الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
171 [ ص: 134 ] 147 - ذكر مالك في الموطأ عن ابن شهاب ; أنه كان يقول : إذا أدرك الرجل الركعة فكبر تكبيرة واحدة ، أجزأت عنه تلك التكبيرة .

4441 - قال مالك : وذلك إذا نوى بتلك التكبيرة افتتاح الصلاة .

4442 - وسئل مالك عن رجل دخل مع الإمام ، فنسي تكبيرة الافتتاح ، وتكبيرة الركوع ، حتى صلى ركعة ثم ذكر أنه لم يكن كبر تكبيرة الافتتاح ، ولا عند الركوع ، وكبر في الركعة الثانية . قال : يبتدئ صلاته أحب إلي ، ولو سها مع الإمام عن تكبيرة الافتتاح ، وكبر في الركوع الأول ، رأيت ذلك مجزيا عنه ، إذا نوى بها تكبيرة الافتتاح .


4443 - قال أبو عمر : أما قول ابن شهاب في المسألة قبل هذا فليس فيه دليل أنه نوى بتكبيرته تلك الافتتاح ، وهو معروف من مذهبه في ترك إيجاب التكبير للافتتاح فرضا .

4444 - وأما قول مالك : وذلك إذا نوى بتلك التكبيرة الافتتاح فإنما هو على مذهبه ، كأنه قال : وذلك إذا نوى به عندنا تكبيرة الافتتاح .

4445 - وهذا صحيح ; لأن الداخل المدرك للإمام راكعا إذا كبر تكبيرة واحدة ينوي بها افتتاح الصلاة ، وركع بها أغنته عن تكبيرة الركوع .

4446 - وقد أوضحنا أن التكبير فيما عدا الإحرام سنة ; فدل ذلك على أن من قال من العلماء : يكبر الداخل تكبيرتين : إحداهما للافتتاح ، والأخرى للركوع - أراد الكمال ، والإتيان بالفرض والسنة . ومن اقتصر على تكبيرة الافتتاح فقد [ ص: 135 ] اقتصر على ما أجزأه .

4447 - وأما قول مالك في الذي يدخل مع الإمام ، فينسى تكبيرة الافتتاح والركوع ، حتى صلى ركعة ، ثم ذكر ذلك ، وكبر في الركعة الثانية : إنه استحب له أن يبتدئ صلاته .

4448 - فالجواب أن قوله : ثم كبر في الركعة الثانية لا يخلو من أن يكون نوى بالتكبيرة تكبيرة الافتتاح ، أو لم ينو بها إلا تكبيرة الركوع فقط . فإن كان نوى بها الافتتاح - وهو في الركعة الثانية - فوجه الاستحباب له أن يبتدئ صلاته يعني - والله أعلم - بالإقامة والإحرام ; لأنه راعى فيه قول من قال : إن الإحرام ليس بواجب ، وإنه لو تمادى في صلاته أجزته ، إلا أن مالكا يرى عليه الإعادة بعد ذلك للأخذ بالأوثق والاحتياط لأداء فرضه .

4449 - فوجه استحبابه أن يقطع ، ويبتدئ صلاته - رجوعه إلى أصله في إيجاب تكبيرة الإحرام - وترك مراعاة من خالف ذلك ، فرأى له أن يبتدئ ، فيصلي ما أدرك ، ويقضي ما فاته . على أنه قد يأتي له - رحمه الله - استحباب في موضع الوجوب .

4450 - وإن كان لم ينو بها الافتتاح ، وإنما كبر للركوع دون نية الافتتاح ، وذلك في الركعة الثانية ( فذلك أحرى ) أن يقطع ويبتدئ صلاته كما قد روى عنه ابن القاسم وغيره ، ويكون قوله : أحب إلي أن يبتدئ صلاته . من باب استحباب [ ص: 136 ] ما يجب فعله ; فإنه قد يأتي له مثل هذا اللفظ في الواجب أحيانا .

4451 - وقد اضطرب أصحابه في هذه المسألة اضطرابا كثيرا ، ينقض بعضه ما قد أصلوه في إيجاب تكبيرة الإحرام ، ولم يختلفوا في وجوبها على المنفرد والإمام ، كما لم يختلفوا أن الإمام لا يحمل فرضا من فروض الصلاة عمن خلفه .

4452 - فقف على هذا كله من أصولهم يبن لك وجه الصواب ، إن شاء الله .

4453 - ومن اضطرابهم في هذه المسألة تفرقتهم بين تكبير الداخل للركوع دون الإحرام في الركعة الأولى ، وبين تكبيرة الركوع في الركعة الثانية بما لا معنى لإيراده ، ولا للاشتغال به .

4454 - كما أنه من راعى في أجوبته قولا لا يصح عنده ، ولا يذهب إليه ، فإنه فساد داخل عليه . 4455 - ألا ترى أنه لا يراعي ذلك أحد منهم ولا من غيرهم في غير هذه المسألة من مسائل الوضوء ، ولا الصلاة ، ولا الصيام ، وأكثر أبواب الشرائع والأحكام . وبالله التوفيق ، لا شريك له .

4456 - وفيما ذكرنا ما يبين لك به أن من لم يكبر للإحرام ليس في صلاة ، ومن ليس في صلاة فلا حاجة به إلى القطع بسلام .

4457 - وهذا موضع قد اضطرب فيه أصحاب مالك أيضا ، وذلك لمراعاتهم الاختلاف فيما لا تجب مراعاته ; لأن الاختلاف لا يوجب حكما ، إنما يوجبه الإجماع ، أو الدليل من الكتاب والسنة ، وبذلك أمرنا عند التنازع .

[ ص: 137 ] 4458 - وأما الثوري فقال : إذا وجدت الإمام راكعا فكبر تكبيرة تنوي بها الافتتاح ، وكبر أخرى للركوع ، وكذلك إذا وجدته ساجدا كبر تكبيرة للافتتاح ، ثم كبر أخرى للسجود ، ولا تحتسب لها . فإن وجدته جالسا فكبر للافتتاح ، واجلس بغير تكبيرة ، وإذا قمت فقم بتكبير .

4459 - وقال الشافعي : إذا وجد الإمام راكعا فكبر تكبيرة نوى بها الافتتاح أجزأته ، وكان داخلا في الصلاة ، فإن نوى بها غير الافتتاح ، أو نوى بها الافتتاح والركوع جميعا ، لم يكن داخلا في الصلاة ; لأنه لم يفرد النية لها .

4460 - وقال أبو حنيفة ، وأبو يوسف ، ومحمد ، مثل قول مالك : إذا نوى بتكبيرة الركوع تكبيرة الافتتاح ، أو تكبيرة الافتتاح والركوع معا ، أجزأه ، وهو قول أبي ثور ، وهو الصحيح عندنا ; لما قدمنا عن ابن عمر أنه كان يغتسل للجنابة والجمعة غسلا واحدا .

التالي السابق


الخدمات العلمية