الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1437 [ ص: 93 ] 10 - باب ما لا يجوز من غلق الرهن

1402 - مالك عن ابن شهاب ، عن سعيد بن المسيب ; أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : لا يغلق الرهن .

31942 - قال مالك : وتفسير ذلك ، فيما نرى والله أعلم أن يرهن الرجل الرهن عند الرجل بالشيء ، وفي الرهن فضل عما رهن به ،فيقول الراهن للمرتهن : إن جئتك بحقك إلى أجل يسميه له وإلا فالرهن لك بما رهن فيه .

[ ص: 94 ] 31943 - قال : فهذا لا يصلح ولا يحل ، وهذا الذي نهي عنه ، وإن جاء صاحبه بالذي رهن به بعد الأجل فهو له ، وأرى هذا الشرط منفسخا .


31944 - قال أبو عمر : قد ذكرنا في التمهيد من وصل الحديث ، فجعله عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة من رواة مالك ، ومن رواة ابن شهاب أيضا ، ومنهم من يرويه عن ابن شهاب عن سعيد ، وأبي سلمة ، عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .

31945 - ومنهم من يزيد فيه مرسلا ، ومسندا : الرهن ممن رهنه له غنمه ، وعليه غرمه .

31946 - وجعله بعضهم من قول سعيد بن المسيب .

31947 - وقد حدثنا خلف بن قاسم ، قال : حدثني علي بن الحسن ، وأحمد بن محمد بن يزيد الحلبي ، قالا : حدثني علي بن عبد الحميد الغضائري ، قال : حدثني مجاهد بن موسى ، قال : حدثني معن بن عيسى ، عن مالك ، عن ابن شهاب ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : لا يغلق الرهن وهو من صاحبه .

[ ص: 95 ] 31948 - هكذا جاء هذا الإسناد عن معن بن عيسى ، وليس كذلك في الموطأ .

31949 - ورواه معمر ، وابن أبي ذئب ، ويحيى بن أبي أنيسة ، كلهم عن الزهري ، عن سعيد ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال : لا يغلق الرهن ممن رهنه ، له غنمه ، وعليه غرمه .

31950 - وقد ذكرنا الأسانيد بكل ذلك من طرق متواترة في التمهيد ، والحمد لله كثيرا .

31951 - وأصل هذا الحديث عند أكثر أهل العلم به مرسل ، وإن كان قد وصل من جهات كثيرة إلا أنهم يعللونها على ما ذكرنا عنهم في التمهيد وهم مع ذلك لا يدفعه ، بل الجميع يقبله ، وإن اختلفوا في تأويله .

31952 - والرواية فيه : لا يغلق الرهن بضم القاف على الخبر ، بمعنى الرهن ليس يغلق ، أي لا يذهب ، ولا يتلف باطلا ، والله أعلم .

31953 - والنحويون يقولون : غلق الرهن إذا لم يوجد له تخلص .

31954 - قال زهير :

وفارقتك برهن لا فكاك له يوم الوداع فأمسى الرهن قد غلقا

[ ص: 96 ] 31955 - وقال قعنب ابن أم صاحب :

بانت سعاد وأمسى دونها عدن     وغلقت عندها من قبلك الرهن

31956 - وقال آخر :

كأن القلب ليلة قيل يغدى     بليلى العامرية أو يراح
قطاة عرها شرك فباتت     تجاذبه وقد غلق الجناح

31957 - وقد أكثرنا في التمهيد من الشواهد بالشعر في هذا المعنى .

31958 - وقال أبو عبيد : لا يجوز في كلام العرب أن يقال في الرهن إذا ضاع قد غلق إنما يقال : قد غلق إذا استحقه المرتهن ، فذهب به ، ثم ذكر نحو تفسير مالك له في الموطأ .

31959 - وعلى نحو تفسير مالك لذلك فسره سفيان الثوري .

31960 - وبمثل ذلك جاء تفسيره عن شريح القاضي ، وطاوس ، وإبراهيم النخعي .

[ ص: 97 ] 31961 - وقد كان الزهري يقوله ، ثم رجع عنه .

