الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
30280 - قال مالك ، في رجل باع من رجل متاعا ، فأفلس المبتاع ، فإن البائع إذا وجد شيئا من متاعه بعينه ، أخذه ، وإن كان المشتري قد باع بعضه ، وفرقه ، فصاحب المتاع أحق به من الغرماء ، لا يمنعه ما فرق المبتاع منه ، أن يأخذ ما وجد بعينه ، فإن اقتضى من ثمن المبتاع شيئا ، فأحب أن يرده ويقبض ما وجد من متاعه ، ويكون فيما لم يجد إسوة الغرماء ، فذلك له .


30281 - قال أبو عمر : لا أعلم خلافا بين الفقهاء القائلين بأن البائع أحق بغير ماله في الفلس أنه أحق أيضا بما وجد عنه إذا كان المشتري قد باع ذلك أو فوته [ ص: 27 ] بوجوه الفوت ; لأن الذي وجد من سلعته هو عين ماله ، لا شك فيه ; لأنه قطعة منه .

30282 - قال مالك : فيمن وجد نصف سلعته بعينها عند رجل قد أفلس ، قال : أرى أن يأخذها بنصف الثمن ، ويحاص الغرماء في النصف الثاني .

30283 - وكذلك قال الشافعي ، قال : لو كانت السلعة عبدين بمائة ، فقبض نصف الثمن ، وبقي أحد العبدين ، وقيمتهما سواء كان له نصف الثمن ، أو النصف الذي قبض ، ثمن الهالك كما لو رهنهما بمائة ، فقبض تسعين ، فهلك أحدهما كان الآخر رهنا بعشرة .

30284 - هكذا روى المزني .

30285 - وروى الربيع عنه ، قال : لو كانا عبدين ، أو ثوبين فباعهما بعشرين قبض عشرة ، وبقي من ثمنهما عشرة كان شريكا فيها بالنصف ، يكون نصفهما له ، والنصف للغرماء يباع في دينه .

30286 - وجملة قول الشافعي أنه لو بقي من ثمن السلعة في التفليس درهم لم يرجع من السلعة إلا بقدر الدرهم .

30287 - ومعناه أن ما بقي في يد المشتري المفلس عين مال البائع وقيمته بمقدار ما بقي له من الثمن الذي من أجله جعل له أخذه ، فله أخذه دون سائر غرماء المفلس .

[ ص: 28 ] [ ص: 29 ] [ ص: 30 ] [ ص: 31 ] [ ص: 32 ] 30288 - وقال أشهب ، عن مالك ، عن رجل باع من رجل عبدين بمائة دينار وانتقد من ذلك خمسين ، وبقيت على الغريم خمسون ، ثم أفلس غريمه ، فوجد عنده أحد عبديه ، وفاته الآخر ، فأراد أخذه بالخمسين التي بقيت له على غريمه ، وقال : الخمسون التي أخذت ثمن العبد الذاهب ، وقال الغرماء : بل الخمسون التي أخذت ثمن هذا .

فقال مالك : إذا كان العبدان سواء ، رد نصف ما قبض ، ولك خمسة وعشرون دينارا ، وأخذ العبد ، وذلك أنه اقتضى من ثمن كل عبد خمسة وعشرين دينارا .

[ ص: 33 ] 30289 - قال : ولو كان باعه عبدا واحدا بمائة دينار ، فاقتضى من ثمنه خمسين رد الخمسين إن أحب وأخذ العبد .

30290 - قال أشهب : وكذلك العمل في روايا الزيت ، وغيرها على هذا القياس .

30291 - وقال الشافعي في مسألة أشهب عن مالك : العبد أحق به من الغرماء إذا كان قيمة العبدين سواء ; لأنه ماله بعينه وجده عند غريمه ، وقد أفلس ، والذي قبضه ، وثمن ما فات إذا كانت القيمة سواء كما لو باع عبدا واحدا ، وقبض نصف لبه ، كان ذلك النصف للغرماء وكان النصف الباقي له ، فإنه لم يقبض ثمنه ولا يرد شيئا مما أخذ ; لأنه مستوف لما أخذ .

