الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1337 - مالك ، أنه بلغه أن عبد الله بن مسعود كان يحدث : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أيما بيعين تبايعا ، فالقول ما قال البائع ، أو يترادان " .


29912 - قال أبو عمر : جعل مالك - رحمه الله - حديث ابن مسعود هذا كالمفسر لحديث ابن عمر ، يقول : إن المتبايعين قد يختلفان قبل الافتراق ، فلو كان [ ص: 221 ] كل واحد منهما بالخيار لم تجب على البائع يمين ، ولا تراد ؛ لأن التراد إنما يكون فيما قد تم من البيوع ، والله أعلم .

29913 - فكأنه عنده منسوخ ؛ لأنه لم يدرك العمل عليه واستدل على نسخه بحديث ابن مسعود الذي أردفه بقول القاسم : ما أدركت الناس إلا على شروطهم في أموالهم ، وفيما أعطوا .

29914 - وقد قال مالك ، وذكر له حديث : " البيعان بالخيار ما لم يتفرقا ، فقال : قد جاء هذا الحديث ، ولعله أن يكون شيئا قد ترك ، فلم يعمل به .

29915 - وقال في رجل وقف سلعته للسوم ، فأعطي بها ما طلب فيها ، فقال : لا أبيعها ، فالبيع له لازم ، فإن قال : إنما كنت لاعبا ، أردت اعتبار ثمنها ، فيحلف على ذلك فإن لم يحلف لزمه البيع .

29916 - قال الطحاوي : كل من لم يقل بحديث البيعان بالخيار ما لم يفترقا من مكانهما يلزمه البيع ، ولا يلتفت إلى يمينه في قوله : كنت لاعبا ، ومن يقول : المتبايعان كل واحد منهما على صاحبه بالخيار حتى يفترقا أحرى ألا يقول بقول مالك في ذلك .

29917 - قال : ولم يقل بقول مالك أحد من الفقهاء في أنه لا يلزمه البيع ، وقد أعطي ما طلب في سلعته التي وقفها للبيع ، وساوم الناس فيها .

[ ص: 222 ] 29918 - قال أبو عمر : حديث ابن مسعود حديث منقطع ، لا يكاد يتصل ، وإن كان الفقهاء قد عملوا به كل على مذهبه الذي تأوله فيه .

29919 - فمن أسانيد هذا الحديث ما رواه حفص بن غياث ، عن أبي العميس ، قال : أخبرني عبد الرحمن بن قيس بن محمد بن الأشعث ، عن أبيه ، عن جده ، قال : اشترى الأشعث رقيقا من رقيق الخمس من عبد الله بن مسعود بعشرين ألفا ، فأرسل عبد الله إليه في ثمنهم ، فقال : إنما أخذتهم بعشرة آلاف ، فقال عبد الله : فاختر رجلا يكون بيني وبينك .

قال الأشعث : أنت بيني وبين نفسك .

قال عبد الله : فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إذا اختلف البيعان ، وليس بينهما بينة ، فهو ما يقول رب السلعة ، أو يتتاركان
.

29920 - هذا رواه أبو داود ، عن محمد بن يحيى بن فارس ، عن عمر بن حفص بن غياث ، عن أبيه ، وكذلك هو روايتنا في مصنفه من السنن .

29921 - وذكره ابن الجارود ، عن محمد بن يحيى ، عن عمرو بن حفص ، عن أبيه ، عن أبي العميس ، عن عبد الرحمن بن قيس بن محمد بن [ ص: 123 ] الأشعث ، وكيف كان الأمر ، فهو غير متصل ، ولا مسند .

29922 - وذكر أبو داود أيضا ، قال : حدثني عبد الله بن محمد النفيلي ، قال : حدثني هشيم ، قال : أخبرنا ابن أبي ليلى ، عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه أن ابن مسعود باع من الأشعث بن قيس رقيقا ، فذكر معناه .

29923 - وهذا لا يتصل ، لأن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود لم يختلفوا أنه لم يسمع من أبيه .

