الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1448 [ ص: 155 ] 20 - باب القضاء في المنبوذ

1415 - مالك ، عن ابن شهاب ، عن سنين أبي جميلة - رجل من بني سليم - أنه وجد منبوذا في زمان عمر بن الخطاب . قال : فجئت به إلى عمر بن الخطاب . فقال : ما حملك على أخذ هذه النسمة ؟ فقال : وجدتها ضائعة فأخذتها ، فقال له عريفه : يا أمير المؤمنين ، إنه رجل صالح ، فقال له عمر : أكذلك ؟ قال : نعم . فقال عمر بن الخطاب : اذهب فهو حر ، ولك ولاؤه ، وعلينا نفقته .

32207 م - قال يحيى : سمعت مالكا يقول : الأمر عندنا في المنبوذ ، [ ص: 156 ] أنه حر ، وأن ولاءه للمسلمين ، هم يرثونه ويعقلون عنه .


32208 - قال أبو عمر : إنما أنكر عمر على سنين أبي جميلة أخذ المنبوذ ; لأنه ظن ، والله أعلم ، أنه يريد أن يفرض له .

32209 - وكان عمر يفرض للمنبوذ ، فظن أنه أخذه ليلي أمره ويأخذ ما يفرض له ، فيصلح فيه ما شاء ، فلما قال له عريفه : إنه رجل صالح ترك ظنه ، وأخبره بالحكم عنده فيه بأنه حر ولا ولاء لأحد عليه ; لأن الأحرار لا ولاء عليهم .

32210 - وقوله : وعلينا نفقته ، يعني أن رضاعه ونفقته في بيت المال ، وإنما جعله حرا ، والله أعلم ، لأن لا يقول أحد في عبد له يولد عنده ، فيطرحه ثم يأخذه ويقول : وجدته منبوذا ليفرض له ، ما اختلف الفقهاء .

32211 - واختلف الفقهاء في المنبوذ تشهد البينة أنه عبد :

32212 - فقالت طائفة من أهل المدينة : لا يقبل قولها في ذلك ، وإلى هذا ذهب أشهب لقول عمر : هو حر ، ومن قضى بحديثه لم يقبل البينة في أنه عبد .

32213 - وقال ابن القاسم : تقبل البينة في ذلك ، وهو قول الشافعي ، [ ص: 157 ] والكوفيين ، واختلفوا في إقراره إذا بلغ ، فأقر بأنه عبد .

32214 - وقال مالك : لا يقبل إقراره ; أنه عبد ; لأنه ليس له أن يرق نفسه .

32215 - ولم يختلف في ذلك أصحاب مالك .

32216 - وقال أبو حنيفة ، والشافعي ، وأصحابهم : يقبل إقراره بأنه عبد إذا كان بالغا .

32217 - قالوا : وإقراره بالرق أقوى من شهادة الشهود .

32218 - قالوا : وما يقبل فيه البينة يقبل فيه إقراره .

32219 - واختلفوا في اللقيط في قرية فيها يهود ، ونصارى ، ومسلمون :

32220 - وقال ابن القاسم : يجعل على دين أكثرهم عددا ، وإن وجد عليه زي اليهود ، فهو يهودي ، وإن وجد عليه زي النصارى ، فهو نصراني ، وإلا فهو مسلم ، إلا أن يكون أكثر أهل القرية على غير الإسلام .

32221 - وقال أشهب : هو مسلم أبدا ; لأني أجعله مسلما على كل حال ، كما أجعله حرا على كل حال .

32222 - واختلفوا في قبول دعوى من ادعاه ابنا له :

32223 - فقال أشهب : تقبل دعواه إلا أن يبين كذبه .

32224 - وقال ابن القاسم : لا تقبل دعواه إلا أن يبين صدقه .

32225 - وأما اختلاف أهل العلم في ولاء اللقيط :

32226 - فذهب مالك ، والشافعي ، وجماعة من أهل الحجاز أن اللقيط حر ، [ ص: 158 ] لا ولاء لأحد عليه .

32227 - وتأولوا في قول عمر : لك ولاؤه أي لك أن تليه ، وتقبض عطاءه ، وتكون أولى الناس بأمره حتى يبلغ رشده ، ويحسن النظر لنفسه ، فإن مات كان ميراثه لجماعة المسلمين ، وعقله عليهم .

32228 - واحتج الشافعي بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إنما الولاء لمن أعتق ، قال : جمع بينهما الولاء عن غير المعتق .

32229 - واتفق مالك ، والشافعي ، وأصحابهما على أن اللقيط لا يوالي أحدا ولا يرثه أحد بالولاء .

32230 - وهو قول الحسن البصري .

32231 - ذكر أبو بكر بن أبي شيبة ، قال : حدثني عبد الأعلى ، عن هشام ، عن الحسن ، قال : جريرته في بيت المال ، وعقله لهم ، وميراثه عليهم .

