الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1391 1353 - مالك عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ; أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا تلقوا الركبان للبيع ، ولا يبع بعضكم على بيع بعض ، ولا تناجشوا ، ولا يبع حاضر لباد ، ولا تصروا الإبل والغنم ، فمن ابتاعها بعد ذلك فهو بخير النظرين ، بعد أن يحلبها ، إن رضيها ، أمسكها ، وإن سخطها ، ردها وصاعا من تمر " .


30459 - قال أبو عمر : أما قوله : لا تلقوا الركبان للبيع " ، فقد روي هذا المعنى بألفاظ مختلفة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث أبي هريرة ، وغيره .

[ ص: 70 ] 30460 - فروى الأعرج عن أبي هريرة كما ترى : " لا تلقوا الركبان للبيع " .

30461 - وروى ابن سيرين عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : لا تلقوا الجلب " .

30462 - وروى أبو صالح وغيره عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى أن تتلقى السلع حتى تدخل الأسواق .

30463 - وروى ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : " لا تستقبلوا السوق ، ولا يتلق بعضكم لبعض " .

30464 - والمعنى في كل ذلك واحد .

30465 - وجملة قول مالك في ذلك أنه لا يجوز أن يشتري أحد من الجلب ، والسلع الهابطة إلى الأسواق شيئا حتى تصل السلعة إلى سوقها ، هذا إذا كان التلقي في أطراف المصر ، أو قريبا منه .

30466 - وقيل لمالك : أرأيت إن كان ذلك على رأس ستة أميال ؟ فقال : لا بأس بذلك ، قال : والحيوان وغيره في ذلك سواء .

30467 - وروى ابن وهب عن مالك أنه سئل عن الرجل يخرج في الأضحى إلى مثل الإصطبل ، وهو نحو من ميل يشتري ضحايا ، وهو موضع فيه الغنم ، [ ص: 70 ] والناس ، يخرجون إليهم ، يشترون منهم هناك ؟ .

30468 - فقال مالك : لا يعجبني ذلك وقد نهي عن تلقي السلع ، فلا أرى أن يشترى شيء منها حتى يهبط بها إلى الأسواق .

30469 - قال مالك : والضحايا أفضل ما احتيط فيه ; لأنها نسك يتقرب به إلى الله ( عز وجل ) ، فلا أرى ذلك .

30470 - وسئل عن الذي يتلقى السلعة ، فيشتريها ، وتوجد معه ، أترى أن تؤخذ منه ، فتباع للناس ؟ .

30471 - فقال مالك : أرى أن ينهى عن ذلك ، فإن نهي عن ذلك ، ثم وجد قد عاد نكل .

30472 - وقد روى ابن وهب ، عن مالك أنه كره تلقي السلع في مسيرة اليوم ، واليومين .

30473 - وتحصيل مذهب مالك في ذلك أنه لا يجوز تلقي السلع والركبان ، ومن تلقاهم فاشترى منهم سلعة شركه فيها أهل سوقها إن شاءوا وكان فيها واحدا منهم ، وسواء كانت السلعة طعاما ، أو بزا .

30474 - وروى عيسى ، وسحنون ، وأصبغ ، عن ابن القاسم أن السلعة إذا [ ص: 72 ] تلقاها متلق ، واشتراها قبل أن يهبط بها إلى سوقها ، فإنها تعرض على الذين يتجرون في السوق بها ، فيشتركون فيها بذلك الثمن لا زيادة إن شاءوا ، فإن لم يكن لتلك السلعة سوق ، عرضت على الناس في المصر ، فيشتركون فيها إن أحبوا ، فإن نقصت عن ذلك الثمن لزمت المشتري المتلقي لها .

30475 - قال سحنون : وقال لي غير ابن القاسم : يفسخ البيع .

30476 - وقال عيسى عن ابن القاسم : يؤدب متلقي السلع إذا كان معتادا لذلك .

30477 - وروى سحنون عنه أيضا أنه يؤدب إلا أن يعذر بالجهالة .

30478 - وقال عيسى عن ابن القاسم : إن فاتت السلعة ، فلا شيء عليه .

30479 - وقد ذكرنا في " التمهيد " ، وفي كتاب " اختلاف أقوال مالك ، وأصحابه " ما اختلفوا فيه من هذا الباب ، وهذا المعنى .

30480 - وقال الليث بن سعد : أكره تلقي السلع ، وشراءها في الطريق ، ولو على بابك حتى تقف السلعة في سوقها التي تباع فيها ، فإن تلقى أحد سلعة ، فاشتراها ، ثم علم به ، فإن كان بائعها ، لم يذهب ردت إليه حتى تباع في السوق ، وإن كان قد ذهب أخذت من مشتريها ، وبيعت في السوق ، ودفع إليه ثمنها .

