الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
31119 - قال مالك : والسنة في المساقاة التي يجوز لرب الحائط أن يشترطها على المساقي شد الحظار وخم العين وسرو الشرب وإبار [ ص: 223 ] النخل وقطع الجريد وجذ الثمر ، هذا وأشباهه على أن للمساقي شطر الثمر أو أقل من ذلك أو أكثر إذا تراضيا عليه ، غير أن صاحب الأصل لا يشترط ابتداء عمل جديد ، يحدثه العامل فيها ، من بئر يحتفرها ، أو عين يرفع رأسها أو غراس يغرسه فيها ، يأتي بأصل ذلك من عنده . أو ضفيرة يبنيها ، تعظم فيها نفقته ، وإنما ذلك بمنزلة أن يقول رب الحائط لرجل من الناس : ابن لي هاهنا بيتا ، أو احفر لي بئرا أو أجر لي عينا ، أو اعمل لي عملا بنصف ثمر حائطي هذا ، قبل أن يطيب ثمر الحائط ، ويحل بيعه ، فهذا بيع الثمر قبل أن يبدو صلاحه ، وقد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها .

31120 - قال مالك : فأما إذا طاب الثمر وبدا صلاحه وحل بيعه ، ثم قال رجل لرجل : اعمل لي بعض هذه الأعمال ، لعمل يسميه له ، بنصف ثمر حائطي هذا ، فلا بأس بذلك ، إنما استأجره بشيء معروف معلوم ، قد رأه ورضيه فأما المساقاة ، فإنه إن لم يكن للحائط ثمر ، أو قل ثمره أو فسد ، فليس له إلا ذلك وأن الأجير لا يستأجر إلا بشيء مسمى ، لا تجوز الإجارة إلا بذلك ، وإنما الإجارة بيع من البيوع ، إنما يشتري منه عمله ، ولا يصلح ذلك إذا دخله الغرر ; لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الغرر .


31121 - قال أبو عمر : أراد مالك - رحمه الله - بكلامه هذا بيان الفرق بين [ ص: 224 ] المساقاة ، والإجارة ، وأن المساقاة ليست من الإجارة في شيء ، فإنها أصل في نفسها كالقراض ، لا يقاس عنده عليها شيء من الإجارات .

31122 - إن الإجارة عنده بيع من البيوع ، لا يجوز فيها الغرر ، وقوله في ذلك كله هو قول جمهور العلماء .

31123 - ومنهم من يأبى أن يجعل الإجارة من باب البيوع وهو قول أهل الظاهر ; لأنها منافع لم تخلق .

31124 - وقد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع ما لم يخلق ، ولأنها ليست عينا وليست البيوع إلا في الأعيان ، وقالوا : الإجارة باب منفرد بسنته كالمساقاة ، وكالقراض .

31125 - وأما قوله في هذه المسألة " شد الحظار " ، فروي بالشين المنقوطة ، وهو الأكثر عن مالك في الرواية ، ويروى عنه بالسين على معنى سد الثلمة ، وأما بالشين معناه تحصين الزروب التي حول النخل ، والشجر ، وكل ذلك متقارب المعنى .

31126 - وأما " خم العين " ، فتنقيتها والمخموم : النقي ، ومنه يقال : رجل مخموم القلب إذا كان نقي القلب من الغل والحسد .

31127 - وأما " سرو الشرب " فالسرو : الكنس للحوض ، والشرب : جمع شربة ، وهي الحياض التي حول النخل ، والشجر وجمعها شرب ، وهي حياض [ ص: 225 ] يستنقع فيها الماء حول الشجر ، ويقال في القليل منها شربات ، كما قال زهير : "

يخرجن من شربات ماؤها طحل

" .

31128 - وإبار النخل تذكيرها بطلع الفحل .

31129 - و " قطع الجريد " : قطع جرائد النخل إذا كسرت ، وقد يصنع مثل ذلك بالشجر ، وهو ضرب من قطع قضبان الكرم .

31130 - و " جذ الثمر " : جمعه وهو مثل حصاد الزرع ، وقطع العنب .

31131 - واختلف الفقهاء في الذي عليه جذاذ الثمر منهما فقال مالك : ما وصفنا عليه جماعة أصحابه إلا أنهم قالوا : إن اشترط المساقي على رب المال جذاذ الثمر ، وعصر الزيتون جاز ، وإن لم يشترطه ، فهو على العامل ، ومن اشترط عليه منهما جاز .

31132 - وقال محمد بن الحسن الشيباني : والتلقيح ، والخبط حتى يصير تمرا على العامل ، فإذا بلغ الجذاذ كان عليهما بنصفين إن كان الشرط نصفين .

قال : ولو أن صاحب النخل اشترط في أصل المساقاة الجذاذ والخبط حتى يصير ثمرا على العامل ، فإذا بلغ الجذاذ ، والخبط بعد ما بلغ على العامل كانت المساقاة فاسدة .

[ ص: 226 ] 31133 - وقال الشافعي : إن اشترط المساقى على رب المال جذاذ الثمر ، أو قطف العنب لم يجز ، فكانت المساقاة فاسدة ، وإنما " شد الحظار " عند مالك على العامل كما عليه ، كما وصفنا من إبار النخل ، وقطع الجريدة ونوى النطيح ، والخبط حتى يصير تمرا .

31134 - وقال الشافعي : كل ما كان داعيته إلى الاستزادة في العدة من إصلاح الماء بطريقه ، وقطع الحشيش المضر بالنخل ، ونحوه فشرطه على العامل ، وأما " شد الحظار " فليس عنه مشترى في الثمن ، ولا صلاح لها ، ولا يجوز اشتراطه على العامل .

31135 - وقال محمد بن الحسن : لا يجوز اشتراط تنقية المسقاة ، والأنهار على العامل ، وإن اشترط ذلك عليه كانت المعاملة فاسدة .

31136 - قال أبو عمر : قول مالك في هذا الباب أولى بالصواب ; لأن ذلك كله عمل في الحائط يصلحه ، وينعقد ، وعلى ذلك يستحق المساقي نصيبه من عدمه ، فأما الذي لا يجوز اشتراطه على العامل ، مما لا يعود منه فائدة على العامل في حصته ما ينفرد به رب الحائط دونه ; لأنه حينئذ - يصير زيادة استأجره عليها المجهول من الثمن .

التالي السابق


الخدمات العلمية