29924 - وروى هذا الحديث أيضا الشافعي ، وابن أبي شيبة ، والحميدي ، عن ابن عيينة ، عن ابن عجلان ، عن عوف بن عبد الله ، عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا اختلف البيعان ، فالقول ما قال البائع ، والمبتاع بالخيار .

29925 - ورواه القطان ، عن ابن عجلان مثله بإسناده .

29926 - وهذا أيضا غير متصل ، بل هو بين الانقطاع .

29927 - وسنذكر ما للعلماء في معنى هذا الحديث بعد الفراغ من القول في حديث ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : " البيعان بالخيار ما لم يفترقا - إن شاء الله عز وجل .

[ ص: 224 ] 29928 - وأجمع العلماء من أهل الفقه بالحديث أن قوله صلى الله عليه وسلم : " البيعان بالخيار ما لم يفترقا " من أثبت ما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم من أخبار الآحاد العدول ، لا يختلفون في ذلك ، وإنما اختلفوا في القول به ، وادعاء النسخ فيه ، وتخريج معانيه .

29929 - وقد اختلف الحفاظ في ألفاظه :

29930 - فرواية مالك ، عن نافع ما ذكرناه عنه في " الموطأ " .

29931 - ورواية أيوب عن نافع ، عن ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : " البيعان بالخيار ما لم يفترقا ، أو يقول أحدهما لصاحبه : اختر " .

29931 م - هكذا قال حماد بن زيد ، عن أيوب .

29932 - ورواية شعبة ، وسعيد بن أبي عروبة ، عن أيوب بإسناده بلفظ حديث مالك ، ومعناه .

29933 - ورواه ابن علية ، عن أيوب ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : البيعان بالخيار حتى يفترقا ، أو يكون بيع خيار .

29934 - قال : وربما قال فيه نافع ، أو يقول أحدهما لصاحبه : اختر .

29935 - ولفظ عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : " كل بيع ، فلا بيع بينهما حتى يفترقا إلا بيع الخيار " .

[ ص: 225 ] 29936 - ورواه ابن جريج ، عن نافع ، قال : أملى علي نافع أنه سمع ابن عمر يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا تبايع المتبايعان ، فكل واحد منهما بالخيار حتى يفترقا ، أو يكون بيعهما عن خيار ، وإذا كان عن خيار ، فقد وجب " .

29937 - قال نافع ، كان ابن عمر إذا تبايع الرجل ، ولم يخبره ، وأراد أن لا يقبله قام ، فمشى هنيهة ، ثم وقع .

29938 - وهذه الألفاظ كلها معناها واحد ، ولا تدافع في شيء منها .

29939 - وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " المتبايعان بالخيار ما لم يفترقا " من وجوه كثيرة من حديث سمرة بن جندب ، وأبي برزة الأسلمي ، وعبد الله بن عمرو بن العاص ، وأبي [ ص: 226 ] هريرة ، وحكيم بن حزام . وقد ذكرت أسانيدها ، وطرقها في " التمهيد " .

29940 - وأما اختلاف الفقهاء في القول : 29941 - فقول مالك ما ذكره في موطئه ، ومذهبه في جماعة أصحابه أنه لا خيار للمتبايعين إذا عقدا بيعهما بالكلام ، وإن لم يفترقا بأبدانهما .

[ ص: 227 ] 29942 - وهو قول أبي حنيفة ، وأصحابه ، وقول إبراهيم النخعي ، وأهل الكوفة ، وربيعة بن أبي عبد الرحمن ، وطائفة من أهل المدينة .

29943 - وهو قول الثوري في رواية عبد الرزاق عنه .

29944 - قال سفيان : الصفقة باللسان .

29945 - وقال محمد بن الحسن : معنى الحديث : إذا قال البائع قد بعتك ، فله أن يرجع ما لم يقل المشتري قبلت .

29946 - ورواه عن أبي حنيفة .

29947 - وقال عن أبي يوسف : المتبايعان في هذا الحديث هما المتساويان ، فإذا قال : بعتك بعشرة ، فللمشتري خيار القبول في المجلس ، وللبائع خيار الرجوع فيه قبل قبول المشتري .

