الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
[ ص: 69 ] ( 24 ) باب الحكرة والتربص .

1313 - مالك ، أنه بلغه أن عمر بن الخطاب قال : لا حكرة في [ ص: 70 ] سوقنا . لا يعمد رجال بأيديهم فضول من أذهاب ، إلى رزق من رزق الله نزل بساحتنا ، فيحتكرونه علينا ، ولكن أيما جالب جلب على عمود كبده في الشتاء والصيف ، فذلك ضيف عمر ، فليبع كيف شاء الله . وليمسك كيف شاء الله .

1314 - مالك ، عن يونس بن يوسف ، عن سعيد بن المسيب ، أن عمر بن الخطاب مر بحاطب بن أبي بلتعة ، وهو يبيع زبيبا له بالسوق . فقال له عمر بن الخطاب : إما أن تزيد في السعر . وإما أن ترفع من سوقنا .

1315 - مالك ، أنه بلغه : أن عثمان بن عفان كان ينهى عن الحكرة .


[ ص: 71 ] 29297 - قال أبو عمر : أما النهي عن الحكرة ، فقد روي فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم عن الحكرة من وجه صحيح ، إلا أن معناها الطعام الذي يكون قوتا عند الحاجة إليه .

29298 - حدثني سعيد بن نصر ، قال : حدثني قاسم بن أصبغ ، قال : حدثني محمد ، قال حدثني أبو بكر ، قال حدثني يزيد بن هارون ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن إبراهيم ، عن سعيد بن المسيب ، عن معمر بن عبد الله بن نضلة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يحتكر إلا خاطئ " .

29299 - ورواه محمد بن فضيل ، عن ابن إسحاق بإسناده مثله ، وزاد قال : وكان معمر محتكرا .

29300 - ورواه ابن عجلان ، عن محمد بن عمرو ، عن سعيد بن المسيب ، عن معمر بن عبد الله ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سمعه يقول : " لا يحتكر إلا خاطئ " [ ص: 72 ] 29301 - قال : فكان سعيد بن المسيب يحتكر ، فقيل له : فقال : كان معمر يحتكر .

29302 - قال أبو عمر : إنما كان سعيد بن المسيب ، ومعمر يحتكران الزيت ، وليس عليه مخرج الحديث .

29303 - حدثني سعيد بن نصر ، وعبد الوارث بن سفيان ، قالا : حدثني قاسم بن أصبغ ، قال : حدثني محمد بن وضاح ، قال : حدثني أبو بكر بن أبي شيبة ، قال : حدثني أبو أسامة ، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر ، قال : حدثني القاسم بن أمامة ، قال : نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يحتكر الطعام .

29304 - قال : وروى ابن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، قال : رأيت جرار سعيد بن المسيب التي كان يحتكر فيها الزيت قد أخرجت ، وأقيمت في الطريق .

29305 - قال أبو عمر : وأما حديث عمر في قصة حاطب ، فروى سفيان بن عيينة عن كثير بن المطلب بن أبي وداعة ، عن عبد الله بن واقد بن عبد الله بن عمر : أن عمر بن الخطاب قال : من جاء أرضا بسلعة ، فليبعها كيف شاء ، وهذا سوقنا ، ولا يبع في سوقنا محتكر .

[ ص: 73 ] 29306 - وذكر عبد الله بن وهب ، قال : أخبرني عمرو بن الحارث أنه سمع عبد الرحمن بن القاسم ، وعمر بن عبد الله بن عروة بن الزبير ، ويحيى بن سعيد ، وذكر رجل في المجلس قول عمر بن الخطاب لحاطب بن أبي بلتعة : إما أن يبيع بسعر السوق ، وإما أن يخرج من سوقنا ، فقالوا جميعا : قد سمعنا هذا ، قالوا : قال ابن وهب : وقال لي ابن سمعان : من فعل هذا من الولاة لا أصل أصاب ، ومن أقام على الناس ما بأيديهم من السلع جهل السنة ، وأثم في القيمة ، وأطعم المشتري بما لا يصلح له ، وإنما السعر يدا بيد ، هو يخفضه ، ويرفعه ليس إلى الناس من ذلك شيء .

