الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1363 [ ص: 115 ] ( 29 ) باب ما جاء في ثمن الكلب .

1325 - مالك ، عن ابن شهاب ، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ، عن أبي مسعود الأنصاري ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب . ومهر البغي ، وحلوان الكاهن .

يعني بمهر البغي ما تعطاه المرأة على الزنا ، وحلوان الكاهن رشوته ، وما يعطى على أن يتكهن .

[ ص: 116 ] 29475 - قال مالك : أكره ثمن الكلب الضاري وغير الضاري ، لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب .


29476 - قال أبو عمر : لا خلاف بين علماء المسلمين في أن مهر البغي حرام ، وهو على ما فسره مالك ، لا خلاف في ذلك .

29477 - والبغي : الزانية ، والبغاء : الزنا .

29478 - قال الله عز وجل : وما كانت أمك بغيا [ مريم : 28 ] يعني زانية .

29479 - وقال تبارك اسمه : ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء [ النور : 33 ] أي على الزنا .

29480 - وكذلك لا خلاف في حلوان الكاهن أنه ما يعطاه على كهانته ، وذلك كله من أكل المال بالباطل .

[ ص: 117 ] 29481 - والحلوان في أصل اللغة : العطية .

29482 - قال الشاعر :


فمن رجل أحلوه رحلي وناقتي يبلغ عني الشعر إذا مات قائله

.

29483 - وأما بيع الكلاب ، وأثمانها ، وقيمتها على من قتلها ، فقد اختلف العلماء في ذلك ، والصحيح فيه من مذهب مالك ما ذكره في " موطئه " والحجة له من جهة الآثار صحيحة .

29484 - منها ما ذكره ابن وهب ، عن يونس ، عن ابن شهاب ، عن سالم بن عبد الله بن عمر ، عن أبيه ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بقتل الكلاب إلا كلب صيد ، أو ماشية .

[ ص: 118 ] 29485 - قال أبو عمر : فإذا كان غير الضاري من الكلاب مأمور بقتله ، فإنما وقع النهي عن ثمن الكلب المباح اتخاذه لا المأمور بقتله ، لأن المأمور بقتله معدوم ، ولأنه محال ألا يطاع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أمر به من قتله .

29486 - وقد اختلف أصحاب مالك واختلفت الرواية عنده في ثمن الكلب الذي أبيح اتخاذه فأجاز مرة ثمن الكلب الضاري ، ومنع منه أخرى .

29487 - ووجه إجازة بيع ما أبيح اتخاذه من الكلاب ، لأن الحديث الذي ورد بالنهي عن ثمن الكلب ، فمن نذر معه حلوان الكاهن ، ومهر البغي ، وهذا لا يباح شيء منه على أنه الكلب الذي لا يجوز اتخاذه ، والله أعلم ، لأن من الكلاب ما أبيح اتخاذه والانتفاع به ، فذلك جائز بيعه .

[ ص: 119 ] 29488 - ولا خلاف عنه من قتل كلب صيد ، أو ماشية أو زرع ، فعليه القيمة .

29489 - ومن قتل كلب الدار ، فلا شيء عليه إلا أن يكون يسرح مع الماشية .

29490 - وقد ذكرنا اختلاف أصحاب مالك في هذا الباب في كتاب اختلافهم ، واختلاف قول مالك .

29491 - وأما الشافعي فلا يجوز عنده بيع الكلب الضاري ، ولا غير الضاري ، ولا يحل عنده ثمن كلب الصيد ولا كلب الماشية ، ولا كلب الزرع ، لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب ، وليس على من قتل كلب الصيد ، أو لغير صيد قيمة عندهم بحال من الأحوال .

29492 - قال أبو عمر : روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن ثمن الكلب من حديث علي بن أبي طالب ، وابن عباس ، وأبي مسعود الأنصاري .