29948 - وعن عيسى بن أبان نحوه .

29949 - وقال بعض أصحاب أبي حنيفة : التفرق أن يتراضيا بالبيع ، فإذا تراضيا ، فقد تفرقا .

29950 - قال : والتفرق قد يكون بالقول ، كما يقال للمتناظرين إذا قاموا عن المجلس : عن أي شيء افترقتم .

[ ص: 228 ] 29951 - وقال الله تعالى : وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته [ النساء : 130 ] .

29952 - وأما افتراقهما بالكلام ، قال : ومعنى قوله في المتبايعين أنهما بالخيار ، وهو قول الرجل للرجل : قد بعتك عبدي هذا بألف درهم ، فله أن يرجع عن قوله ذلك ما لم يقل الآخر : قد قبلت ، فهذا موضع خيار البائع ، فلو قال المشتري : قد قبلت : فقد افترقا ، وتم البيع بينهما .

29953 - وقال غيره من الكوفيين : التفرق أن يقبل في المجلس ، فإذا قام أحدهما من المجلس قبل أن يقبل صاحبه بطل الخيار . 29954 - قال : وفائدة هذا الوجه أن المشتري إذا لم يجب البائع من فوره أي قد قبلت ، لم يضره ذلك ، فلم ينقطع خيارهما حتى يتفرقا من مجلسهما .

29955 - قال أبو عمر : هذان التأويلان فاسدان مخالفان لمعنى الحديث وظاهره ، لأن الخيار فيهما للبائع خاصة ، وحديث مالك في أول الباب ، يقتضي بفسادهما ، لقوله صلى الله عليه وسلم : " المتبايعان كل واحد منهما بالخيار على صاحبه ما لم يفترقا . وسنبين ضعف تأولهما في الحديث فيما بعد - إن شاء الله عز وجل .

29956 - وكان أبو حنيفة يرد هذا الحديث بالاعتبار كفعله في سائر أخبار الآحاد ، ويعرضها على الأصول المجتمع عليها ، ولا يقبلها إذا خالفها ، ويقول :

[ ص: 229 ] أرأيت إن كانا في سفينة ، أو قيد : متى يفترقان ، وهذا أكثر عيوبه ، وأعظم ذنوبه عند أهل الحديث ، واحتجاجهم بمذهبهم في رفع ظاهر الحديث طويل أكثره تشعيب لا معنى له ؛ لأن الأصول ، لا يرد بعضها ببعض ، وقد ذكرنا أكثرها في " التمهيد " .

29957 - وقال الثوري في " جامعه " ، والليث بن سعد ، وعبيد الله بن [ ص: 230 ] الحسن ، والشافعي ، وأحمد ، وأبو ثور ، وأبو عبيد ، وداود : إذا عقد المتبايعان بيعهما ، فكل واحد منهما بالخيار في إتمامه وفسخه ما داما في مجلسهما ، لم يفترقا بأبدانهما ، والتفرق في ذلك كالتفرق في الصرف سواء .

29958 - وهو قول ابن أبي ذئب في طائفة من أهل المدينة ، وقول سوار قاضي البصرة ، وسفيان بن عيينة ، وعبد الله بن المبارك .

29959 - وروي ذلك عن عبد الله بن عمر ، وشريح القاضي ، وسعيد بن المسيب ، والحسن البصري ، وعطاء ، وطاوس ، والزهري ، وابن جريج ، ومعمر ، ومسلم بن خالد الزنجي ، والدراوردي ، ويحيى القطان ، وابن مهدي .

[ ص: 231 ] 29960 - وقال الأوزاعي : المتبايعان بالخيار ما لم يفترقا إلا في بيوع ثلاثة : بيع السلطان في الغنائم ، وبيع الشركاء في الميراث ، وبيع الشركة في التجارة ، فإذا صافقه ، فقد وجب البيع ، وليسا فيه بالخيار .

