الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1436 [ ص: 87 ] 9 - باب جامع ما جاء في اليمين على المنبر

1401 - مالك ، عن داود بن الحصين ; أنه سمع أبا غطفان بن طريف المري يقول : اختصم زيد بن ثابت الأنصاري وابن مطيع في دار كانت بينهما ، إلى مروان بن الحكم ، وهو أمير على المدينة ، فقضى مروان على زيد بن ثابت باليمين على المنبر . فقال زيد بن ثابت : أحلف له مكاني . قال : فقال مروان : لا والله إلا عند مقاطع الحقوق ، قال فجعل زيد بن ثابت يحلف أن حقه لحق ، ويأبى أن يحلف على المنبر ، قال فجعل مروان بن الحكم يعجب من ذلك .

قال مالك : لا أرى أن يحلف أحد على المنبر ، على أقل من ربع دينار . وذلك ثلاثة دراهم .


31922 - قال أبو عمر : جملة مذهب مالك في هذا الباب أن اليمين لا تكون عند المنبر من كل جامع ، ولا في الجامع حيث كان إلا في ربع دينار - ثلاث دراهم فصاعدا ، أو في عرض يساوي ثلاثة دراهم - وما كان دون ذلك حلف فيه في مجلس الحاكم ، أو حيث شاء من المواضع في السوق ، وغيرها .

31923 - قال مالك : يحلف المسلم في القسامة ، واللعان ، وفيما له بال من [ ص: 88 ] الحقوق على ربع دينار ، فصاعدا في جامع بلده في أعظم مواضعه ، وليس عليه التوجه إلى القبلة .

31924 - هذه رواية ابن القاسم .

31925 - وروى ابن الماجشون ، عن مالك أنه يحلف قائما مستقبل القبلة .

31926 - قال : ولا يعرف مالك اليمين عند المنبر إلا منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقط ، يحلف عنده في ربع دينار ، فأكثر .

31927 - قال مالك : ومن أبى أن يحلف على المنبر ، فهو كالناكل عن اليمين ، ويحلف في أيمان القسامة عند مالك إلى مكة كل من كان من عملها ، فيحلف بين الركن والمقام ، ويحلف في ذلك إلى المدينة من كان من عملها فيحلف عند المنبر .

31928 - ومذهب الشافعي في اليمين بين الركن والمقام بمكة ، وعند منبر النبي - عليه السلام - بالمدينة نحو مذهب مالك ، إلا أن الشافعي لا يرى اليمين عند المنبر بالمدينة ، ولا بين الركن والمقام بمكة ، إلا في عشرين دينارا ، فصاعدا .

31929 - وذكر عن سعيد بن سالم القداح ، عن ابن جريج ، عن عكرمة ، قال : أبصر عبد الرحمن بن عوف قوما يحلفون بين المقام والبيت ، فقال : أعلى دم ؟ قيل : لا ، فقال : على عظيم من الأموال ؟ قالوا : لا ، قال : لقد [ ص: 89 ] خشيت أن يتهاون الناس بهذا المقام .

31930 - هكذا رواه الحسن بن محمد الزعفراني ، عن الشافعي يتهاون الناس .

31931 - ورواه المزني ، والربيع في كتاب اليمين مع الشاهد ، فقالا فيه : لقد خشيت أن يبهأ الناس بهذا المقام ، وهو الصحيح عندهم .

31932 - ومعنى يبهأ يأنس الناس به ، يقال : بهأت به ، أي أنست به .

31933 - قال : ومنبر النبي - عليه السلام - في التعظيم مثل ذلك ; لما ورد فيه من الوعيد على من حلف عنده بيمين كاذبة تعظيما له .

31934 - قال الشافعي : وبلغني أن عمر بن الخطاب حلف عند المنبر في خصومة كانت بينه وبين رجل وأن عثمان ردت عليه اليمين على المنبر ، فافتدى منها ، وقال : أخاف أن يوافق قدر بلاء ، فيقال بيمينه .

