الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1424 36 - كتاب الأقضية [ ص: 7 ] بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم

1 - باب الترغيب في القضاء بالحق

1388 - مالك ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن زينب بنت أبي سلمة ، عن أم سلمة ، زوج النبي ; أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : قال : إنما أنا بشر ، وإنكم تختصمون إلي ، فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض ، فأقضي له على نحو ما أسمع منه ، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه ، فلا يأخذن منه شيئا ، فإنما أقطع له قطعة من النار .


[ ص: 8 ] 31566 - قال أبو عمر : لم يختلف في إسناد هذا الحديث ، ولا على هشام ، وقد رواه عن هشام : الثوري ، وابن عيينة ، ويحيى القطان ، وغيرهم ، ورواه أيضا معمر ، عن الزهري ، عن عروة ، عن زينب ، عن أمها - أم سلمة - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله .

31567 - وقد روي من حديث أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل ذلك كله في التمهيد .

[ ص: 9 ] 31568 - وفي هذا الحديث من الفقه :

أن البشر لا يعلمون الغيب ، وإذا كان الأنبياء يعرفون بهذا ، فكيف يصح لأحد دعوى ذلك ؟ وهل يحصل من علم الغيب عند مدعيه إلا التخرص ، والتظنن بالنجامة ، أو بالتكهن ، الذي هو كله إلا يسير منه ظن كذب ; لأن الظن أكذب الحديث ، وأما علم صحيح متيقن متبين ، فلا سبيل إليه ، والله أعلم .

31569 - وأما قوله : فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض يعني : أفطن لها ، وأجدل بها .

31570 - قال أبو عبيدة : اللحن بفتح الحاء : الفطنة ، واللحن بجزم الحاء الخطأ في القول .

31571 - وفيه أن القاضي إنما يقضي على الخصم بما يسمع منه من إقرار ، أو إنكار أو بينات على حسب ما أمكنته السنة في ذلك .

31572 - وفيه أن القاضي يقضي بكل ما يقر به عنده - المقر لمن ادعى عليه ; لقوله - صلى الله عليه وسلم - : فأقضي له بمعنى أقضي عليه بما أسمع منه ، يريد أو من بينة المدعي ; لأن هذا هو الذي يسمع مما يحتاج أن يقضي به .

31573 - ولو أقر المقر عنده في مجلس حكمه بما قد استوعب سماعه منه ، ثم جحد المقر إقراره ذلك ، ولم يحضر مجلسه ذلك شهيدان وجب على [ ص: 10 ] القاضي الحاكم القضاء بما سمع حضره أحد أو لم يحضره .

31574 - هذا قول جمهور الفقهاء ، وهو قول الكوفيين ، والشافعيين وغيرهم .

31575 - واستحب مالك - رحمه الله - أن يحضره شاهدان وأجاز في ذلك شهادة العدل ، وغيره ، ولو علم أن ما شهد به الشهود على غير ما شهدوا به أن ينفذ علمه في ذلك دون شهادتهم ، وذلك دليل على أن ذلك استحباب عنده ، والله الموفق للصواب .

31576 - وفي ذلك أيضا رد وإبطال للحكم بالهوى ، وبالظنون أيضا .

31577 - قال الله عز وجل : ياداود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله . . . الآية [ 26 من سورة ص ] .

31578 - وقد احتج بعض أصحابنا بهذا الحديث في رد حكم القاضي بعلمه ; لقوله فأقضي له على نحو ما أسمع منه ولم يقل : على نحو ما علمت منه ، أو من قصته .

31579 - قال : وإنما تعبدنا بالحكم بالبينة ، والإقرار ، وهو المسموع الذي [ ص: 11 ] قال فيه - صلى الله عليه وسلم - : إنما أقضي على نحو ما أسمع ، وذلك المسموع من المقر في مجلس الحكم .

31580 - وقد قيل في تأويل قول الله عز وجل : وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب [ ص : 2 ] : إن فصل الخطاب البينات ، أو إقرار من يلزمه إقراره .

31581 - والعلة في القضاء بالبينة أو الإقرار دون العلم التهمة ; لأن الحاكم إذا قضى بعلمه كان مدعيا علم ما لم يعلم إلا من جهته .

31582 - وقد أجمعوا أن القاضي لو قتل أخاه لعلمه بأنه قاتل لم يجب له القود منه ، فإنه قاتل عمدا والقاتل عمدا لا يرث منه شيئا ; لموضع التهمة في وراثته .

31583 - ومن أحسن ما يحتج به في أن القاضي لا يقضي بعلمه - حديث معمر ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث أبا جهم على صدقة ، فلاجه رجل في فريضة ، فوقع بينهم شجاج ، فأتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فأخبروه ، فأعطاهم الأرش ، ثم قال : إني خاطب الناس ومخبرهم أنكم قد رضيتم ، أرضيتم ؟ قالوا : نعم ، فصعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فخطب ، وذكر القصة ، وقال : أرضيتم ؟ قالوا : لا ، فهم بهم المهاجرون ، فنزل النبي - صلى الله عليه وسلم - فأعطاهم ، ثم صعد المنبر فخطب ، ثم قال : أرضيتم ؟ قالوا : نعم .