29961 - قال : وحد الفرقة ما كانا في مكانهما ذلك حتى يتوارى كل واحد منهما عن صاحبه ، قال : وإذا خيره فاختار ، فقد وجب البيع ، وإن لم يفترقا .

29962 - قال أبو عمر : كل من أوجب الخيار يقول : إذا خيره في المجلس فاختار ، فقد وجب البيع ؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم : قال " أو يقول أحدهما لصاحبه : اختر " .

29963 - وفعل ابن عمر تفسير ذلك ، وقد تقدم ذكره ، وهو راوي الحديث ، والعالم بمخرجه ، ومعناه .

29964 - وقال الليث بن سعد : التفرق أن يقوم أحدهما .

29965 - وقال الشافعي : كل متبايعين في بيع عين حاضرة ، أو سلم إلى أجل ، أو دين ، أو صرف ، أو غير ذلك ، تبايعا ، وتراضيا ، ولم يتفرقا عن مقامهما ، أو مجلسهما الذي تبايعا فيه ، فلكل واحد منهما - إن شاء - فسخ البيع ، كان ذلك له ما داما في الموضع الذي عقدا فيه بيعهما ، إلا أن يقول أحدهما [ ص: 232 ] لصاحبه اختر إن شئت إمضاء البيع ، أو رده ، فإن اختار وجها من ذلك لزمه وانقطع عنه خيار المجلس ، وإن لم يتفرقا ، فإن عقدا بيعهما على خيار مدة يجوز الخيار إليها كانا على ما عقدا من ذلك ، ولم يضرهما التفرق .

29966 - وسنذكر اختلافهم في مدة أيام الخيار بعد إن شاء الله تعالى .

29967 - وبهذا كله قال أبو ثور ، وأحمد ، وهو معنى قول الجميع .

29968 - واختلف المتأخرون من أصحابنا المالكيين في معنى قول مالك في " الموطأ " بأكثر قول النبي صلى الله عليه وسلم : " البيعان بالخيار ما لم يفترقا :

قال مالك : وليس لهذا عندنا حد معروف ، ولا أمر معمول به فيه " :

29969 - فقال بعضهم : دفع مالك هذا الحديث بإجماع أهل المدينة على معنى الخلاف به ، فلما لم ير أحدا يعمل به ، قال ذلك القول ، وإجماعهم عنده حجة كما قال أبو بكر بن عمرو بن حزم : إذا رأيت أهل المدينة قد أجمعوا على شيء فاعلم أنه الحق .

29970 - قال : وإجماعهم عند مالك أقوى من خبر الواحد . 29971 - فقال بعضهم : لا يجوز لأحد أن يدعي في هذه المسألة إجماع أهل المدينة ؛ لأن الاختلاف فيها موجود بها .

[ ص: 233 ] 29972 - قال : وإنما معنى قول مالك : وليس لهذا عندنا حد معروف ، أي ليس للخيار عندنا حد معروف ؛ لأن الخيار عنده ليس محدودا بثلاثة أيام كما حده الكوفيون ، والشافعي ، بل هو على حسب حال المبيع ، فمرة يكون ثلاثة ومرة أقل ، ومرة أكثر ، وليس الخيار في العقار ، كهو في الدواب ، والثياب ، هذا معنى قوله ذلك .

29973 - قال أبو عمر : لا يصح دعوى إجماع أهل المدينة في هذه المسألة ؛ لأن الاختلاف فيها بالمدينة معلوم .

29974 - وأي إجماع يكون في هذه المسألة إذا كان المخالف فيها منهم : عبد الله بن عمر ، وسعيد بن المسيب ، وابن شهاب ، وابن أبي ذئب ، وغيرهم ؟ وهل جاء فيها منصوصا الخلاف إلا عن أبي الزناد ، وربيعة ، ومالك ، ومن تبعه ؟ وقد اختلف فيها أيضا عن ربيعة فيما ذكر بعض الشافعيين .

29975 - وقال ابن أبي ذئب ، وهو من جلة فقهاء المدينة : من قال : إن البيعين ليسا بالخيار حتى يفترقا استتيب ، وجاء بقول فيه خشونة ، تركت ذكره ، وهو محفوظ عند العلماء .