[ ص: 73 ] 30481 - قال : فإن كان على بابه ، أو في طريقه ، فمرت به سلعة يريد صاحبها سوق تلك السلعة ، فلا بأس أن يشتريها إذا لم يقصد التلقي ; لأنه ليس بمتلق ، وإنما التلقي أن يعمد إلى ذلك .

30482 - قال أبو عمر : يتفق معنى قول مالك ، والليث في أن النهي أريد به نفع أهل الأسواق ، لا رب السلع .

30483 - وقال الشافعي : يكره تلقي السلعة من أهل البادية ، فمن تلقاها ، فقد أساء ، وصاحب السلعة بالخيار إذا قدم إلى السوق ، في إنفاذ البيع ، أو رده ، وذلك أنهم يتلقونهم فيخبرونهم بانكسار سلعهم ، وكساد سوقهم ، وهم أهل غرة ، فيبيعونهم على ذلك ، وهذا ضرب من الخديعة .

30484 - حكى ذلك عن الشافعي الزعفراني ، والربيع ، والمزني .

30485 - وتفسير قول الشافعي عند أصحابه أن يخرج أهل السوق ، فيخدعون أهل القافلة ، ويشترون منهم شراء رخيصا ، فلهم الخيار ; لأنهم غروهم .

30486 - قال أبو عمر : فمذهب الشافعي في نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن تلقي السلع إنما أريد به نفع رب السلعة ، لا نفع أهل سوقها في الحاضرة .

[ ص: 74 ] 30487 - وقال أبو حنيفة ، وأصحابه : إذا كان التلقي في أرض لا يضر بأهلها ، فلا بأس به ، وإن كان يضر بأهلها فهو مكروه .

30488 - وقال الأوزاعي : إذا كان الناس من ذلك شباعا ، فلا بأس به ، وإن كانوا محتاجين ، فلا يقربوا السلع حتى يهبط بها إلى الأسواق .

30489 - ولم يجعل الأوزاعي القاعد على بابه تمر به السلع ، لم يقصد إليها ، فيشتريها متلقيا ، والمتلقي عنده التاجر القاصد إلى ذلك الخارج إليه .

30490 - وقال الحسن بن حي : لا يجوز تلقي السلع ، ولا شراؤها في الطريق حتى يهبط بها إلى الأسواق .

30491 - وقالت طائفة من المتأخرين من أهل الفقه والحديث : لا بأس بتلقي السلع في أول السوق ، ولا يجوز ذلك خارج السوق على ظاهر الحديث .

30492 - وقال ابن خواز بنداد : البيع في تلقي السلع صحيح عند الجميع ، وإنما الخلاف في أن المشتري لا يفوز بالسلعة ، ويشركه فيها أهل السوق ، ولا خيار للبائع ، أو أن البائع بالخيار إذا هبط بها إلى السوق .

30493 - قال أبو عمر : قد ذكرنا عن بعض أصحاب مالك أن البيع فاسد ، [ ص: 75 ] يفسخ ، وما أظن أن ابن خواز بنداد ، وافق على ذلك من قوله ولم يره خلافا لمخالفة الجمهور .

30494 - وفي هذا الباب حديث مسند صحيح حجة لمن ذهب إليه ، وبالله التوفيق .

30495 - وحدثني سعيد بن نصر ، وعبد الوارث بن سفيان قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثني عبد الله بن روح ، قال : حدثني يزيد بن هارون ، قال : حدثني هشام بن حسان ، عن محمد بن سيرين ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " لا تلقوا الجلب ، فمن تلقى منه شيئا ، فاشتراه ، فصاحبه بالخيار إذا أتى السوق .

30496 - وحدثني سعيد ، وعبد الوارث ، قالا : حدثني قاسم ، قال : حدثني محمد بن وضاح ، قال حدثني أبو بكر بن أبي شيبة ، قال : حدثني أبو أسامة ، عن هشام بن حسان ، عن ابن سيرين ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله .

30497 - وأخبرنا عبد الله بن محمد ، قال حدثني محمد بن بكر ، قال : حدثني أبو داود ، قال : حدثني أبو توبة ; الربيع بن نافع ، قال : حدثني عبيد الله [ ص: 76 ] ابن عمرو الرقي ، عن أيوب ، عن ابن سيرين ، عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن تلقي الجلب ، فإن تلقاه متلق ، فاشتراه ، فصاحب السلعة بالخيار إذا وردت السوق .

30498 - وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - : " ولا تناجشوا " في حديث مالك ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة على ما ذكرنا في هذا الباب ، ف :

التالي السابق


الخدمات العلمية