الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
[ ص: 60 ] 29254 - قال مالك ، في رجل له على رجل طعام ابتاعه منه ، ولغريمه على رجل طعام مثل ذلك الطعام ، فقال الذي عليه الطعام لغريمه : أحيلك على غريم ، لي عليه مثل الطعام الذي لك علي ، بطعامك الذي لك علي .

29255 - قال مالك : إن كان الذي عليه الطعام إنما هو طعام ابتاعه ، فأراد أن يحيل غريمه بطعام ابتاعه ، فإن ذلك لا يصلح ، وذلك بيع الطعام قبل أن يستوفى ، فإن كان الطعام سلفا حالا ، فلا بأس أن يحيل به غريمه ، لأن ذلك ليس ببيع ، ولا يحل بيع الطعام قبل أن يستوفى . لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، غير أن أهل العلم قد اجتمعوا على أنه لا بأس بالشرك والتولية والإقالة في الطعام وغيره .

29256 - قال مالك : وذلك أن أهل العلم أنزلوه على وجه المعروف ، ولم ينزلوه على وجه البيع ، وذلك مثل الرجل يسلف الدراهم النقص ، فيقضى دراهم وازنة فيها فضل ، فيحل له ذلك ، ويجوز ولو اشترى منه دراهم نقصا ، بوازنة لم يحل ذلك ، لو اشترط عليه حين أسلفه وازنة ، وإنما أعطاه نقصا لم يحل له ذلك .

1312 - قال مالك : ومما يشبه ذلك ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع المزابنة وأرخص في بيع العرايا بخرصها من التمر ، وإنما فرق بين ذلك : أن بيع المزابنة بيع على وجه المكايسة والتجارة ، وأن بيع العرايا على وجه [ ص: 61 ] المعروف ، لا مكايسة فيه .


29257 - قال أبو عمر : أما قوله في أن الحوالة بالطعام إذا كان من بيع لا يجوز ، وإذا كان من قرض جاز ، فقد مضى القول بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما نهى عن بيع الطعام قبل أن يستوفى من ابتاعه لا من ملكه بأي وجه كان ، لأنه صلى الله عليه وسلم قال : " من ابتاع طعاما ، فلا يبعه حتى يستوفيه " ، أو قال : حتى يقبضه ، فخص مبتاع الطعام بذلك ، لأنه في ضمان غيره ، لا في ضمانه ، وجاز للوارث بيعه قبل أن يستوفيه ، لأنه غير مضمون على غيره .

29258 - وخالف الشافعي مالكا في القرض ، فلم ير بيعه قبل قبضه ، لأنه من ضمان المستقرض .

29259 - وأما الحوالة به ، فرأى مالك أن الحوالة إن كانت نقل ذمة إلى ذمة ، وتحول ما على ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه برضا المستحيل ، فإنه عنده بيع من البيوع ، لأن البيع كل ما تعاوض عليه المتعاوضان ، فلم تجز الحوالة في الطعام لمن ابتاعه كما لا يجوز بيعه قبل قبضه .

29260 - وقول الشافعي في ذلك كقول مالك .

29261 - قال الشافعي : ولرجل عليه طعام ، فأحال به على رجل له عليه [ ص: 62 ] طعام لم يجز من قبل أن أصل ما كان له بيع ، وإحالته به بيع منه له بالطعام الذي عليه بطعام على غيره .

29262 - وأما أبو حنيفة ، وأصحابه ، فلا بأس عندهم بالحوالة ، في السلم كله طعاما كان ، أو غيره ، وهو عندهم من باب الكفالة ، وجائز عندهم للمسلم أن يستحيل بما سلم فيه على من أحاله عليه المسلم إليه كما له أن يأخذ به رهنا ، وكفلا ، وأخرجوا الحوالة من البيع ، كما أخرجها الجميع من باب الدين بالدين ومن باب البيع أيضا .

29263 - ولو كانت الحوالة من البيع ما جاز أن يستحيل أحد بدنانير من دنانير ، أو بدراهم من دراهم ، لأنه ليس هاء وهاء .

29264 - وأما قول مالك ، بأن أهل العلم قد أجمعوا أنه لا بأس بالشركة والتولية ، والإقالة في الطعام ، وغيره إلى آخر كلامه .

29265 - وأحسبه أراد أهل العلم في عصره ، أو شيوخه الذين أخذ عنهم .

29266 - وأما سائر العلماء ، فإنهم لا يجيزون الشركة ، ولا التولية في الطعام لمن ابتاعه قبل أن يقبضه ، فإن الشركة ، والتولية بيع من البيوع .

29267 - وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام قبل قبضه .

29268 - وستأتي هذه المسألة في بابها - إن شاء الله عز وجل .

[ ص: 63 ] 29269 - وأما قوله : أنزلوه على وجه المعروف ، قال : المعروف عند غيره من العلماء ليس بمعارضة ، ولا بدل في غيره ، وإنما هو إحسان لا عوض منه إلا الشكر والأجر .

29270 - وأما السلف الذي هو القرض ، فقد وردت السنة المجتمع عليها فيه أن خير الناس أحسنهم قضاء ، وأن الزيادة فيه إذا اشترطت ربا ، وليس هكذا سبيل البيوع ، والعرايا بيع مخصوص في مقدار لا يتعدى .

29271 - وقد أنكروا على أبي حنيفة إذ لم يجعلها من البيوع .

29272 - وقد مضى ما للعلماء في العرايا ، مما أغنى عن تكراره هاهنا ، والحمد لله .

التالي السابق


الخدمات العلمية