الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1384 [ ص: 42 ] ( 43 ) باب ما يجوز من السلف .

1346 - مالك ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي رافع مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ; أنه قال : استسلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكرا ، فجاءته إبل من الصدقة ، قال أبو رافع : فأمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أقضي الرجل بكره ، فقلت : لم أجد في الإبل إلا جملا خيارا رباعيا ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أعطه إياه ، فإن خيار الناس أحسنهم قضاء " .

[ ص: 43 ] 1347 - مالك ، عن حميد بن قيس المكي ، عن مجاهد ; أنه قال : استسلف عبد الله بن عمر من رجل دراهم ، ثم قضاه دراهم خيرا منها ، فقال الرجل : يا أبا عبد الرحمن ، هذه خير من دراهمي التي أسلفتك ، فقال عبد الله بن عمر : قد علمت : ولكن نفسي بذلك طيبة .


30338 - قال أبو عمر : أما القول في حديث زيد بن أسلم المكتوب في أول هذا الباب ، وما فيه من المعاني ; فمعلوم أن رسول - الله صلى الله عليه وسلم - لم يكن يأكل من الصدقة ، وإنما كانت محرمة عليه ، لا تحل له ، وفي ذلك دليل على أن استسلافه الجمل البكر المذكور في هذا الحديث لم يكن لنفسه ; لأنه قضاه من إبل الصدقة ; وإذا كان ذلك كذلك صح أنه إنما استسلفه الجمل لمساكين بلدة ; لما رأى من شدة حاجتهم ، فاستقرضه عليهم ، ثم رده من إبل الصدقة ، كما يستقرض ولي اليتيم عليه نظرا له ، ثم يرده من ماله إذا طرأ له مال ، وهذا كله لا تنازع فيه والحمد لله .

[ ص: 44 ] 30339 - وقد اختلف العلماء في حال المستقرض منه الجمل البكر المذكور في هذا الحديث :

30340 - فقال منهم قائلون : لم يكن المستقرض منه ممن تجب عليه صدقة ، ولا تلزمه زكاة عند انقضاء الحول ، إما لجائحة لحقت ماله قبل الحول ، فصار المال لغيره ، أو لغير ذلك من الأسباب المانعة للزكاة ; لأنه قد رد عليه صدقته ولم يحتسب له بها ، وكان وقت أخذ الصدقات وخروج السعاة وقتا واحدا يستوي الناس فيه ، واستوفى منه أصحاب المواشي ، فلما لم يحتسب له بما أخذ منه صدقة علم أنه لم يكن تلزمه صدقة في ماشيته في ذلك الحول الذي له أخذت صدقته ، إما لقصور نصابه بالآفة الداخلة على ماشيته قبل تمام حوله ، أو بغير ذلك مما قد وصفنا بعضه فوجب رد ما أخذ منه إليه .

30341 - ومثال الاستسلاف في هذا الموضع أن يقول الإمام للرجل : أقرضني على زكاتك لأهلها ، فإن وجبت عليه زكاة بتمام ملكك النصاب حولا ، فذلك وإلا فهو دين لك أرده عليك من الصدقة .

30342 - وهذا كله على مذهب من أجاز تعجيل الزكاة قبل وقت وجوبها بحول واحد .

[ ص: 44 ] 3 4 303 - وممن ذهب إلى ذلك : سفيان الثوري ، والأوزاعي ، والشافعي ، وأحمد بن حنبل ، وأبو ثور ، وإسحاق ، وأبو عبيد .

30344 - وروي ذلك عن إبراهيم ، وابن شهاب ، والحكم بن عتيبة ، وابن أبي ليلى .

30345 - وقال أبو حنيفة ، وأبو يوسف ، ومحمد : يجوز تعجيل الزكاة لما في يده ، ولما يستفيده في الحول وبعده لسنين .

30346 - وقال : التعجيل عما في يده جائز ، ولا يجوز عما يستفيده .

30347 - وقال ابن شبرمة : يجوز تعجيل الزكاة لسنين .

30348 - وقال مالك ، وأصحابه لا يجوز تعجيل الزكاة قبل الحول إلا بيسير .

30349 - والشهر ونحوه عندهم يسير .

30350 - وقالت طائفة : لا يجوز تعجيل الزكاة قبل محلها بيسير ، ولا كثير ، ومن عجلها قبل محلها لم يجزئه ، وكان عليه إعادتها كالصلاة .

30351 - روي ذلك عن الحسن البصري .

[ ص: 46 ] 30352 - وروى خالد بن خداش ، عن مالك مثله .

30353 - واختلف على أشهب في الرواية عن مالك في ذلك : فروي عنه مثل رواية خالد بن خداش أنه لا يجوز تقديم الزكاة قبل وقتها بقليل ، ولا كثير كالصلاة .

وروي عنه مثل رواية ابن القاسم .

30354 - واختلف أصحاب داود على القولين جميعا : قول من أجاز تعجيلها ، وقول من لم يجز .

[ ص: 47 ] 30355 - ومن حجة من قال : إنه لا يجوز تعجيل الزكاة قبل وجوبها ، فالقياس لها على الصلاة ، وعلى سائر ما يجب مؤقتا كالحج ، وعرفة ، ورمضان وما أشبه ذلك من المؤقتات التي لا يجوز عملها قبل أوقاتها ، وأزمانها .

30355 م - ومن أجاز تعجيلها قبل سنتها قاسها على الديون المؤجلة ; لأنه لا خلاف في جواز تعجيلها قبل إحالها إذا تبرع بذلك .

30356 - وفرق بين الصلاة والزكاة ; بأن الصلاة يستوي الناس كلهم في وقتها ، وليس كذلك أوقات الزكاة ; لأن حول زيد في الزكاة غير حول عمرو ، وأحوال الناس في ذلك مختلفة ، فلم تشبه الصلاة ; لما وصفنا .

30357 - وأما من أبى جواز تعجيل الصدقة فقد تأول حديث أبي رافع المذكور في أول هذا الباب أن ذلك كان قبل تحريم الصدقة على النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى آله ، وعلى الأغنياء .

30358 - ودليل ذلك أنه لو كان استقرض على المساكين لم يرد من أموالهم أكثر مما أخذ لهم .

30359 - ودليل آخر : أن المستقرض منه غني ، فكيف يجوز أن يعطيه من أموال المساكين أكثر مما استقرض منه ، وهو غني لا تحل له الصدقة ؟ .

[ ص: 48 ] 30360 - وقد ذكرنا احتجاج الفريقين فيما ذهب كل منهما إليه وتأويله في هذا الحديث المذكور في كتاب " التمهيد " .

30361 - وفي هذا الحديث أيضا إثبات الحيوان دين في الذمة من جهة الاستقراض ، وهو الاستسلاف .

30362 - وإذا جاز استقراض الحيوان في الذمة من جهة الاستقراض - وهو الاستسلاف - جاز السلم فيه ; لأنه عرض يثبت في الذمة بصفة معلومة .

30363 - وقد ذكرنا اختلاف الفقهاء في السلم في الحيوان فيما مضى من هذا الكتاب ، والحمد لله كثيرا .

التالي السابق


الخدمات العلمية