الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1392 - مالك ; أنه بلغه أن عمر بن الخطاب قال : لا تجوز شهادة خصم ولا ظنين .


31656 - قال أبو عمر : حديث ربيعة عن عمر ، وإن كان منقطعا ، فقد قلنا : إن أكثر العلماء من السلف قبلوا المرسل من أحاديث العدول .

31657 - وقد وجدنا خبر ربيعة هذا من حديث المسعودي ، عن القاسم بن عبد الرحمن ، قال : قال عمر بن الخطاب : لا يؤسر رجل في الإسلام يشهد الزور .

31658 - ومعنى يؤسر أي يحبس ; لنفوذ القضاء عليه .

31659 - فهذا الحديث عن عمر ، عند المدنيين ، والكوفيين ، والبصريين .

31660 - والمسعودي هذا هو من ثقات محدثي الكوفة ، وهو عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة بن عبد الله بن مسعود ، يقولون : إنه كان أعلم الناس بعلم ابن [ ص: 30 ] مسعود ، واختلط في آخر عمره ، وروى عن جماعة من جلة أهل الكوفة ، منهم الحكم بن عتيبة ، وحبيب بن أبي ثابت ، وعلي بن مدرك ، وروى عنه جماعة منهم شعبة والثوري ، ووكيع ، وأبو نعيم ، وأخوه أبو العميس ، واسمه عتبة بن عبد الله بن مسعود ، ثقة أيضا .

31661 - وحديث ربيعة هذا يدل على أن عمر رجع عن قوله ، ومذهبه الذي كتب به إلى أبي موسى ، وغيره من عماله . وهو خبر لا يأتي إلا عن أهل البصرة . نخرجه عنهم ، وهو قوله : المسلمون عدول بينهم ، أو قال : عدول بعضهم على بعض إلا خصما ، أو ظنينا .

31662 - وقد كان الحسن البصري ، وغيره يذهب إلى هذا من قول عمر ، فيقبل شهادة كل مسلم على ظاهر دينه ، ويقول للمشهود عليه : دونك فتخرج إن وجدت من يشهد لك ، فإني قد قبلتهم فيما شهدوا به عليك .

31663 - وهذا المذهب عن عمر مشهور .

31664 - قرأت على أبي عبد الله - محمد بن إبراهيم - حدثكم محمد بن أحمد بن يحيى ، قال : حدثنا محمد بن أيوب ، قال : حدثنا أحمد بن عمر بن عبد الخالق البزار ، قال : سمعت أبي يقول : حدثني فضيل بن عبد الوهاب ، قال : حدثني [ ص: 31 ] أبو معشر ، عن سعيد بن أبي بردة عن أبيه - أبي بردة بن أبي موسى الأشعري ، قال : كتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري : اعلموا أن القضاء فريضة محكمة ، وسنة متبعة ، فالفهم الفهم إذا اختصم إليك ، فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له ، آس بين الناس في وجهك حتى لا ييأس ضعيف من عدلك ، ولا يطمع شريف في جورك ، والمسلمون عدول بعضهم على بعض ، إلا خصما أو ظنينا متهما ، ولا يمنعك قضاء قضيته اليوم راجعت فيه نفسك غدا ، أن تعود إلى الحق ، فإن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل . واعلم أنه من تزين للناس بغير ما يعلم الله شانه الله ، ولا يضيع عامل الله فما ظنك بثواب الله في عاجل رزقه ، وجزاء رحمته .