30292 - وأما قول مالك في " الموطإ " : فإن اقتضى من ثمن المبتاع شيئا ، فأحب أن يرده إلى آخر قوله . فقد خالفه الشافعي ، وغيره في ذلك ، فقالوا : ليس له أن يرده ، وإنما له أخذ ما بقي من سلعته ، لا غير ذلك ; لإجماعهم على أنه لو قبض ثمنها كله لم يكن له إليها سبيل ، فكذلك إذا أخذ ثمن بعضها لم يكن إلى ذلك البعض سبيل ، وليس له أن يرد بعض الثمن ، كما ليس له أن يرد جميعه ، لو قبضه .

30293 - وحجتهم حديث مالك في هذا الباب ، قوله : ولم يقبض الذي باعه من ثمنه شيئا .

20294 - وقال جماعة من أهل العلم : إذا قبض من ثمن سلعته شيئا ، لم يكن له أخذها ، ولا شيئا منها .

[ ص: 34 ] 30295 - وممن قال هذا : داود ، وأهل الظاهر أيضا ، وأحمد ، وإسحاق .

30296 - واختلف مالك ، والشافعي أيضا في المفلس يأبى غرماؤه دفع السلعة إلى صاحبها ، وقد وجدها بعينها ، ويريدون دفع الثمن إليه من قبل أنفسهم لما لهم في قبض السلعة من الفضل :

30297 - فقال مالك : ذلك لهم ، وليس لصاحب السلعة أخذها إذا دفع إليه الغرماء ثمنها .

30298 - وقال الشافعي : ليس للغرماء هذا مقال : قال : وإذا لم يكن للمفلس ، ولا لورثته أخذ السلعة ; لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جعل صاحبها أحق بها منهم ، والغرماء أبعد من ذلك ، وإنما الخيار لصاحب السلعة إن شاء أخذها ، وإن شاء تركها ، وضرب مع الغرماء بثمنها .

30299 - وبهذا قال أحمد بن حنبل ، وأبو ثور ، وجماعة .

30300 - واختلف قول مالك ، والشافعي أيضا في المفلس يموت قبل الحكم عليه ، وقبل توقيفه :

30301 - فقال مالك : ليس حكم المفلس كحكم الموت ، وبائع السلعة إذا وجدها بعينها إسوة الغرماء في الموت بخلاف الفلس .

30302 - وبهذا قال أحمد بن حنبل .

30303 - وحجة من قال بهذا القول حديث ابن شهاب المذكور في أول هذا الباب عن أبي بكر بن عبد الرحمن ; لأنه حديث نص فيه على الفرق بين الموت ، [ ص: 35 ] والفلس وهو قاطع لموضع الخلاف .

30304 - ومن جهة القياس بينهما فرق آخر; وذلك أن المفلس يمكن أن تطرأ له ذمة ، وليس الميت كذلك .

30305 - وقال الشافعي : الموت والفلس سواء ، وصاحب السلعة أحق بها إذا وجدها بعينها في الوجهين جميعا .

30306 - وحجة من قال بهذا القول حديث ابن أبي ذئب المذكور في هذا الباب ، وفيه : أن أبا هريرة ، قال : قد قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أيما رجل مات ، أو أفلس ، فصاحب المتاع أحق به إذا وجده بعينه .

30307 - فجعل الشافعي ذكر الموت زيادة مقبولة ، وردت في حديث مسند ، وحديث ابن شهاب الصحيح فيه الإرسال .

30308 - قال أبو عمر : قد وصله عبد الرزاق على نص ما رواه أصحاب مالك وسائر أصحاب ابن شهاب ، وذكر فيه الذي ذكروا ، وذلك قوله : وإن مات الذي ابتاعه ، فصاحب المتاع إسوة الغرماء بعد ذكره حكم المفلس ، ففرق بين الموت ، والفلس ، فينبغي ألا تكون زيادة أبي المعتمر عن عمرو بن خلدة ، [ ص: 36 ] عن أبي هريرة في التسوية بين الميت ، والمفلس مقبولة ; لأنها قد عارضها ما يدفعها .

30309 - والأصل أن كل مبتاع أحق بما ابتاعه حياته وموته ، وأن ذلك موزون عنده شيء من ذلك بدليل لا معارض له ، ولم يوجد ذلك إلا فيمن وجد عين ماله عند مفلس .

30310 - هذا هو الذي لم تختلف فيه الآثار المرفوعة ، وما عداها ، فمصروف إلى الأصل المجتمع عليه ، وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية