الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1445 [ ص: 141 ] 1412 - وروى مالك في هذا الباب من الموطأ عن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن عبد القاري ، عن أبيه ; أنه قال : قدم على عمر بن الخطاب رجل من قبل أبي موسى الأشعري ، فسأله عن الناس ، فأخبره ، ثم قال له عمر : هل كان فيكم من مغربة خبر ؟ فقال : نعم ، رجل كفر بعد إسلامه ، قال : فما فعلتم به ؟ قال : قربناه ، فضربنا عنقه ، فقال عمر : أفلا حبستموه ثلاثا ، وأطعمتموه كل يوم رغيفا ، واستتبتموه لعله يتوب ويراجع أمر الله ؟ ثم قال عمر : اللهم إني لم أحضر ، ولم أرض إذ بلغني .


32152 - وحدثني خلف بن قاسم ، قال : حدثني ابن أبي العقيب ، قال : حدثني أبو زرعة ، قال : حدثني أحمد بن خالد ، قال : حدثني محمد بن إسحاق عن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن عبد القاري عن أبيه ، قال : قدم وفد أهل البصرة على عمر ، فأخبروه بفتح تستر ، فحمد الله ، ثم قال : هل حدث فيكم حدث ؟ فقالوا : لا والله يا أمير المؤمنين إلا رجل ارتد عن دينه ، فقتلناه ، قال : [ ص: 142 ] ويلكم ، أعجزتم أن تطينوا عليه بيتا ثلاثا ، ثم تلقوا إليه كل يوم رغيفا ، فإن تاب قبلتم منه ، وإن أقام كنتم قد أعذرتم إليه ، اللهم إني لم أشهد ، ولم آمر ، ولم أرض إذ بلغني .

32153 - ورواه ابن عيينة ، فقال فيه : عن محمد بن عبد الرحمن ، عن أبيه .

32154 - وقول مالك ، وابن إسحاق الصواب إن شاء الله تعالى .

32155 - وروى داود بن أبي هند ، عن الشعبي ، عن أنس بن مالك أن نفرا من بكر بن وائل ارتدوا عن الإسلام يوم تستر ، فلحقوا بالمشركين ، فلما فتحت قتلوا في القتال ، قال : فأتيت عمر بفتحها ، فقال : ما فعل النفر من بكر بن وائل ؟ فعرضت عن حديثه لأشغله عن ذكرهم ، فقال : لا . ما فعل النفر من بكر بن وائل ؟ فقلت : قتلوا ، قال : لأن أكون كنت أخذتهم سلما أحب إلي مما طلعت عليه الشمس من صفراء وبيضاء ، قلت : وهل كان سبيلهم إلا القتل ؟ ارتدوا عن الإسلام ، ولحقوا بالمشركين ، قال : كنت أعرض عليهم أن يدخلوا في الباب الذي خرجوا منه ، فإن قبلوا قبلت منهم ، وإلا استودعتهم السجن .

32156 - قال أبو عمر : يعني استودعتهم السجن حتى يتوبوا ، فإن لم يتوبوا قتلوا ، هذا لا يجوز غيره ; لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من بدل دينه ، فاضربوا عنقه .

32157 - وروى عبادة ، عن العلاء أبي محمد أن عليا - رضي الله عنه - أخذ [ ص: 143 ] رجلا من بكر بن وائل تنصر بعد الإسلام ، فعرض عليه الإسلام شهرا ، فأبى ، فأمر بقتله .

32158 - وذكر أبو بكر ، قال : حدثني حفص بن غياث ، عن أشعث ، عن الشعبي ، قال : قال علي : يستتاب المرتد ثلاثا ، فإن عاد قتل .

32159 - وروى أبو معاوية عن الأعمش عن أبي عمرو الشيباني أن عليا أتي بالمستورد العجلي ، وقد ارتد عن الإسلام ، فاستتابه ، فأبى أن يتوب ، فقتله .

32160 - وقد ذكرنا في التمهيد من هذه الآثار كثيرا .

32161 - ولا أعلم بين الصحابة خلافا في استتابة المرتد ، فكأنهم فهموا من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : من بدل دينه فاقتلوه أي بعد أن يستتاب ، والله أعلم .

32162 - إلا حديث معاذ مع أبي موسى ، فإن ظاهره القتل دون استتابة ، وقد قيل إن ذلك المرتد قد كان استتيب .

. 32163 - رواه يحيى القطان وغيره ، عن قرة بن خالد ، عن حميد بن هلال ، عن أبي بردة ، عن أبي موسى الأشعري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استعمله على اليمن ، ثم أتبعه معاذ بن جبل ، فوجد عنده رجلا مقيدا بالحديد ، فقال : ما شأن هذا ؟ فقال : كان يهوديا فأسلم ، وارتد - وراجع دينه دين السوء ، فقال معاذ : لا أنزل حتى يقتل ، [ ص: 144 ] قضاء الله ورسوله .

32164 - وروي هذا الحديث من وجوه عن أبي موسى إلا أن بعضهم قال فيه : قد كان استتيب قبل ذلك أياما .

32165 - ذكر أبو بكر ، قال : حدثني عباد بن العوام ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن حميد بن هلال أن معاذا لما أتى أبا موسى ، وعنده رجل يهودي ، فقال : ما هذا ؟ قال : يهودي أسلم ، ثم ارتد ، وقد استتابه أبو موسى شهرين ، فقال معاذ : لا أجلس حتى أضرب عنقه .

32166 - واحتج من لم ير الاستتابة بحديث معاذ هذا .

32167 - واحتجوا أيضا بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر يوم فتح مكة بقتل قوم ارتدوا [ ص: 145 ] عن الإسلام منهم عبد الله بن خطل ، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح العامري مع ظاهر قوله - صلى الله عليه وسلم - : من بدل دينه ، فاقتلوه .

32168 - وذكر سحنون أن عبد العزيز بن أبي سلمة كان يقول : يقتل المرتد ، ولا يستتاب .

32169 - ويحتج بحديث معاذ مع أبي موسى .

32170 - وقال الليث بن سعد ، وطائفة معه : لا يستتاب من ولد في الإسلام ، ثم ارتد إذا شهد عليه ، ولكنه يقتل ، تاب من ذلك ، أو لم يتب إذا قامت البينة العادلة .

32171 - واختلفوا عن الحسن البصري : فروي عنه أنه قال : يقتل دون استتابة .

32172 - وروي عنه أنه قال : يستتاب مئة مرة .

32173 - قال أبو عمر : من رأى قتله بالاستتابة جعله حدا من الحدود ، ولم يقبل فيه توبته .

[ ص: 146 ] 32174 - وقال : توبته بينه وبين الله في آخرته ، ورأى أن حده إذا بدل دينه القتل .

32175 - وروى ابن القاسم وغيره عن مالك ، قال : يعرض على المرتد الإسلام ثلاثا ، فإن أسلم وإلا قتل .

32176 - قال : وإن ارتد قتل ولم يستتب كما تقتل الزنادقة .

32177 - قال : وإنما يستتاب من أظهر دينه الذي ارتد إليه .

32178 - قال مالك : يقتل الزنادقة ، ولا يستتابون .

32179 - قال : والقدرية يستتابون ، يقال لهم : اتركوا ما أنتم عليه ، فإن تابوا ، وإلا قتلوا .

32180 - وقال ابن وهب عن مالك : ليس في استتابة المرتد أمر من جماعة الناس .

32181 - وقال الشافعي : يستتاب المرتد ظاهرا ، والزنديق جميعا ، فمن لم يتب منهما قتل .

32182 - وفي الاستتابة ثلاثا قولان : أحدهما : حديث عمر .

والآخر : أنه لا يؤخر ; لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر فيه بأناة ، وهذا ظاهر الخبر .

32183 - قال الشافعي : ولو شهد عليه شاهدان بالردة قتل ، فإن أقر بأن لا إله [ ص: 147 ] إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، ويبرأ من كل دين خالف الإسلام لم يكشف عن غيره .

32184 - والمشهور من مذهب أبي حنيفة ، وأصحابه أن المرتد لا يقتل حتى يستتاب .

32185 - وهو قول ابن علية .

32186 - قالوا : ومن قتله قبل أن يستتاب ، فقد أساء ، ولا ضمان عليه .

32187 - وروى محمد بن الحسن في السير عن أبي يوسف ، عن أبي حنيفة أن المرتد يعرض عليه الإسلام ، فإن أسلم ، وإلا قتل مكانه إلا أن يطلب أن يؤجل فإن طلب ذلك أجل ثلاثة أيام .

32188 - والزنديق عندهم مثل المرتد سواء ، إلا أن أبا يوسف لما رأى ما يصنع الزنادقة ، وأنهم يرجعون بعد الاستتابة ، قال : أرى إن أتيت بزنديق أن أضرب عنقه ، ولا أستتيبه ، فإن تاب قبل أن أقتله لم أقتله وخليته .

32189 - قال أبو عمر : روي عن علي - رضي الله عنه - أنه قال : المرتد يستتاب ، فإن تاب قبل منه ، ثم إن ارتد يستتاب ، فإن تاب قبل منه ، ثم إن ارتد يستتاب ، فإن تاب قبل منه ، فإن ارتد بعد الثلاث قتل ، ولم يستتب .

[ ص: 148 ] 32190 - وقالت به طائفة من العلماء ، ونزع بعضهم بقول الله عز وجل : إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا . . . الآية [ النساء : 137 ] .

32191 - قال أبو عمر : رأى مالك وحده من بين سائر الفقهاء استتابة أهل القدر ، وسائر أهل الأهواء .

32192 - وسنذكر ذلك في موضعه من كتاب الجامع إن شاء الله عز وجل ، وقد مضى في كتاب الفرائض ميراث المرتد ، واختلاف العلماء فيه .

32193 - وأما حكم فراقه لنسائه وسراريه وإمائه ، وسائر ماله ، وحكم أولاده الصغار ، وهل يجب عليه قضاء صلاة وحج وزكاة إذا تاب فليس هذا الباب بموضع ذكر ذلك .

التالي السابق


الخدمات العلمية