31935 - قال الشافعي : واليمين على المنبر ما لا خلاف فيه عندنا بالمدينة ومكة في قديم ، ولا حديث .

31936 - قال أبو عمر : اليمين عند المنبر مذهب الشافعي ، وأصحابه في كل [ ص: 90 ] البلدان - قياسا على العمل من الخلف والسلف بالمدينة عند منبر النبي - صلى الله عليه وسلم - .

31937 - قال الشافعي : وقد عاب قولنا هذا عائب ترك فيه موضع حجتنا ; لسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، والآثار بعده عن أصحابه ، وزعم أن زيد بن ثابت كان لا يرى اليمين على المنبر ، وإنا روينا ذلك عنه ، وخالفناه إلى قول مروان بن الحكم بغير حجة .

قال : وهذا مروان يقول لزيد - وهو عنده أحظى أهل زمانه وأرفعهم لديه منزلة - : لا والله ، إلا عند مقاطع الحقوق .

قال : فما منع زيد بن ثابت ، لو يعلم أن اليمين على المنبر حق - أن يقول لمروان ما هو أعظم من هذا وقد قال له : أتحل الربا يا مروان ؟ فقال مروان : أعوذ بالله ، وما هذا ؟ فقال : فالناس يتبايعون الصكوك قبل أن يقبضوها . فبعث مروان الحرس ينتزعونها من أيدي الناس ، فإذا كان مروان لا ينكر على زيد هذا ، فكيف ينكر على نفسه أن يلزمه اليمين على المنبر ؟ ! لقد كان زيد من أعظم أهل المدينة في عين مروان ، وآثرهم عنده ، ولكن زيدا علم أن ما قضى به مروان حق ، وكره أن تصبر يمينه عند المنبر .

31938 - قال الشافعي : وهذا الأمر الذي لا اختلاف فيه عندنا والذي نقل الحديث فيه كأنه تكلف لاجتماعنا على اليمين عند المنبر ، لقد كان زيد من أعظم أهل [ ص: 91 ] المدينة . . ، ثم ذكر أحاديث عن السلف من الصحابة في اليمين عند المنبر ؛ منها الحديث عن المهاجر بن أبي أمية ، قال : كتب إلي أبو بكر رضي الله عنه أن ابعث إلي بقيس بن مكشوح في وثاق ، فبعثت إليه به فجعل قيس يحلف ما قتل داذويه ، فأحلفه أبو بكر خمسين يمينا عند منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالله ما قتله ، ولا علم له قاتلا ، ثم عفا عنه .

31939 - قال أبو عمر : وأما اختلاف الفقهاء في اليمين عند المنبر بالمدينة ، وغيرها من البلدان ، وبمكة بين الركن والمقام ، فقد ذكرنا عن مالك ، والشافعي في ذلك ما بان به ما ذهبا إليه هما ، وأصحابهما .

31940 - وقال ابن أبي أويس : قال مالك في الأيمان التي تكون بين الناس في الدماء ، واللعان ، والحقوق : لا يحلف فيها عند منبر إلا عند منبر النبي - صلى الله عليه وسلم - في القسامة في الدماء ، واللعان ، والحقوق فيما بلغ ثلاثة دراهم من الحقوق ، وأما سائر المساجد ، فإنهم يحلفون فيها ، ولا يحلفون عند منابرها .

31941 - وأما أبو حنيفة ، ذكر الجوزجاني ، وغيره ، عن أبي حنيفة ، وأبي يوسف ، ومحمد ، قالوا : لا يجب الاستحلاف عند منبر النبي - صلى الله عليه وسلم - على أحد ، ولا بين [ ص: 92 ] الركن والمقام على أحد في قليل الأشياء ، ولا كثيرها ، ولا في الدماء ، ولا في غيرها ، ولكن الحكام يحلفون من وجبت عليه اليمين في مجالسهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية