الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1415 [ ص: 245 ] 234 - كتاب كراء الأرض [ ص: 246 ] [ ص: 247 ] ( 1 ) باب ما جاء في كراء الأرض 1379 - مالك ، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن ، عن حنظلة بن قيس الزرقي ، عن رافع بن خديج ; أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن كراء المزارع .

[ ص: 248 ] قال حنظلة : فسألت رافع بن خديج ، بالذهب والورق ؟ فقال : أما بالذهب والورق ، فلا بأس به .

1380 - مالك ، عن ابن شهاب ; أنه قال سألت سعيد بن المسيب عن كراء الأرض بالذهب والورق ؟ فقال : لا بأس به .

1381 - مالك ، عن ابن شهاب أنه سأل سالم بن عبد الله بن عمر ، عن كراء المزارع ؟ فقال : لا بأس بها ، بالذهب والورق .

قال ابن شهاب : فقلت له : أرأيت الحديث الذي يذكر عن رافع بن [ ص: 249 ] خديج ؟ فقال : أكثر رافع ، ولو كان لي مزرعة أكريتها .

1382 - مالك ، أنه بلغه ; أن عبد الرحمن بن عوف تكارى أرضا ، فلم تزل في يديه بكراء حتى مات ، قال ابنه : فما كنت أراها إلا لنا ، من طول ما مكثت في يديه ، حتى ذكرها لنا عند موته ، فأمرنا بقضاء شيء كان عليه من كرائها ذهب أو ورق .

1383 - مالك ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه أنه كان يكري أرضه بالذهب والورق .

وسئل مالك : عن رجل أكرى مزرعته بمائة صاع من تمر ، أو مما يخرج منها من الحنطة أو من غير ما يخرج منها ؟ فكره ذلك .


31231 - قال أبو عمر : قد مضى ، والحمد لله في المساقاة مذهب مالك في كراء الأرض ، وما يجب أن تكرى به ، وما اختلف فيه أصحابه من ذلك .

31232 - وأما هذا الباب ، فإنما يقتضي إشارة كلها إجازة كراء الأرض بالذهب والورق ، ويقتضي أيضا الرد على من كره كراء الأرض بكل حال ونحن بحول الله تعالى نبين ذلك - إن شاء الله عز وجل - .

31233 - فأما حديث مالك في هذا الباب عن ربيعة ، عن حنظلة ، عن رافع أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن كراء المزارع فظاهره يقتضي النهي عن كرائها بكل [ ص: 250 ] حال ، إلا أن رافعا استثنى من ذلك كراءها بالذهب ، والورق .

31234 - وقد روى عنه ابن عمر هذا الخبر ، وحمله على العموم ، فترك كراء المزارع .

31235 - وروى معمر ، ويونس ، وعقيل ، عن ابن شهاب ، عن سالم ، عن ابن عمر : كان يكري أرضه حتى بلغه أن رافع بن خديج ; كان يحدث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى عن كراء المزارع ، فترك ابن عمر كراءها .

31236 - ورواه جويرية ، عن مالك ، عن ابن شهاب كذلك .

31237 - وروى الليث بن سعد ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن أبي بجير [ ص: 251 ] أن رافع بن خديج كان يقول : منعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نكري المحاقل .

31238 - وروى عبد الكريم ، عن مجاهد ، عن ابن رافع بن خديج ، عن أبيه ، قال : نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن إجارة الأرض .

31239 - فهذه الروايات في حديث رافع بن خديج ، وظاهرها أنه لا يجوز كراء المزارع بحال ، لا بذهب ، ولا بفضة ، ولا بغير ذلك .

31240 - وإلى هذا ذهب طاوس اليماني ، فقال : إنه لا يجوز كراء الأرض بالذهب ، ولا بالورق ، ولا بالعروض .

31241 - وبه قال أبو بكر عبد الرحمن بن كيسان الأصم ، قال : لا يجوز كراء الأرض بشيء من الأشياء ; لأنها إذا استؤجرت ، وحرثها المستأجر ، وأصلحها لعله أن يحرق زرعه ، فيردها وقد زادت وانتفع رب الأرض ، ولم ينتفع المستأجر ، فمن هنا لم يجز لأحد أن يستأجرها ، والله أعلم .