31665 - وأخبرنا عبد الوارث ، قال : حدثني القاسم ، قال : حدثني الخشني ، قال : حدثني ابن أبي عمر العدني ، قال : حدثني سفيان ، عن إدريس بن يزيد الأودي ، عن سعيد بن أبي بردة ، عن أبي موسى الأشعري ، عن أبيه قال : كتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري : أما بعد ، فإن القضاء فريضة محكمة ، وسنة متبعة ، فافهم إذا أولي إليك ، فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له ، آس بين الناس في مجلسك ، ووجهك ، وعدلك حتى لا يطمع شريف في حيفك ، ولا ييأس ضعيف من عدلك ، الفهم الفهم فيما تلجلج في صدرك ليس في كتاب ، ولا سنة ، ثم قس الأمور بعضها ببعض ، ثم انظر أشبهها بالحق ، وأحبها إلى الله تعالى ، فاعمل به ، ولا يمنعك قضاء قضيت به اليوم ، راجعت فيه نفسك ، وهديت فيه لرشدك أن [ ص: 32 ] تراجع الحق ، فإن الحق قديم لا يبطله شيء ، وإن مراجعة الحق خير من التمادي في الباطل ، اجعل لمن ادعى حقا غائبا ، أو بينة أمدا ينتهي إليه ، فإن أحضر بينته إلى ذلك أخذت له حقه ، وإلا أوجبت عليه القضاء ، فإنه أبلغ للعذر ، وأجلى للعمى .

الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا حرم حلالا ، أو أحل حراما ، والناس عدول بعضهم على بعض إلا مجلودا في حد ، أو مجربا عليه شهادة زور ، أو ظنينا في ولاء أو قرابة ، فإن الله قد تولى منكم السرائر ودفع عليكم بالبينات ، ثم إياك والقلق ، والضجر والتأذي بالناس ، والتنكر للخصوم التي يرى الله فيها الأجر ، ويحسن فيها الذكر ، فمن خلصت نيته كفاه الله ما بينه وبين الناس ، ومن تزين للناس بما يعلم الله منه غيره شانه الله ، فما ظنك بثواب الله في عاجل رزقه ، وخزائن رحمته ، والسلام عليكم ورحمة الله .

31666 - وهذا الخبر روي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - من وجوه كثيرة من رواية أهل الحجاز ، وأهل العراق ، وأهل الشام ، ومصر ، والحمد لله .

31667 - قال أبو عمر : قد كان الليث بن سعد يذهب نحو مذهب الحسن .

31668 - قال الليث : أدركت الناس ، لا يلتمس من الشاهد تزكية ، إنما كان الوالي يقول للخصم إذا كان عندك من تجرح شهادتهم فأت بهم ، وإلا أجزنا شهادتهم عليك .

[ ص: 33 ] 31669 - قال أبو عمر : في قول الله عز وجل : وأشهدوا ذوي عدل منكم [ الطلاق : 2 ] وقوله : ممن ترضون من الشهداء [ البقرة : 282 ] دليل على أنه لا يجوز أن يقبل إلا العدل الرضي ، وأن من جهلت عدالته لم تجز شهادته حتى تعلم الصفة المشترطة .

31670 - وقد اتفقوا في الحدود ، والقصاص ، وكذلك كل شهادة ، وبالله التوفيق .

31671 - واختلف الفقهاء في المسألة عن الشهود الذين لا يعرفهم القاضي .

31672 - فقال مالك : لا يقضي القاضي بشهادتهم حتى يسأل عنهم في السر .

[ ص: 34 ] 31673 - وقال الشافعي : يسأل عنهم في السر ، فإذا عدلوا سأل عن تعديلهم علانية ; ليعلم المعدل سرا ، أحق ذاك أم لا ; لأنه ربما وافق اسم اسما ، ونسب نسبا .

31674 - وقال أبو حنيفة : لا يسأل عن الشهود في السر إلا أن يطعن فيهم الخصم إلا في الحدود ، والقصاص .

31675 - وقال أبو يوسف : يسأل عنهم في السر والعلانية ، ويزكيهم في العلانية ، وإن لم يطعن عليهم الخصم .

31676 - وروي عن علي بن عاصم ، عن ابن شبرمة ، قال : أول من سأل في السر إذا كان الرجل يأتي بالقوم إذا قيل له : هات من يزكيك ، فيستحي القوم منه ، فيزكونه ، فلما رأيت ذلك في السر ، فإذا صحت شهادته ، قلت : هات من يزكيك في العلانية .

التالي السابق


الخدمات العلمية