الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1451 1418 - مالك عن يحيى بن سعيد ، عن سليمان بن يسار ; أن عمر بن الخطاب كان يليط أولاد الجاهلية بمن ادعاهم في الإسلام ، فأتى رجلان ، كلاهما يدعي ولد امرأة ، فدعا عمر بن الخطاب قائفا ، فنظر إليهما ، فقال القائف : لقد اشتركا فيه ، فضربه عمر بن الخطاب بالدرة ، ثم دعا المرأة فقال : أخبريني خبرك فقالت : كان هذا - لأحد الرجلين - يأتيني ، وهي في إبل لأهلها . فلا يفارقها حتى يظن وتظن أنه قد استمر بها حبل . ثم انصرف عنها ، فأهريقت عليه دماء ، ثم خلف عليها هذا ، تعني الآخر ، فلا أدري من أيهما هو ؟ قال فكبر القائف ، فقال عمر للغلام : وال أيهما شئت .


32332 - قال أبو عمر : روى هذا الحديث ابن عيينة ، عن يحيى بن سعيد ، عن سليمان بن يسار بمعنى حديث مالك سواء ، فقال سفيان : جعله عمر بينهما يرثانه ، ويرثهما حين اشتركا فيه ، وقال غيره : هو للذي أتاها أحرى ، قال سفيان : وقوله : وال أيهما شئت أي انتسب إلى أيهما شئت .

32333 - قال أبو عمر : أما قوله : إن عمر بن الخطاب كان يليط أولاد الجاهلية بمن ادعاهم في الإسلام ، فقد مضى القول ، أن هذا منه كان خاصا في ولادة [ ص: 182 ] الجاهلية حيث لم يكن فراش .

32334 - وأما في ولادة الإسلام ، فلا يجوز عند أحد من العلماء أن يلحق ولد من زنى .

32335 - حدثني أحمد بن عبد الله ، قال : حدثني الميمون بن حمزة ، قال : حدثني الطحاوي ، قال : حدثني المزني ، قال : حدثني الشافعي ، قال : أخبرنا سفيان بن عيينة عن عبد الله بن أبي يزيد ، عن أبيه ، قال : أرسل عمر بن الخطاب إلى شيخ من بني زهرة - من أهل دارنا فذهبت مع الشيخ إلى عمر ، وهو في الحجر فسأله عن ولاد من ولاد الجاهلية ؟ قال : وكانت المرأة في الجاهلية إذا طلقها زوجها ، أو مات عنها نكحت بغير عدة ، فقال الرجل : أما النطفة فمن فلان ، وأما الولد ، فهو على فراش فلان ، فقال عمر : صدقت ، ولكن قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالولد للفراش .

32336 - حدثني عبد الوارث ، قال : حدثني قاسم ، قال : حدثني الخشني ، قال : حدثني ابن أبي عمر ، قال : حدثني سفيان ، عن عبد الله بن أبي يزيد ، عن أبيه ، قال : دخل عمر بن الخطاب الحجر ، فأرسل إلى رجل من بني زهرة يسأله عن ولاد من ولاد الجاهلية فخرج إلي ، فذهبت معه ، فأتاه ، وهو في الحجر ، فسأله ، وكان أهل الجاهلية إذا مات الرجل ، أو طلق لم تعتد امرأته ، فقال : أما النطفة فمن فلان ، وأما الفراش فلفلان ، فقال له عمر : صدقت ، ولكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 183 ] قضى أن الولد للفراش .

32337 - قال أبو عمر : لم يلتفت عمر إلى قول القائف مع الفراش ، وعلى هذا جماعة الناس .

وأما القول بالقافة فأباه الكوفيون ، وأكثر أهل العراق ورووا عن عمر من حديث الشعبي ، وإبراهيم أن عمر قال لرجلين تداعيا ولد امرأة : هو ابنكما ، وهو للباقي منكما .

32338 - وذكره عبد الرزاق ، عن الثوري ، عن قابوس بن أبي ظبيان ، عن أبيه ، عن علي - رضي الله عنه - أنه أتاه رجلان ، وقعا على امرأة في طهر واحد ، فقال : الولد بينكما ، وهو للباقي منكما .

32339 - وعن أبي حنيفة ، عن حماد ، عن إبراهيم ، قال : هو ابنهما يرثانه ، ويرثهما .

32340 - وعن سفيان الثوري في رجلين تنازعا ولدا ، يقول كل واحد منهما إنه ولد على فراشه ، إلا أنه في يد أحدهما ، قال : هو للذي هو في يده إذا وضعته في ستة أشهر ، فإن كان دون ستة أشهر ، فهو للأول ، إلا أن يكون دون ستة أشهر بيوم ، [ ص: 184 ] أو يومين ، قال : هذا في الرجل يبيع الجارية من الرجل ، ثم يدعي ولدها ويدعي المشتري .