31962 - أخبرنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثني محمد بن يحيى بن عمر ، قال : حدثني علي بن حرب ، قال : حدثني سفيان بن عيينة ، عن عمرو ، عن طاوس ، قال : إذا رهن الرجل الرهن ، فقال صاحبه : إن لم آتك إلى كذا وكذا ، فالرهن لك ، قال : ليس بشيء ولكن يباع ، فيأخذ حقه ، ويرد ما فضل .

31963 - روى هشيم ، عن منصور ، عن إبراهيم ، قال : إذا أقرض الرجل الرجل قرضا ، ورهنه رهنا ، وقال له : إن أتيتك بحقك إلى أجل كذا ، وإلا فهو لك بما فيه ، قال : ليس هذا بشيء ، هو رهن على حاله لا يغلق .

31964 - وهذا كله كما فسره مالك - رحمه الله .

31965 - وهذا يدل على أن قوله لا يغلق الرهن إنما هو في الرهن القائم الموجود ، لا فيما هلك من الرهون ، وأنه ليأخذه المرتهن إذا حل الأجل بما له عليه من الشرط الذي أبطلته السنة ، وجعلت صاحبه أولى به إذا أراد افتكاكه ، فأدى دينه .

31966 - وذكر عبد الرزاق ، عن معمر ، قال : قلت للزهري : أرأيت قوله : لا يغلق الرهن ، أهو الرجل : يقول : إن لم آتك بمالك ، فهذا الرهن لك ؟ قال : نعم .

[ ص: 98 ] قال معمر : ثم بلغني أنه إن هلك لم يذهب حق هذا ، إنما هلك من رب المال له غنمه وعليه غرمه .

31967 - قال أبو عمر : اختلف العلماء - قديما وحديثا - من الصحابة ، والتابعين ، ومن بعدهم في الرهن يهلك عند المرتهن ، ويتلف من غير جناية منه ، ولا تضييع :

31968 - قال مالك بن أنس ، والأوزاعي ، وعثمان البتي : إذا كان الرهن مما يخفى هلاكه نحو الذهب ، والفضة ، والثياب ، والحلي ، والسيف ، واللجام ، وسائر ما يغاب عليه من المتاع ، ويخفى هلاكه ، فهو مضمون على المرتهن إن هلك ، وخفي هلاكه ، ويترادان الفضل فيما بينهما .

31969 - وإن كانت قيمة الرهن أكثر من الدين ذهب الدين كله ، ويرجع الراهن على المرتهن بفضل قيمة الرهن .

31970 - وإن كانت قيمة الرهن مثل الدين ذهب بما فيه .

31971 - وإن كانت أقل أتم الراهن للمرتهن دينه .

31972 - وإن اختلفا ، فسيأتي القول فيه في باب بعد هذا ، حيث ذكره مالك - رحمه الله .

31973 - وكان مالك ، وابن القاسم يذهبان فيما يغاب عليه من الرهن أنه إن [ ص: 99 ] قامت البينة على هلاكه ، فليس بمضمون ، إلا أن يتعدى فيه المرتهن ، أو يضيعه ، فيضمن .

31974 - وقال أشهب : كل ما يغاب عليه مضمون على المرتهن خفي هلاكه ، أو ظهر .

31975 - وهو قول الأوزاعي ، والبتي .

31976 - واتفق مالك ، وأصحابه ، والأوزاعي ، وعثمان البتي في الرهن إذا كان مما يظهر هلاكه نحو الدور ، والأرضين ، والحيوان ، وما كان مثل ذلك كله فهلك أنه من مال الراهن ومصيبته منه ، والمرتهن فيه أمين .

31977 - وروى هذا القول الأوزاعي ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه .

31978 - وقال ابن أبي ليلى ، وعبيد الله بن الحسن ، وإسحاق ، وأبو عبيد في هلاك الرهن عند المرتهن : إنهما يترادان الفضل بينهما على مثل قول مالك ، والأوزاعي ، والبتي ، إلا أنه لا فرق عندهم بين ما يظهر هلاكه ، وبين ما لا يظهر ، وبين ما يغاب عليه ، وبين ما لا يغاب عليه .

31979 - والرهن عندهم مضمون على كل حال ، حيوانا كان أو غيره .

31980 - وروي هذا القول ومعناه عن علي بن أبي طالب من حديث قتادة ، عن خلاس ، عن علي - رضي الله عنه .