32232 - وقال أبو حنيفة ، وأصحابه ، وأكثر الكوفيين : اللقيط يوالي من شاء ، فمن والاه ، فهو يرثه ، ويعقل عنه .

32233 - وعند أبي حنيفة له أن ينتقل بولائه حيث شاء ما لم يعقل عنه الذي والاه ، فإن عقل عنه جناية لم يكن له أن ينتقل عنه بولائه أبدا .

32234 - قال أبو عمر : ذكر أبو بكر بن أبي شيبة ، قال : حدثني حاتم بن [ ص: 159 ] إسماعيل ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، قال : قال علي - رضي الله عنه - : المنبوذ حر ، فإن أحب أن يوالي الذي التقطه والاه ، وإن أحب أن يوالي غيره والاه .

32235 - وذكر أبو بكر ، قال : حدثني عمر بن هارون ، عن ابن جريج ، عن عطاء ، قال : الساقط يوالي من شاء .

32236 - وهو قول ابن شهاب ، وطائفة من أهل المدينة .

32237 - وقال : حدثني حماد بن خالد عن ابن أبي ذئب ، عن الزهري أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أعطى ميراث المنبوذ للذي كفله .

32238 - قال أبو بكر : وحدثني عبد السلام بن حرب ، عن مغيرة ، عن إبراهيم قال : ميراث اللقيط بمنزلة اللقطة .

32239 - قال : وأخبرني عبد الأعلى ، عن معمر ، عن الزهري ، قال إذا والى رجل رجلا ، فله ميراثه ، وعليه عقله .

32240 - قال أبو عمر : قد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث واثلة بن الأسقع أنه قال : ترث المرأة عتيقها ، ولقيطها وابنها الذي لاعنت عليه .

[ ص: 160 ] 32241 - وهو حديث ليس بالقوي ; انفرد به عمر بن روبة ، وهو شامي ضعيف .

32242 - وقد روى سفيان بن عيينة حديث مالك هذا المذكور في هذا الباب ، عن الزهري ، عن سنين أبي جميلة بألفاظ أتم من ألفاظ حديث مالك .

32242 م - حدثني عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثني قاسم بن أصبغ ، قال : حدثني محمد بن وضاح ، قال : حدثني محمد بن عبد السلام ، قال : حدثني محمد بن عمر ، قال : حدثني سفيان ، عن الزهري ، قال : سمعت سنينا أبا جميلة يحدث سعيد بن المسيب ، قال : وجدت منبوذا على عهد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فذكره عريفي لعمر ، فأرسل إلي ، فجئت ، والعريف عنده ، فلما رآني مقبلا ، قال : عسى الغوير أبؤسا . كأنه اتهمه ، فقال له عريفي : يا أمير المؤمنين ! إنه غير متهم به ، فقال عمر : علام أخذت هذه التسمية ؟ قلت : وجدت نفسا بمضيعة ، فأحببت أن يأخذني الله عليها ، فقال عمر : هو حر ، ولك ولاؤه ، وعلينا رضاعه .

[ ص: 161 ] 32243 - قال أبو عمر : ذكر أبو عبيد القاسم بن سلام هذا الخبر في كتاب غريب الحديث ; لقول عمر - رضي الله عنه - فيه : عسى الغوير أبؤسا ، وذكر أنه مثل تتمثل به العرب ، إذا خافت شرا ، أو توقعته ، وظنته ; هذا معنى كلامه .

32244 - وذكر في أصل المثل عن الأصمعي ، وعن ابن الكلبي خبرين مختلفين : أحدهما : عن ابن الكلبي : أن أول من تكلم بهذا المثل الزباء إذ بعثت [ ص: 162 ] قصيرا اللخمي ، وكان يطلبها بدم جذيمة الأبرش ، فكادها ، وخبأ لها الرجال في صناديق ، أو غرائر ، فلما أحست بذلك ، قالت : عسى الغوير أبؤسا .

32245 - قال : والغوير : ماء لكلب ؛ موضع معروف في جهة السماوة .

32246 - وذكر عن الأصمعي أنه غار أصيب فيه قوم قد انهار عليهم وقتلوا فيه .

32247 - والغوير تصغير غار ، والأبؤس جمع البأس ، فصار هذا الكلام مثلا لكل شيء يخاف بأن يأتي منه شر .

32248 - قال أبو عبيد : وقول ابن الكلبي عندي أشبه بالصواب .

32249 - قال أبو عمر : تلخيص ما نزع به عمر - رضي الله عنه - في قوله : عسى الغوير ، أنه لما رأى أبا جميلة مقبلا بالمولود المنبوذ قال ذلك المثل السائر ، يريد ألا يأتي ملتقط المنبوذ بخير ; خوفا منه معنى ما تقدم ذكري له حتى أخبره عريفه أنه رجل صالح ، لا يأتي إلا بالحق ، فقضى فيه بما قضى .

32250 - وقد أوردنا في ذلك ما جاء فيه عن العلماء ، والحمد لله كثيرا .

التالي السابق


الخدمات العلمية