32341 - وقال سفيان الثوري في الولد يدعيه الرجلان أنه يرث كل واحد منهما نصيب ذكر تام ، وهما جميعا يرثانه ، الثلث ، فإذا مات أحدهما فهو للباقي منهما ، ومن نفاه أحدهما لم يضرب الحد حتى ينفيه منهما جميعا فإذا صار للباقي منهما فإنه يرث إخوته من الميت ، ولا يرثونه ; لأنه يحجبهم أبوه الحي ، ويرثهم هو ; لأنه أخوهم ويكون ميراثه للباقي وعقله عليه ، فإذا مات الآخر من الأبوين صار عقله وميراثه للإخوة من الأبوين جميعا .

32342 - وقال أبو حنيفة ، وأبو يوسف ، ومحمد : لا يقضى بقول القافة في شيء ، لا في نسب ، ولا في غيره .

32343 - قالوا : وإن ادعى رجلان مسلمان ولدا جعل بينهما وجعلت الأمة أم ولد لهما .

32344 - فإن كانوا ثلاثة ، وادعوا ولدا ، لم يكن بينهم في قول أبي يوسف .

32345 - وقال محمد : يكون ابن الثلاثة إذا ادعوه معا ، كما يكون بين الاثنين .

32346 - ولو كانت الأمة بين مسلم وذمي ، فجاءت بولد ، فادعياه جميعا ، فإنه يجعل ابن المسلم منهما عندهم ، ويضمن قيمة الأمة لشريكه ، ونصف العقد .

32347 - وقال زفر : يكون ابنهما جميعا ، ويكون مسلما ، وقد روي ذلك [ ص: 185 ] عن أبي حنيفة ، واختاره الطحاوي .

32348 - وأما قول أهل الحجاز في القضاء بالقافة :

32349 - فروي عن عمر ، وابن عباس وأنس بن مالك ، ولا مخالف لهم من الصحابة .

32350 - وهو قول عطاء بن أبي رباح .

32351 - وبه قال مالك ، وأحمد والليث ، والأوزاعي ، والشافعي ، وأبو ثور .

32352 - وهو قول عمر ، وبه قضى في محضر من الصحابة .

32353 - وقد زعم بعض من لا يرى القول بالقافة أن عمر إنما ضرب القائف بالدرة ; لأنه لم ير قوله شيئا يعمل به ، وهذا تعسف يشبه التجاهل ; لأن قضاء عمر [ ص: 186 ] بالقافة أشهر وأعرف من أن يحتاج إليه إلى شاهد ، بل إنما ضربه بقوله : اشتركا فيه ، وكان يظن أن ماءين لا يجتمعان في ولد واحد ، استدلالا بقوله تعالى : إنا خلقناكم من ذكر وأنثى [ الحجرات : 13 ] ولم يقل من ذكرين وأنثى .

ألا ترى أنه قضى بقول القائف ، وقال : وال أيهما شئت .

32354 - قال أحمد : إذا ادعى اللقيط مسلم وكافر ، أرى القافة ، فبأيهم ألحقوه لحق به .

32355 - ولم يختلف قول مالك ، وأصحابه إذا قالت القافة قد اشتركا فيه أن يوقف الصبي حتى يبلغ فيه ، ويقال له : وال أيهما شئت وإنه إن مات قبل البلوغ ، والموالاة كان ميراثه بين الأبوين .

32356 - وإن مات أحد الأبوين وقف ميراث الولد منه ، فإن والاه أخذ ميراثه ، وإن والى الحي لم يكن له من ميراث الميت شيء .

وإن مات الصبي بعد موت أحدهما قبل البلوغ فهاهنا اختلفوا ، وقد ذكرنا اختلافهم في كتاب اختلاف أقوال مالك ، وأصحابه .

32357 - واختلفوا هل يقبل قول القائف الواحد أم لا ؟

32358 - فعند مالك فيه روايتان : إحداهما : لا يقبل إلا قائفان .

والأخرى : يقبل قول القائف الواحد .

32359 - وهو قول الشافعي ; لأنه عنده كالحاكم ، لا كالشهود .

[ ص: 187 ] 32360 - وهو الأشهر عن مالك ، وعليه أكثر أصحابه .

32361 - وهو المروي عن عمر ، ومن لم يقبل من أصحاب مالك فيه إلا قائفين جعلهما كالشاهدين ، وهو عندي أحوط ، والله أعلم .

32362 - وقول الشافعي في أن الولد إذا كان صغيرا انتظر به البلوغ كقول مالك سواء ، فلا يكون ابنا لهما ، ولكن يوالي من شاء منهما على ما روى أهل المدينة عن عمر - رضي الله عنه - .

32363 - وفي دعاء عمر له القافة حين ادعاه اثنان - دليل على أنه لا يكون ابنا لاثنين أبدا ، وإنما دعا له القائف ليلحقه بأحدهما ، فلما قال : اشتركا فيه ، قال له : وال أيهما شئت .

