بن محمد ، قال : حدثني محمد بن بكر ، قال : حدثني أبو داود ، قال : حدثني موسى بن إسماعيل ، ومحمد بن محبوب قالا : حدثني حماد بن سلمة ، عن سماك بن حرب ، عن سعيد بن جبير قال : كنت أبيع الإبل بالبقيع ، فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم ، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير ، آخذ هذه من هذه ، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك ؟ فقال : " لا بأس أن تأخذها بسعر يومها " .

[ ص: 16 ] 29048 - قال أبو داود : رواه إسرائيل ، عن سماك ، لم يذكر فيه : بسعر يومهما .

29049 - قال أبو عمر : حديث إسرائيل حدثناه سعيد ، وعبد الوارث ، قال : حدثني قاسم ، قال : حدثني جعفر بن محمد بن مثنى الصائغ ، قال : حدثني محمد بن سائق ، قال : حدثني إسرائيل عن سماك بن حرب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عمر ، قال : كنت أبيع الإبل ببقيع الفرقد ، كنت أبيع بالدنانير وآخذ الدراهم ، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير ، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يريد أن يدخل حجرته ، فذكرت ذلك له ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا أخذت أحدهما بالآخر فلا تفارقه وبينك وبينه بيع " .

29050 - ورواها أبو الأحوص ، عن سماك بنحو رواية إسرائيل .

29051 - فمن أجاز ذلك في الدين الحال والآجل قال : لما لم يسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك دل على استواء الحال عنده ، ولو كان بينهما فرق في الشرع لوقفه عليه .

29052 - ومن قال : لا يجوز إلا في الحال دون الآجل .

قال : والآجل : هو الغائب الذي لا ينسب بيعه بناجز ولا بغائب مثله ، [ ص: 17 ] وإنما الحال بالذمة فيه كالعين الظاهرة إذا اجتمعا وتقابضا ولم يفترقا إلا بعد القبض .

29053 - ومن جعل الطعام بالطعام ، كالدنانير بالدراهم في ذلك ، قال : لما أجمعوا أن البر بالبر ربا إلا هاء وهاء ، والذهب بالذهب ربا إلا هاء وهاء ، وثبتت بذلك السنة المجتمع عليها ، ثم وردت السنة في حديث ابن عمر في أن قبض الدنانير من الدراهم جائز لا بأس به ، كانت مفسرة كذلك وكان قبض الطعام من ثمن الطعام كقبض الدنانير من الدراهم ، والدراهم من الدنانير ، لأنه بيع مستأنف لم يمنع الله منه ، ولا رسوله صلى الله عليه وسلم .

29054 - ومن فرق بين الطعام من الطعام ، وبين الدراهم من الدنانير ترك القياس ولم يعد بالرخصة موضعا .

29055 - وأما ابن شبرمة في تجويزه ذلك في الطعام من الطعام ، وإبايته لذلك في الدنانير من الدراهم ، فلأنه لم يبلغه حديث ابن عمر ، ورأى أن ثمن [ ص: 18 ] الطعام جائز لربه التصرف فيه بما شاء من المبتاع وغيره ، وأنه لا يحل تهمة مسلم ، ولو قضى بالظن عليه أنه أراد طعاما بطعام إلى أجل ، والربا لا يكون إلا لمن قصد إليه وأراده كما قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إنما الربا على من أراد أن يربي ، وقد تقدم في باب الصرف حكم التصارف في الدينين .

التالي السابق


الخدمات العلمية