29307 - قال : وسمعت مالك بن أنس يقول : لا يسعر على أهل الأسواق فإن ذلك ظلم ، ولكن إذا كان في السوق عشرة أصوع ، فحط هذا صاعا أمر أن يخرج من السوق .

29308 - وقال ابن القاسم ، عن مالك : لا تقوم على أحد سلعته ، وإنما يصنع في ذلك كما صنع ابن الخطاب بحاطب .

29309 - قال ابن القاسم : الفواكه كلها ، والآدام ، والطعام ، وجميع الأشياء لا يقوم شيء منها بشيء منها على أهل الحوانيت ، ولا غيرهم ، وإنما يقال للواحد والاثنين : إما أن تلحقا بأسعار الناس ، وإما قوما من السوق .

[ ص: 74 ] 29310 - قال : وإن كان واحدا ، واثنين ، أو ثلاثة رفعوا في السعر فحطوا مما يبيع الناس لم يقم لهم أهل السوق ، ولا يقام الكثير للقليل .

29311 - وأما الحكرة ، فإن مالكا قال : إذا قل الطعام في السوق ، واحتاج الناس إليه ، فمن اشترى منه شيئا للحكرة ، فهو مضر للمسلمين معتد في فعله ذلك ، فمن فعله ، فليخرجه إلى السوق ، وليبعه من أهل السوق بما ابتاعه ، ولا يزدد فيه ، وأما إذا كثر الطعام في الأسواق ، وباروا ، استغنى المسلمون عنه ، فلا بأس حينئذ بالابتياع للحكرة ، قال : وجميع الأشياء في ذلك كالطعام .

29312 - قال أبو عمر : روى عبد العزيز بن محمد الدراوردي ، عن داود بن صالح التمار أنه سمع القاسم بن محمد يقول : مر عمر بن الخطاب بحاطب ، وهو يبيع زبيبا ، فقال له عمر : كيف تبيع ؟ فذكر له سعرا ، فقال له عمر : إما أن تزيد في السعر ، وإما أن ترفع ، فرفع ، فجاء عمر بنفسه ، ثم رجع إلى حاطب ، فقال له : إنما أخبرت أن عيرا مقبلة من الطائف بزبيب ، فأحببت أن تعتبر بسعرك ، فبع كيف شئت .

29313 - هكذا رواه طائفة عن الدراوردي منهم : ابن وهب ، وأبو أحمد الزبيري .

[ ص: 75 ] 29314 - وعنه داود بن صالح التمار في هذا المعنى حديث مرفوع رواه عن أبيه وعن أبي سعيد الخدري ، وداود هذا مدني مولى للأنصار وليس به بأس .

29315 - وأما الشافعي ، فروى عن الدراوردي ، عن داود بن صالح التمار ، عن القاسم بن محمد ، عن عمر أنه مر بحاطب بن أبي بلتعة ، وبين يديه غرارتان ، فيهما زبيب ، فذكر نحو حديث مالك : إما أن ترفع في السعر ، وإما أن تدخل زبيبك بيتك ، فتبيعه كيف شئت ، فلما رجع عمر حاسب نفسه ، ثم أتى حاطبا في داره ، فقال له عمر : إن الذي قلت ليس بعزيمة مني ، ولا قضاء ، وإنما هو شيء [ ص: 76 ] أردت به الخير لأهل البلد ، فحيث شئت ، وكيف شئت فبع .

29316 - قال الشافعي : وليس هذا بخلاف لما رواه مالك ، لأن مالكا روى بعض الحديث ، وهذا العصاة .

29317 - قال الشافعي : والناس مسلطون على أحد لهم ، ليس لأحد أن يأخذها ، ولا شيئا منها بغير طيب أنفسهم إلا في المواضع التي أوجب الله تعالى عليهم فيها الحقوق ، وليس هذا منها .

29318 - قال الشافعي : والحكرة المكروهة فيما هو قوت ، وعن الناس قوام لأبدانهم كالحنطة والشعير ، وما كان مثلها عند عدمها . فلا يجوز لأحد الحكرة في حاجة الناس حتى لا يجدوا منه إلا ما يتبلغون به .