[ ص: 234 ] 29976 - وأما احتجاج الكوفيين ، وغيرهم ، بعموم قول الله عز وجل : أوفوا بالعقود [ المائدة : 1 ] قالوا : وهذان قد تعاقدا ، وفي هذا الحديث إبطال الوفاء بالعقد ، فهذا ليس بشيء ، لأن المأمور به من الوفاء به من العقود ما لم يبطله الكتاب أو السنة ، كما لو عقدا بيعهما على ربا ، أو سائر ما لا يحل لهما .

29977 - واحتجوا أيضا بقوله - عليه السلام - " من ابتاع طعاما ، فلا يبعه حتى يستوفيه " ، قالوا : فقد أطلق بيعه إذا استوفاه قبل الافتراق ، وبعده .

29978 - وهذا عند من خالفهم مرتب على خيار المتبايعين قبل الافتراق ، لأنه ممكن استعمالهما معا ، فكيف يدفع أحدهما بالآخر مع إمكان استعمالهما .

29979 - واحتجوا بكثير من الظواهر ، والعموم ، مع إجماعهم على أنه لا يعترض في العموم بالخصوص ، ولا بالظواهر على النصوص .

29980 - وقالوا : قوله صلى الله عليه وسلم : " البيعان بالخيار ما لم يفترقا " على الندب ؛ بدليل قوله صلى الله عليه وسلم " من أقال نادما في بيع ، أو قال : في بيعته أقال الله عثرته يوم القيامة " . وبدليل قوله صلى الله عليه وسلم ، في حديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : " البيعان بالخيار ما لم يفترقا إلا أن يكون صفقة خيار ، ولا يحل له أن يفارق صاحبه خشية أن يستقيله " .

[ ص: 235 ] 29981 - وقال الشافعي : أما قوله صلى الله عليه وسلم : " من أقال نادما بيعته أقاله الله عثرته " ، فهذا على الندب ، لا شك فيه ، ولفظه يدل على ذلك .

29982 - وأما قوله : " البيعان بالخيار ما لم يفترقا " فليس في لفظه شيء يدل على الندب ، وإنما هو حكم ، وقضاء ، وشرع من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لا يحل لأحد خلافه برأيه .

29983 - قالوا : وأما قوله في حديث عمرو بن شعيب : لا يحل له أن يفارق صاحبه خشية أن يستقيله ، فلفظ منكر ، لإجماع علماء المسلمين أنه جائز له أن يفارقه ليتم بيعه ، وله أن لا يقيله إلا أن يشاء ، وقوله : " لا يحل " ، لفظه منكر بإجماع ، وبان أن الإقالة ندب وحصر ، لا إيجاب وفرض .

29984 - ومما يزيد ذلك بيانا فعل ابن عمر - رضي الله عنه ، فإنه كان إذا أراد أن يجب له البيع مشى حتى يفارق صاحبه ، ويغيب عنه ، وهو الذي روى الحديث ، وعلم معناه ومخرجه .

29985 - وحدثني عبد الوارث ، قال : حدثني قاسم ، قال : حدثني مطلب [ ص: 236 ] بن شعيب ، قال : حدثني عبد الله بن صالح ، قال : حدثني الليث قال : حدثني يوسف ، عن سالم ، قال : قال ابن عمر : كنا إذا تبايعنا كان كل واحد منا بالخيار ما لم نفترق ، فتبايعت أنا وعثمان مالا بالوادي بمال كثير ، فلما بايعته طفقت القهقرى على عقبي خشية أن يرادني عثمان قبل أن أفارقه .

29986 - قال أبو عمر : في قول ابن عمر : كنا إذا تبايعنا كان كل واحد منا بالخيار ما لم نفترق ، دليل على أن الافتراق عن المجلس كان أمرا معمولا به عندهم في بيعاتهم .

29987 - ذكر عبد الرزاق : قال : أخبرنا معمر ، قال : أخبرنا إسماعيل بن أمية ، عن نافع ، قال : كان ابن عمر إذا اشترى شيئا مشى ساعة قليلا ليتم له البيع ، ثم يرجع .