[ ص: 252 ] 31242 - قال أبو عمر : هذا ليس بشيء ، وإنما كره كراءه من كرهه ; للحديث المأثور عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك .

31243 - قال أبو عمر : ومن حجة من لم يجز كراء الأرض بشيء من الأشياء - وأبي من ذلك - حديث ضمرة بن ربيعة ، عن ابن شوذب ، عن مطر ، عن عطاء ، عن جابر ، قال : خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " من كانت له أرض فليزرعها ، أو ليزرعها ، ولا يؤاجرها " .

31244 - وقد ذكرنا أسانيد هذه الأحاديث في " التمهيد " .

31245 - وقال آخرون : جائز كراء الأرض لمن شاء ، ولكنه لا يجوز بشيء غير الذهب ، والورق .

31246 - واحتجوا بحديث طارق بن عبد الرحمن ، عن سعيد بن المسيب ، عن رافع بن خديج ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " إنما يزرع ثلاثة : رجل له أرض ، فهو يزرعها ، ورجل منح أرضا ، فهو يزرع ما منح ، ورجل اكترى بذهب ، أو فضة " . [ ص: 253 ] 31247 - قالوا : فلا يجوز أن يتعدى ما في هذا الحديث ; لما فيه من البيان والتوفيق .

31248 - وهو مذهب ربيعة ، وسعيد بن المسيب .

31249 - وروى ابن عيينة ، عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب ، أنه كان لا يرى بأسا بكراء الأرض البيضاء بالذهب ، والورق .

31250 - وابن عيينة ، عن عبد الكريم الجزري ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس .

31251 - وابن جريج ، عن عطاء ، عن ابن عباس أنه لم يكن يرى بكراء الأرض البيضاء بأسا بالذهب والورق .

31252 - وقال آخرون : جائز أن تكرى الأرض البيضاء بكل شيء من الأشياء ما خلا الطعام ، فإنه لا يجوز كراؤها بشيء من الطعام كله .

31253 - واحتجوا بحديث يعلى بن حكيم ، عن سليمان بن يسار ، عن رافع بن خديج ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من كانت له أرض ، فليزرعها ، أو [ ص: 254 ] ليزرعها أخاه ، ولا يكريها بثلث ، ولا بربع ، ولا بطعام مسمى " .

31254 - وإلى هذا ذهب مالك ، وأكثر أصحابه ، قالوا : فقد حاجز في هذا الحديث ، ومنع من كراء الأرض بالطعام المعلوم ، وغير المعلوم .

31255 - وتأولوا في نهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المحاقلة أنه كراء الأرض بالطعام .

31256 - وذكروا حديث سعيد بن المسيب مرفوعا ، وفيه : المحاقلة : استكراء الأرض بالحنطة .

31257 - قالوا : وسائر طعامه كله في معناها ، وجعلوه ، من باب الطعام بالطعام نسيئة .

31258 - وقال آخرون : جائز كراء الأرض بالذهب ، والورق ، والطعام كله ، وسائر العروض كلها إذا كان معلوما .

31259 - قالوا : وكل ما جاز أن يكون ثمنا لشيء ، فجائز أن يكون أجرة في كراء الأرض ، ما لم يكن مجهولا أو غررا .

[ ص: 255 ] 31260 - وهو قول سالم ، وغيره .

31261 - وروى ابن عيينة ، عن عمرو بن دينار أنه حدثه ، قال سمعت سالم بن عبد الله يقول : أكثر رافع على نفسه في كراء الأرض ، والله لنكرينها كراء الإبل .

31262 - وذكر إسماعيل بن إسحاق ، قال : حدثني ابن أخي جويرية ، قال : حدثنا جويرية ، عن مالك ، عن الزهري أن سالم بن عبد الله أخبره ، وسأله عن كراء المزارع ؟ فقال : أخبر رافع بن خديج عبد الله بن عمر عن عميه وكانا قد شهدا بدرا ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن كراء المزارع .

قال : فترك عبد الله كراءها وقد كان يكريها قبل ذلك .