فحينئذ لا ينبغي لأحد أن يخرج ذهبه ، وورقه ، فيزاحم الناس على شر الطعام ليحتكره ، ويغلي على الناس أسعارهم ، وليمنع من ذلك ، ويؤدب عليه . وأما الفاكهة ، والآدام كله ، فلا بأس بحكرته في كل وقت ، وكان سعيد بن المسيب يحتكر الزيت .

29319 - وقول أبي حنيفة ، وأصحابه في الحكرة نحو ذلك ، وقالوا : لا يجوز التسعير على الناس ، ولا يصلح ، لأن الله عز وجل يقول : لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم 4 [ النساء : 29 ] .

29320 - وقال الليث بن سعد : وهو قول ربيعة ، ويحيى بن سعيد : لا بأس [ ص: 77 ] بالتسعير على البائعين للطعام إذا خيف منهم أن يفسدوا أسواق المسلمين ، ويغلوا أسعارهم ، وحق على الوالي أن ينظر للمسلمين فيما يصلحهم ، ويعمهم نفعه .

29321 - قال الليث : وقال ربيعة : السوق موضع عصمة ، ومنفعة للمسلمين ، فلا ينبغي للوالي أن يترك أهل الأسواق ، وما أرادوه من أنفسهم إذا كان في [ ص: 78 ] ذلك فساد لغيرهم ، ولو كان في ذلك إخراجهم من السوق ، وإدخال غيرهم فيه ، والقيمة حسنة ولا بد منها عند الحاجة إليها مما لا يكون فسادا ينفر به الجالب ، ويمتنع به التاجر من البيع ، لأن ذلك أيضا باب فساد لا يدخل على الناس ، ولم يكن رأي الوالي إقامة السوق ، وإصلاحها .

29322 - قال ربيعة : وإصلاح الأسواق حلال .

29323 - وقال أبو عمر : روي عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يمنع من التسعير من وجوه صحيحة لا بأس بها .

29324 - حدثني عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثني قاسم بن أصبغ ، قال : حدثني قاسم بن إسماعيل ، قال : حدثني عبد العزيز بن عبد الله الأويسي ، وحدثني عبد الله بن محمد ، قال : حدثني محمد بن بكر ، قال حدثني أبو دواد ، قال : حدثني محمد بن عثمان الدمشقي ، قالا : حدثني سليمان بن بلال ، قال : حدثني العلاء بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن أبي هريرة أن رجلا جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ! سعر ، فقال : بل أدعو الله ، ثم جاءه رجل ، فقال : يا رسول الله ! سعر ، فقال : بل الله يرفع ويخفض ، وإني لأرجو أن ألقى الله وليست لأحد عندي مظلمة .

[ ص: 79 ] 29325 - وحدثني عبد الوارث بن سفيان ، وسعيد بن نصر ، قالا : حدثني قاسم بن أصبغ ، قال : حدثني محمد بن وضاح ، قال : حدثني أبو بكر بن أبي شيبة ، وحدثني عبد الله بن محمد ، قال : حدثني محمد بن بكر ، قال : حدثني أبو داود ، قال : حدثني عثمان بن أبي شيبة ، قالا : حدثني عثمان ، قال : حدثني حماد بن سلمة ، قال : أخبرنا ثابت ، وقتادة ، عن حميد عن أنس قال : غلا السعر بالمدينة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال الناس : يا رسول الله ! سعر لنا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله هو المسعر ، القابض ، الباسط ، الرازق ، وإني لأرجو أن ألقى الله ، ولا أرى أحدا يطلبني بالمظلمة في مال ، ولا دم .

29326 - ورواه سفيان بن موسى عن أنس ، عن ثابت ، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله .

29327 - وروي عن علي بن أبي طالب مثله أنه سئل التسعير ، وأن يقوم السوق ، فأبى وكره ذلك حتى عرفت الكراهة فيه ، وقال : السوق بيد الله يخفضها ، ويرفعها .

التالي السابق


الخدمات العلمية