[ ص: 100 ] 31981 - وروي أيضا عن ابن عمر من حديث إدريس الأودي ، عن إبراهيم بن عميرة ، عن ابن عمر ، إلا أن إبراهيم بن عميرة مجهول ، لا يعرف .

31982 - وقال سفيان الثوري ، وأبو حنيفة ، وأصحابه ، والحسن بن حي : إن كان الرهن مثل الدين ، أو أكثر ، فهو بما فيه ، وإن كان أقل من الدين ذهب بقدره ، ورجع المرتهن على الراهن بما نقص من قيمة الرهن عن الدين .

31983 - والرهن عندهم مضمون بقيمة الدين ، فما دون ، وما زاد على الدين ، فهو أمانة .

31984 - وروي مثل هذا القول عن علي مثله من حديث عبد الأعلى ، عن محمد ابن الحنفية ، عن علي ، وهو أحسن الأسانيد في هذا الباب عن علي - رضي الله عنه .

31985 - وقال شريح القاضي : وعامر الشعبي ، وشريك ، وغير واحد من الكوفيين يذهب الرهن بما فيه من الدين إذا هلك سواء كانت قيمته مثل الدين ، أو أقل ، أو أكثر ، ولا يرجع ، واحد منهما على صاحبه بشيء .

31986 - وهو قول الفقهاء السبعة المدنيين ، إلا أنهم إنما يجعلونه بما فيه إذا هلك وعميت قيمته ، ولم تقم بينة على ما فيه ، فإن قامت بينة على ما فيه ترادا الفضل .

31987 - وبه قال الليث بن سعد ، ومالك بن أنس : إذا عميت قيمة الرهن ، وأقر الراهن والمرتهن جميعا أنهما لا يعرفان قيمته ، فهو بما فيه .

[ ص: 101 ] 31988 - قال الليث : وبلغني ذلك عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه .

31989 - والحيوان عند الليث لا يضمن إلا أن يتهم المرتهن في دعوى الموت والإباق .

31990 - قال الليث : بالموت يكون ظاهرا معلوما لا يخفى .

31991 - وإن أعلم المرتهن الراهن بموته ، أو إباقه ، أو أعلم السلطان - إن كان صاحبه غائبا - حلف ، وبرئ .

31992 - وقالت طائفة من أهل الحجاز ، منهم سعيد بن المسيب ، وابن شهاب الزهري ، وعمرو بن دينار ومسلم بن خالد الزنجي ، والشافعي ، وأصحابه : الرهن كله أمانة قليله ، وكثيره ، ما يغاب عليه منه ، وما لا يغاب عليه ، ولا يضمن إلا بما يضمن به الودائع من التعدي والتضييع كسائر الأمانات ، ولا يضير المرتهن هلاك الرهن ودينه ثابت على حاله ، وسواء عندهم الحيوان في ذلك ، والدور ، والرباع ، والثياب ، والحلي ، وغير ذلك .

31993 - وبه قال أحمد بن حنبل ، وأبو ثور ، وداود بن علي ، وجمهور أهل الحديث .

31994 - وحجتهم في ذلك حديث سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .

31995 - ومنهم من يرسله عن سعيد ، ومنهم من يجعله من قوله : الرهن من صاحبه الذي رهنه له غنمه ، وعليه غرمه .

[ ص: 102 ] 31996 - وقد أوضحنا ذلك كله في التمهيد .

31997 - وقال هؤلاء : يعني قوله - صلى الله عليه وسلم - : له غنمه ; أي له غلته وخراجه ، وفائدته ، كما له رقبته .

31998 - ومعنى عليه غرمه أي فكاكه ، ومصيبته .

31999 - قالوا : والمرتهن ليس بمعتد حينئذ فيضمن ، وإنما يضمن من تعدى .

32000 - وقال المزني : قد قال مالك ، ومن تابعه إن الحيوان ما ظهر هلاكه أمانة .

32001 - وقال أبو حنيفة ومن قال بقوله : ما زاد على قيمة الرهن ، فهو أمانة ، فالواجب بحق النظر أن يكون كله أمانة .

32002 - ومعنى قوله : له غنمه وعليه غرمه عند مالك ، وأصحابه ، أي له غلته وخراجه وأجرة عمله كما قال من تقدم ذكره .