32364 - وقد روي عن بعض المفسرين أنه قال في قول الله عز وجل ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه [ الأحزاب : 4 ] قال : لم أجد الله تعالى ، ولا رسوله - صلى الله عليه وسلم - نسبا أحدا إلا إلى أب واحد .

32365 - وقال أبو ثور : يكون ابنهما إذا قال القائف قد اشترك فيه ، يرثهما ، ويرثانه .

32366 - وروي عن عمر أنه جعله ابنهما .

32367 - واختلف الشافعي ، ومالك في القضاء بالقافة في أولاد الحرائر .

32368 - فقال مالك ، وأكثر أصحابه ليس للقافة في أولاد الحرائر قول ، وإنما يقبل قولهم في الإماء .

[ ص: 188 ] 32369 - وقال الشافعي : الحرائر ، والإماء في ذلك سواء إذا أمكنت الدعوى به .

32370 - وقال أشهب : ما كانت القافة إلا في الحرائر ، وبه نقول .

32371 - وقال الشافعي : إذا ادعى الحر والعبد أو المسلم والذمي مولودا - قد وجد لقيطا ، فلا فرق بين واحد منهم ، كما لا يكون بينهم فرق فيما يملكون - فرآه القافة فإن ألحقوه بواحد منهما ، فهو ابنه أبدا ، وإن ألحقوه بأكثر لم يكن ابن واحد منهم حتى يبلغ ، فينتسب إلى أيهم شاء ، ويكون ابنه ، وتنقطع عنه دعوى الآخر ، وهو حر في كل حالاته ، بأيهم ألحقته القافة ؟ لأن أصل الناس الحرية حتى يعلم العبودية .

32372 - ومن الحجة في القضاء بالقافة ومع ما روي في ذلك عن الصحابة - رضي الله عنهم - حديث ابن شهاب عن عروة ، عن عائشة ، قالت : دخل علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسرورا ، تبرق أسارير وجهه ، فقال : ألم تسمعي ما قال مجزز المدلجي لزيد ، وأسامة - ورأى أقدامهما فقال - : إن هذه الأقدام بعضها من بعض .

32373 - رواه جماعة من ثقات أصحاب ابن شهاب عنه .

[ ص: 189 ] 32374 - وروى معمر ، عن أيوب ، عن ابن سيرين : أن عمر دعا القافة فرأوا شبه الولد في الرجلين ، ورأى عمر مثل ما رأت القافة قال : قد كنت أعلم أن الكلبة تلقح الأكلب فيكون كل جرو لأبيه ، وما كنت أرى أن ماءين يجتمعان في ولد واحد .

32375 - ومعمر ، عن أيوب ، عن أبي قلابة في هذه القصة أن عمر قال في هذا : أمر لا أقضي فيه شيئا ، ثم قال للغلام : اجعل نفسك حيث شئت .

32376 - ومعمر ، عن الزهري ، عن عروة بن الزبير : أن رجلين ادعيا ولدا ، فدعا عمر بالقافة ، واقتدى في ذلك بنظر القافة ، وألحقه بأحد الرجلين .

32377 - ومعمر ، عن الزهري في رجل وقع على أمة في عدتها من زوجها ، فقال : يدعى لولدها القافة فإن عمر بن الخطاب ، ومن بعده قد أخذوا بنظر القافة في مثل هذا .

[ ص: 190 ] 32378 - قال أبو عمر : قد روي في هذا الحديث حديث مسند حسن ، أخذ جماعة من أهل الحديث به ، ومن أهل الظاهر .

32379 - ورواه الثوري عن صالح بن يحيى ، عن الشعبي ، عن زيد بن أرقم ، قال : كان علي - رضي الله عنه - باليمن ، فأتي بامرأة وطئها ثلاثة في طهر واحد فسأل كل منهم أن يقر لصاحبه ، فأبى ، فأقرع بينهم ، وقضى بالولد للذي أصابته القرعة ، وجعل عليه ثلثي الدية ، فرفع ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فأعجبه وضحك حتى بدت نواجذه .

32380 - ورواه ابن عيينة ، عن الأجلح بن عبد الله الكندي ، عن الشعبي ، عن عبد الله بن الخليل ، عن زيد بن أرقم ، قال : أتي علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - باليمن في ثلاثة نفر ، وقعوا على جارية في طهر واحد ، فجاءت بولد ، فجاءوا يختصمون في ولدها فقال علي لأحدهم : تطيب نفسا ، وتدعه لهذين ؟ فقال : لا ، وقال للآخر مثل ذلك ، فقال : لا ، وقال للآخر مثل ذلك ، فقال : لا ، فقال : أنتم شركاء متشاكسون ، وإني أقرع بينكم ، فأيكم أصابته القرعة ألزمته الولد ، وغرمته ثلثي القيمة ، أو قال ثلثي قيمة الجارية ، فلما قدموا على رسول [ ص: 191 ] الله - صلى الله عليه وسلم - ضحك حتى بدت نواجذه ، وقال : ما أعلم فيها غير ما قال علي .

التالي السابق


الخدمات العلمية