قال الزهري : فقلت لسالم : أفتكريها أنت ؟ قال : نعم ، قد كان عبد الله يكريها ، قلت : فأين حديث رافع بن خديج ؟ فقال : إن رافعا أكثر على نفسه .

31263 - وإلى هذا ذهب الشافعي ، وأصحابه .

31264 - ومن حجتهم حديث الأوزاعي ، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن ، عن حنظلة بن قيس الأنصاري ، قال : سألت رافع بن خديج ، عن كراء الأرض [ ص: 256 ] بالذهب والورق ؟ فقال : لا بأس بذلك ، إنما كان الناس على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يؤاجرون الأرض بما على الماذيانات في إقبال الجداول ، فيهلك هذا ، ويسلم هذا ، ويهلك هذا ، فكذلك زجر عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فإما شيء مضمون معلوم ، فلا بأس .

قالوا : فقد أخبرنا رافع بالعلة التي نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن كراء المزارع .

31265 - وكذلك جهل البدل وأخبر أن كراءها بكل شيء معلوم جائز .

31266 - وروى الثوري وابن عيينة ويزيد بن هارون ، عن يحيى بن سعيد الأنصاري ، قال : أخبرني حنظلة بن قيس أنه سمع رافع بن خديج ، قال : كنا أكثر الأنصار حقلا فكنا نخابر فنقول : لهذا هذا الجانب ولهذا هذا الجانب يزرعها لنا ، فربما أخرجت هذه ، ولم تخرج هذه ، فنهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فأما بذهب ، أو ورق ، فلم ينه عنه ، وهذا لفظ ابن عيينة .

31267 - قال أبو عمر : يعني وما كان في معنى الذهب ، والورق من الأثمار المعلومات .

31268 - وقيل لابن عيينة : إن مالكا يروي هذا الحديث ، عن ربيعة ، فقال : [ ص: 257 ] وما يريد منه ، وما يرجو منه ؟ يحيى بن سعيد أحفظ منه . وقد حفظناه عنه .

31269 - قال أبو عمر : رواية مالك لهذا الحديث ، عن ربيعة مختصرة ، فقد ذكرنا آثار هذا الباب كلها بأسانيدها من طرق في " التمهيد " .

31270 - وقال آخرون : جائز كراء الأرض بجزء مما يزرع فيها مكتريها بثلث ، أو ربع ، أو نصف .

31271 - واحتجوا بحديث ابن المبارك ، وغيره عن عبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن عبد الله بن عمر : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعطى يهود خيبر النخل ، والأرض على أن يعملوها ، ويزرعوها ، وله شطر ما يخرج فيها .

31272 - قالوا : هذا الحديث أصح من أحاديث رافع ; لأنها مضطربة المتون جدا .

31273 - وقد ذكرنا القائلين بجواز المزارعة ، وهي إعطاء الأرض على النصف والثلث والربع فيما مضى من المساقاة ، والحمد لله كثيرا .

[ ص: 258 ] 31274 - وروى سفيان ، عن ابن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، وابن طاوس قالا : كان طاوس يخابر .

31275 - قال عمرو : فقلت له : يا أبا عبد الرحمن ، لو تركت هذه المخابرة ، فإنهم يزعمون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عنها .

31276 - قال : حدثنا عمر ، وأخبرني بذلك أعلمهم - يعني ابن عباس - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم ينه عنها يمنح أحدكم أخاه خير له ممن يأخذ عليها أجرا معلوما ، وقدم معاذ بن جبل اليمن حين بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وهم يخابرون ، وأقرهم ، وأنا أعطيهم ، فأكون شريكهم ، فإن نقصوا كنت قد نقصت معهم .

31277 - قال سفيان : يقول لي نصيبي مما ربحوا ، وعلي ما نقصوا .

31278 - وذكر إسماعيل بن إسحاق ، قال : حدثني ابن أخي جويرية قال : حدثني جويرية ، عن مالك ، قال : سألت الزهري ، عن كراء الأرض بالثلث والربع ؟ فقال : ذلك حسن .

التالي السابق


الخدمات العلمية