32003 - قالوا : ومعنى قوله : وعليه غرمه ; أي نفقته ، ليس الفكاك والمصيبة .

32004 - قالوا : لأن الغنم إذا كان الخراج والغلة كان الغرم ما قابل ذلك من النفقة .

32005 - قالوا : والأصل أن المرتهن إذا لم يتعمد لم يضمن ما ظهر هلاكه ويضمن ما غاب هلاكه من حيث ضمنه المستعير سواء ; لأن لكل واحد منهما أخذ [ ص: 103 ] الشيء لمنفعة نفسه ، والمرتهن أخذه وتبعه بحقه ، والمستعير أخذ العارية للمنفعة بها دون صاحبها ما دامت عنده .

32006 - وليس كذلك الأمانة ; لأن الأمين يأخذها لمنفعة ربها ، وذلك حفظها عليه ، وحراستها له .

32007 - قالوا : وفي معنى قوله : له غنمه ، وعليه غرمه قوله - صلى الله عليه وسلم - : الرهن مركوب ومحلوب ، أي أجر ظهره لربه ، ونفقته عليه ، ولا يجوز أن يكون ذلك للمرتهن ؟ لأنه ربا من أجل الدين الذي له ، ولا يجوز أن يكون الراهن يلي الركوب والحلاب ; لأنه كان يصير - حينئذ - الرهن عنده غير مقبوض ، والرهن لا بد أن يكون مقبوضا ، ولو ركبه لخرج من الرهن .

32008 - وأما أبو حنيفة ، وأصحابه ، فتأويل قوله - عليه السلام - عندهم : له غنمه وعليه غرمه أي لا يكون غنمه للمرتهن ، ولكن يكون للراهن وغنمه عندهم ما فضل من الدين ، وغرمه ما نقص من الدين .

[ ص: 104 ] 32009 - وهذا كله أيضا عندهم في سلامة الرهن ، لا في عطبه .

32010 - والرهن عندهم مضمون بالدين ، لا بنفسه ، ولا قيمته .

32011 - ومن حجتهم أن المرتهن لما كان أحق بالرهن من سائر الغرماء في الفلس علم أنه ليس كالوديعة ، فإنه مضمون ; ولأنه لو كان أمانة لم يكن المرتهن أحق به .

32012 - وقال الشافعي : معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - : لا يغلق الرهن قول عام ، لم يخص فيه ما يظهر هلاكه مما لا يظهر ، وما يعاب عليه مما لا يعاب عليه ، ومن فرق بين شيء من ذلك ، فقد قال بما لا يعضده نص ، ولا قياس .

32013 - ولو عكس هذا القول على قائله ، فقيل : ما ظهر هلاكه لا يكون أمانة ; لأنهما قد رضيا أن يكون الرهن بما فيه ، أو مضمونا بقيمته وأما ما يخفى هلاكه ، فقد رضي صاحبه بدفعه إلى المرتهن ، وهو يعلم أن هلاكه يخفى ، فقد رضي فيه أمانته ، فهو لأمانته ، فإن هلك لم يهلك من مال المرتهن ، وذلك لا يصح ; لأنه لا دليل لقائله من نص كتاب ، ولا سنة ، ولا قياس .

32014 - قال : ولا خلاف علمته بين العلماء أن ما ظهر هلاكه من الأمانة ، وما خفي سواء أنه مضمون ، وما ظهر ، أو خفي هلاكه من المضمون سواء في أنه مضمون .

[ ص: 105 ] 32015 - قال : وكذلك قول أهل الكوفة ، لا يستقيم في قياس ، ولا نظر ، ولا فيه أثر يلزم أنهم جعلوا الرهن مرة مضمونا بما فيه الدين ، ومرة مضمونا بالقيمة بما فيه ، والمضمونات إنما تضمن بالقيمة إذا فاتت كأنما فيها من الحق ، فإن ذكروا رواية عن علي ، فالخلاف عن علي موجود ، والسنة تدل على أنه أمانة ، وبالله التوفيق .

32016 - اختصرت كلامه هذا ، ولكل هذه الطوائف حجج يطول ذكرها ، قد تقصاها أصحابهم ، كل لمذهبه ، وبالله التوفيق ، لا شريك له .

التالي السابق


الخدمات العلمية