29988 - وروى سفيان بن عيينة ، عن ابن جريج ، عن نافع ، عن ابن عمر أنه كان إذا اشترى السلعة ، فأراد ألا يقيل صاحبه مشى شيئا قليلا ثم رجع .

29989 - وعن أبي برزة الأسلمي في رجل اشترى فرسا من رجل ، ثم أقام بقية يومهما ، وليلتهما لم يفترقا ، وندم أحدهما ، فلم يرد الآخر إقالته ، فاختصما إلى [ ص: 237 ] أبي برزة ، فقال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " البيعان بالخيار ما لم يفترقا " وما أراكما افترقتما .

29990 - وقد ذكرنا هذا الخبر بإسناده في " التمهيد " .

29991 - ولا أعلم أحدا خالفهما من الصحابة فيما ذهبا إليه من ذلك .

29992 - وقال عبد الرزاق ، أخبرنا معمر ، عن أيوب ، عن ابن سيرين ، عن شريح أنه شهده يختصم إليه في رجل اشترى من رجل بيعا ، فقال : إني لم أرضه فقال الآخر : بل قد رضيته ، فقال شريح : بينتك أنكما تصادرتما عن رضا بعد البيع ، أو خيار ، وإلا فيمينه بالله ما تصادرتما بعد البيع عن رضا ، ولا خيار .

29993 - قال : وأخبرنا الثوري ، عن عبد الله بن أبي السفر ، عن الشعبي ، عن شريح ، قال : البيعان بالخيار ما لم يتفرقا .

29994 - قال عبد الرزاق : قال هشام بن يوسف - قاضي [ ص: 238 ] صنعاء : إذا جاء الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فليس ينبغي أن يترك إلا أن يأتي عنه خلافه .

29995 - ومما احتج به من لم ير للمتبايعين خيارا في المجلس أن يكون التفرق بالكلام كعقد النكاح ، أو كوقوع الطلاق الذي سمى الله : فراقا .

29996 - قالوا : والتفرق بالكلام في لسان العرب معروف كما هو بالأبدان .

29997 - واحتجوا بقول الله عز وجل : وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته [ النساء : 130 ] وبقوله تعالى [ ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا [ آل عمران : 105 ] وبقوله عز وجل فرقوا دينهم [ الأنعام : 159 ] ، وبقوله صلى الله عليه وسلم " تفترق أمتي " ونحو هذا مما لم يرد به الافتراق بالأبدان .

[ ص: 239 ] 29998 - فيقال لهم : أخبرونا عن الكلام الذي وجب به الإجماع في البيع ، وتمت به الصفقة ، أهو الكلام الذي أريد به الافتراق في الحديث المذكور ، أو غيره ؟ ، فإن قالوا : هو غيره ، فقد أحالوا وجاءوا بما لا يعقل ؛ لأنه ليس ثم كلام غيره ، وإن قالوا : هو ذلك الكلام بعينه ، قيل لهم : كيف يجوز أن يكون الكلام الذي به اجتمعا عليه ، وبه تم بيعهما له افترقا ، وهذا ما لا يفهمه ذو عقل وإنصاف .

29999 - وأما قول من قال : المتبايعان هما المتساومان ، فلا وجه له ؛ لأنه لا يكون حينئذ في الكلام فائدة ؛ لأنه معقول أن كل واحد في ماله وسلعته بالخيار قبل السوم ، وما دام قبل الشراء متساوما حتى يمضي البيع ويعقده ويرضاه ، وكذلك المشتري بالخيار قبل الشراء ، وفي حين المساومة أيضا ، هذا معلوم بالعقل ، والفطرة ، والشريعة ، وإذا كان هذا كذلك ، بطلت فائدة الخبر ، وقد جل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخبر بما لا فائدة فيه .

30000 - وأما حديث ابن مسعود في اختلاف المتبايعين فقد قال مالك في " الموطأ " :

التالي السابق


الخدمات العلمية