[ ص: 12 ] 31584 - وهذا بين ; لأنه لم يأخذ منهم بما علم منهم ، ولا قضى بذلك عليهم ، وقد علم رضاهم .

31585 - وهذا معظم ما يحتج به من لم ير للقاضي أن يقضي بعلمه .

31586 - وأما من رأى للقاضي أن يقضي بعلمه منهم : الشافعي ، والكوفي ، وسنذكرهم بعد - إن شاء الله عز وجل .

31587 - فمن حجتهم أنه مستيقن قاطع لصحة ما يقضي به إذا علمه علم يقين ، وليست الشهادة عنده كذلك ; لأنها قد تكون كاذبة ، وواهمة ، وعلمه بالشيء أوكد ; لأنه ينتفي عنه في علمه الشك ، والارتياب .

31588 - وقد أجمعوا أن له أن يعدل ، ويسقط العدول بعلمه ، فكذلك ما علم صحته .

31589 - وأجمعوا أيضا على أنه إذا علم أن ما شهد به الشهود على غير ما شهدوا به أنه ينفذ علمه في رد شهادتهم ، ولا يقضي بشهادتهم ، ويردها بعلمه .

31590 - ومما احتج به الشافعي ، وغيره بقضاء القاضي بعلمه - حديث عبادة بن الصامت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قوله : وأن نقوم بالحق حيثما كنا ، لا نخاف في الله لومة لائم .

[ ص: 13 ] 31591 - وقول الله عز وجل : كونوا قوامين بالقسط شهداء لله [ النساء : 135 ] .

31592 - وحديث عائشة في قصة هند بنت عتبة مع زوجها أبي سفيان بن حرب في قول النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه : خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف ولم يكلفها بينة ; لأنه علم صدق قولها من قبل زوجها ، وحاله التي عرف منه .

31593 - وقالوا : إنما يقضي بما يسمع فيما طريقه السمع من الإقرار ، والبينة ، وأما ما كان طريقه علمه ، فإنه يقضي فيه بعلمه .

31594 - ولهم في هذا الباب منازعات أكثرها تشغيب .

31595 - والسلف من الصحابة والتابعين مختلفون في قضاء القاضي بعلمه على حسب اختلاف فقهاء الأمصار من ذلك .

31596 - ومما احتج به من قال : إن القاضي يقضي بعلمه ، فيما قضى به علمه مع ما قدمنا ذكره - ما رويناه من طريق غير واحد عن عروة ، وعن مجاهد .

[ ص: 14 ] جميعا بمعنى واحد ، أن رجلا من بني مخزوم استعدى عمر بن الخطاب على أبي سفيان بن حرب ; أنه ظلمه حدا في موضع كذا ، وكذا ، فقال عمر : إني لأعلم الناس بذلك ، وربما لعبت أنا وأنت فيه ، ونحن غلمان ، فإذا قدمت مكة ، فأتني بأبي سفيان ، فلما قدم مكة ، أتاه المخزومي بأبي سفيان ، فقال له عمر : يا أبا سفيان : انهض بنا إلى موضع كذا ، فنهضوا ، ونظر عمر ، فقال : يا أبا سفيان ! خذ هذا الحجر من هنا ، فضعه هاهنا ، فقال : والله لا أفعل ذلك ، فقال عمر : والله لتفعلن ، فقال : لا ، والله لا أفعل ، فقال والله لتفعلن ، فقال : لا أفعل ، فعلاه عمر بالدرة ، وقال خذه - لا أم لك - وضعه هاهنا ، فإنك قديم الظلم ، فأخذ أبو سفيان الحجر ، ووضعه حيث قال عمر ، ثم إن عمر استقبل القبلة ، وقال : اللهم لك الحمد إذ لم تمتني حتى غلبت أبا سفيان على رأيه ، فأذللته لي بالإسلام ، قال : فاستقبل القبلة أبو سفيان وقال : اللهم لك الحمد ، الذي لم تمتني حتى جعلت في قلبي من الإسلام ما ذللت به لعمر .

31597 - ففي هذا الخبر قضاء عمر بعلمه فيما قد علمه قبل ولايته .

31598 - وإلى هذا ذهب أبو يوسف ، ومحمد ، والشافعي ، وأبو ثور ، سواء عندهم علم القاضي قبل أن يلي القضاء ، أو بعد ذلك ، في مصره كان أو غير مصره ، له أن يقضي في ذلك كله عندهم بعلمه .

31599 - وقال أبو حنيفة : ما علمه قبل أن يلي القضاء ، أو رآه في غير مصره [ ص: 15 ] لم يقض فيه بعلمه ; لأنه شاهد واحد في ذلك ، وما علمه بعد أن استقضي ، أو رآه بمصره قضى في ذلك بعلمه ; لأنه في ذلك قاض لا يحتاج أن ينضم إليه فيما يقضي به غيره .

31600 - وهذا القول مأخوذ من اجتماع السلف ، وجمهورهم ، على أن ما أقر به المقر عند القاضي ، وهو قاض يومئذ أنه يقضي به .