[ ص: 120 ] وأبي هريرة ، وأبي جحيفة ، ورافع بن خديج ، [ ص: 121 ] وغيرهم - رضي الله عنهم .

29493 - حدثني عبد الوارث بن سفيان قال : حدثني قاسم بن أصبغ ، قال : حدثني أحمد بن زهير ، قال : حدثني عبد الله بن جعفر ، قال حدثني عبيد الله بن عمرو ، عن عبد الكريم - يعني الجزري - عن قيس بن حبتر ، عن ابن عباس ، قال : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثمن الخمر ، ومهر البغي ، وثمن الكلب ، وقال : " إذا أتاك صاحب الكلب ، وطلب ثمنه ، فاملأ كفيه ترابا .

29494 - وقال أبو حنيفة ، وأصحابه : يجوز بيع الكلاب التي للصيد والماشية وبيع الهر ، وعلى من قتل أو أتلف من ذلك شيئا قيمته .

29495 - واحتج الطحاوي للكوفيين بحديث عبد الله بن مغفل - قال : أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب ، ثم قال : ما لي وللكلب ، ثم رخص في كلب [ ص: 122 ] الصيد وكلب ماشية .

29496 - قال : فأخبر أن كلب الصيد كان مقتولا ، فكان بيعه ، والانتفاع به حراما ، وكان قاتله مؤديا لفرض عليه في قتله ، ثم نسخ ذلك ، وأباح الاصطياد به ، فصار كسائر الجوارح في جواز بيعه .

29497 - قال : ومثل ذلك نهيه صلى الله عليه وسلم عن كسب الحجام ، قال : كسب الحجام خبيث ، وثمن الكلب خبيث " ثم أعطى الحجام أجره ، فكان ذلك ناسخا لمنعه ، وتحريمه ، ونهيه .

29498 - قال أبو عمر : لم يختلف في ألفاظ حديث ابن عبد الله بن مغفل هذا .

حدثني سعيد بن نصر ، قال : حدثني قاسم بن أصبغ ، قال : حدثني ابن وضاح ، قال : حدثني أبو بكر بن أبي شيبة ، قال : حدثني شبابة ، قال : حدثني شعبة ، عن أبي التياح ، قال : سمعت مطرفا يحدث عن ابن مغفل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الكلاب ، ثم قال " ما لهم والكلاب " ثم رخص لهم في كلب الصيد .

[ ص: 123 ] 29499 - وقال : " إذا ولغ الكلب في الإناء ، فاغسلوه سبع مرات ، وعفروا الثامنة بالتراب " . 29500 - وروى الحسن ، عن عبد الله بن مغفل ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لولا أن الكلاب أمة من الأمم أكره أن أفنيها لأمرت بقتلها ، ألا فاقتلوا منها كل أسود بهيم " ، قال : " وأيما أهل دار حبسوا كلبا ، ليس كلب صيد ، أو زرع ، أو ماشية ، نقص من أجرهم كل يوم قيراط " .

[ ص: 124 ] 29501 - وقال أحمد بن حنبل : بيع الكلاب باطل ، وإن كان معلما ، ومن قتله ، وهو معلم ، فقد أساء ، ولا غرم عليه .

29502 - قال : وبيع الفهد ، والصقر جائز ، وكذلك من بيع الهر ، وكل ما فيه منفعة ، والله أعلم .

29503 - قال أبو عمر : وهو قول مالك ، والشافعي ، والكوفيين في بيع كل ما ينتفع به أنه جائز ملكه ، وشراؤه وبيعه .

29504 - ولم يختلفوا في القرد ، والفأر وكل ما لا منفعة فيه أنه لا يجوز بيعه ، ولا شراؤه ولا أكل ثمنه .

[ ص: 125 ] 29505 - وقد روي في ثمن الهر حديث لا يثبت رفعه في النهي عنه فذكرناه وعلته في " التمهيد " ، والله يوفقنا أفضل ما رضوه ، وبه العون .

التالي السابق


الخدمات العلمية