31601 - واتفق أبو حنيفة ، وأصحابه أن القاضي لا يقضي بعلمه في شيء من الحدود ، لا فيما علمه قبل ولايته ، ولا فيما علمه بعد ذلك ، ولا فيما رآه بمصره ، ولا بغير مصره .

31602 - وقال الشافعي وأبو ثور : حقوق الناس ، وحقوق الله سواء في ذلك ، والحدود وغيرها في ذلك سواء ، جائز أن يقضي القاضي في ذلك كله بعلمه .

31603 - وقال مالك ، وأكثر أصحابه : لا يقضي القاضي في شيء من الأشياء بما علمه ، لا قبل ولايته ، ولا بعدها ، ولا يقضي القاضي إلا بالبينات ، أو الإقرار .

31604 - وبه قال أحمد بن حنبل .

31605 - وهو قول شريح ، والشعبي .

[ ص: 16 ] 31606 - وفي هذا الحديث أيضا إيجاب الحكم بالظاهر دون إعمال الظن ، والاستحسان ، ألا ترى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى في المتلاعنين بظاهر أمرهما ، وما ادعاه كل واحد منهما ، ونفاه صاحبه ، وأحلفهما بأيمان اللعان ، ولم يلتفت إلى غير ذلك ، وكانت المرأة حاملا ، فقال - صلى الله عليه وسلم - : إن جاءت بالولد على صفة كذا وكذا فهو للزوج ، وإن جاءت به على صفة كذا وكذا ، فهو للذي رميت به ، فجاءت به على النعت المكروه ، فلم يلتفت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى ذلك; لأن الشبه قد ينتزع عنه ، وقد لا ينتزع ، بل أمضى حكم الله فيما بعد أن سمع منها ، ولم يعرج على الظن ، ولا أوجب بالشبهة حكما ، ولا رد به قضاء سلف منه مجتهدا فيه على ما أوجبه الظاهر .

31607 - وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - : " فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذه ، فإنما أقطع له قطعة من النار " ففيه بيان واضح بأن قضاء القاضي بالظاهر الذي يعتد به لا يحل حراما في الباطن على من علمه .

31608 - وأجمع العلماء على أن ذلك في الأموال صحيح ، كما وصفنا ; لقول الله عز وجل : ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون [ البقرة : 188 ] .

[ ص: 17 ] 31609 - واختلفوا في حل عصمة النكاح ، أو عقدها بظاهر ما يقضي به الحكم وهو خلاف الباطن ، فقال مالك ، والثوري ، والأوزاعي ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو ثور ، وداود ، وجمهور العلماء : الأموال ، والفروج في ذلك سواء ، وهي حقوق كلها لا يحل منها القضاء الظاهر ما هو حرام في الباطن; لعموم قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذه ، فإنما أقطع له قطعة من النار ، ولم يخص حقا من حق .

31610 - وقال أبو حنيفة ، وأبو يوسف ، وكثير من أصحابنا : إنما ذلك في الأموال .

31611 - وقالوا في رجلين تعمدا الشهادة بالزور على رجل أنه طلق امرأته ، فقبل القاضي بشهادتهما بظاهر عدالتهما عنده وهما قد تعمدا الكذب ، ففرق القاضي بشهادتهما بين الرجل ، وامرأته ، ثم اعتدت المرأة : إنه جائز لأحد الشاهدين أن يتزوجها ، فإنه عالم بأنه كان من شهادته كاذبا .

31612 - وهو قول الشعبي ; لأنها لما حلت للأزواج في الظاهر كان الشاهد ، وغيره سواء ; لأن القاضي ، وحكمه فرق بينها ، وبين زوجها ، وانقطعت عصمتها منه ، ولولا ذلك ما حلت لزوج غيره .

[ ص: 18 ] 31613 - واحتجوا بحكم اللعان ، وقالوا : معلوم أن الزوجة إنما وصلت إلى فراق زوجها باللعان الكاذب الذي لو علم الحاكم كذبها فيه ما فرق بينها وبين زوجها ، ولا حكم فيها بغير ذلك من وجوب الحد عليها : الجلد ، أو الرجم .

31614 - قالوا فلم يدخل هذا في معنى قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : من قضيت له بشيء من حق أخيه ، فلا يأخذه .

31615 - قالوا : ألا ترى أن من شهد عليه بالنكاح ، أو بالطلاق ، وقضى القاضي عليه بذلك ، لم يكن له الامتناع منه ، وجاز الحكم بشهادة الشهود عليه ، ولزمه التسليم له ، وكانت فرقته بالظاهر فرقة عامة ، فلما كان ذلك دخل عليه الشاهد ، وغيره ، ولهم في ذلك كلام يطول ذكره في ذلك أكثره لا يصح ، وليس هذا موضعه .

31616 - والصحيح في ذلك ما ذهب إليه مالك ، والشافعي ، وجمهور فقهاء المسلمين أنه لا يحل للشاهد بالزور أن يتزوجها وهو عالم بأن زوجها لم يطلقها وكذلك غيره إذا علم لم يحل له ، وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية