الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1456 [ ص: 206 ] 24 - باب القضاء في عمارة الموات

1423 - مالك ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ; أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : من أحيا أرضا ميتة فهي له ، وليس لعرق ظالم حق .

[ ص: 207 ] قال مالك : والعرق الظالم كل ما احتقر أو أخذ أو غرس بغير حق .

1424 - مالك عن ابن شهاب ، عن سالم بن عبد الله ، عن أبيه ; أن عمر بن الخطاب قال : من أحيا أرضا ميتة فهي له .

قال مالك : وعلى ذلك الأمر عندنا .


32456 - قال أبو عمر : لم يختلف على مالك في إرسال هذا الحديث عن هشام عن أبيه وقد اختلف فيه على هشام ، فروته طائفة ، كما رواه مالك مرسلا ، وهو أصح ما فيه إن شاء الله عز وجل وروته طائفة عن هشام ، عن وهب بن [ ص: 208 ] كيسان ، عن جابر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ورواه آخرون ، عن هشام عن عبيد الله بن عبد الرحمن بن رافع ، عن جابر ، ومنهم من يقول فيه : عن عبيد الله بن عبد الرحمن بن رافع ، اضطربوا فيه على هشام كثيرا ، وقد ذكرنا الأسانيد بذلك في التمهيد ، وأتينا باختلاف ألفاظ الناقلين له ، ذلك ، والحمد لله كثيرا .

32457 - وذكر عبد الرزاق ، عن معمر ، عن هشام بن عروة ، قال : خاصم رجل إلى عمر بن عبد العزيز في أرض حازها ، فقال عمر : من أحيا من ميت الأرض شيئا ، فهو له ، فقال له عروة : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من أحيا شيئا من ميت الأرض فهو له ، وليس لعرق ظالم حق .

قال عروة : قال : والعرق الظالم أن ينطلق الرجل إلى أرض غيره ، فيغرسها .

32458 - أخبرنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثني محمد بن أبي بكر ، قال : حدثني أبو داود ، قال : حدثني هناد بن السري ، قال : حدثني عبدة ، عن محمد بن إسحاق ، عن يحيى بن عروة بن الزبير عن أبيه : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : من أحيا أرضا ميتة ، فهي له ، وليس لعرق ظالم حق .

قال عروة : ولقد حدثني الذي حدثني هذا الحديث أن رجلين اختصما إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، غرس أحدهما نخلا في أرض الآخر ، فقضى لصاحب الأرض بأرضه ، [ ص: 209 ] وأمر صاحب النخل بأن يخرج نخله منها .

قال فلقد رأيتها ، وإنها لتضرب أصولها بالفئوس ، وإنها لنخل عم حتى أخرجت منها .

32459 - وحدثني عبد الله بن محمد ، قال : حدثني محمد بن بكر ، قال : حدثني أبو داود ، قال : حدثني أحمد بن عبدة الآملي ، قال : حدثني عبد الله بن عثمان ، قال : حدثني ابن المبارك ، قال : أخبرنا نافع بن عمر الجمحي ، عن ابن أبي مليكة ، عن عروة ، قال : أشهد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى أن الأرض أرض الله ، والعباد عباد الله ، ومن أحيا مواتا ، فهو أحق به ، جاءنا بهذا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الذين جاءوا بالصلوات عنه .

32460 - قال أبو عمر : رواية يحيى بن عروة ، عن عروة ، ورواية ابن أبي مليكة ، عن عروة يقضيان على أن من روى هذا الحديث مرسلا كما رواه مالك أصح من رواية من أسنده ، والله أعلم ، ويشهد ذلك أيضا اختلاف الذين أسندوه في إسناده .

32461 - وقد رواه عمرو بن عوف المزني ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، إلا أنه من حديث كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف ، عن أبيه ، عن جده ، وكثير متروك [ ص: 210 ] الحديث .

والحديث صحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وقد تلقاه العلماء بالقبول .

32462 - ولم يختلفوا أن معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - : ليس لعرق ظالم حق أنه الغرس في أرض غيرك .

32463 - على هذا خرج اللفظ المقصود به إلى هذا المعنى ، وكل ما كان مثله ، فله حكمه ، وكذلك فسره عروة وهشام ، ومالك .

32464 - وقال ابن وهب ; أخبرني مالك ، قال : قال هشام : العرق الظالم أن يغرس الرجل في أرض غيره ; ليستحقها بذلك .

32465 - قال مالك : والعرق الظالم كل ما أخذ ، واحتكر ، واغترس في غير حق .

32466 - وأما قوله : من أحيا أرضا ميتة فالميتة البور الشامخ من الشعواء وما كان مثلها .

32467 - وإحياؤها أن يعمل حتى تعود أرضا بيضاء تصلح أن تكون مزروعة بعد حالها الأول ، فإن غرسها بعد ذلك ، أو زرعها ، فهو أبلغ في إحيائها .

32468 - وهو ما لا خلاف فيه ، فاختلف في التحجير عليها بالحيطان ، هل يكون ذلك إحياء لها أم لا ؟

[ ص: 211 ] 32469 - قال ابن القاسم : لا يعرف مالك التحجير إحياء ، ولا ما روي من حجر أرضا ، وتركها ثلاث سنين ، فإن أحياها ، وإلا فهي لمن أحياها . لا يعرفمالك ذلك ، وإنما الإحياء عنده في ميت الأرض : شق الأنهار ، وحفر الآبار والعيون ، وغرس الشجر ، والحرث .

32470 - وقال أشهب : لو نزل قوم أرضا من أرض البرية ، فجعلوا يزرعون ما حولها ، فذلك إحياء لها ، وهم أحق بها من غيرهم ما أقاموا عليها .

32471 - قال أبو عمر : هذا كله إنما هو في الموات الذي لا يعرف له مالك باكتساب ، أو ميراث ، وأما ما عرف له مالك باكتساب ، أو ميراث ، فليس من الموات الذي يعرف يكون لمن أحياه .

32472 - وقد قال : من أحيا أرضا ، ثم تركها حتى دثرت ، وطال زمانها ، وهلكت الأشجار ، وتهدمت الآبار ، وعادت كأول مرة ، ثم أحياها غيره ، فهي لمحييها الثاني ، بخلاف ما يملكه بخطه أو شراء .

32473 - وقال الشافعي : بلاد المسلمين شيئان : عامر وموات ، فالعامر لأهله ، وكذلك كل ما يصلح به العامر من قناء وطريق ، وسبل ماء وغيره ، فهو كالعامر في أن لا يملك على أهله إلا بإذنهم .

32474 - قال : والموات شيئان :

32475 - موات قد كان عامرا لأهله ، معروفا في الإسلام ، ثم ذهبت عنه عمارته ، فصارت مواتا ، فذلك كالعامر هو لأهله أبدا ، لا يملك عليهم إلا بإذنهم .

[ ص: 212 ] 32476 - والموات الثاني : ما لم يملكه أحد في الإسلام ، ولا عمر في الجاهلية عمارة ورثته في الإسلام ، فذلك الموات الذي قال فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من أحيا أرضا ميتة ، فهي له ، ومن أحيا مواتا ، فهو له .

32477 - قال الشافعي : والإحياء ما عرفه الناس إحياء لمثل المحيا إن كان مسكنا فأن يبني بناء مثله أو ما يقرب منه .

32478 - قال : وأقل عمارة الأرض الزرع فيها ، وحفر البئر ، ونحو ذلك .

32479 - قال : ومن اقتطع أرضا ، وجحدها ولم يعمرها ، رأيت للسلطان أن يقول له : إن أحييتها ، وإلا خلينا بينها وبين من يحييها ، فإن تأجله رأيت أن يفعل .

32480 - قال : فإذا أحيا الأرض بما تحيى به ملكها ملكا صحيحا لم تخرج عنه أبدا ، ولا عن ورثته بعده إلا بما تخرج به الأملاك عن أربابها .

32481 - وأما أبو حنيفة فمذهبه أن كل الأرض يملكها مسلم ، أو ذمي ، لا يزول ملكها عنها بخرابها ، وكل ما قرب من العمران فليس بموات ، وما بعد منه فلم يملك قبل ذلك فهو موات .

32482 - وهذا كله قول أبي حنيفة ، وأبي يوسف ، ومحمد .

32483 - وذكر أصحاب الإملاء عن أبي يوسف أن الموات هو الذي إذا [ ص: 213 ] وقف رجل على أدناه من العامر ، فنادى بأعلى صوته ، لم يسمعه من في أقرب العامر إليه .

32484 - واختلفوا هل يحتاج في إحياء الموات إلى إذن الإمام ، أم لا يصح الإحياء للموات إلا بإقطاع من الإمام ؟

32485 - فقال مالك : أما ما كان قريبا من العمران ، فلا يحاز ، ولا يعمر إلا بإذن الإمام ، وأما ما كان في الأرض ، فلك أن تحييه بغير إذن الإمام .

32486 - وقال أبو حنيفة : ليس لأحد أن يحيي مواتا من الأرض إلا بإذن الإمام ، ولا يملك منه شيئا إلا بتمليك الإمام له إياه .

32487 - قال أبو عمر : التمليك من الإمام هو إقطاعه لمن أقطعه إياه .

32488 - وقال أبو يوسف ، ومحمد ، والشافعي : من أحيا مواتا من الأرض ، فقد ملكه ، أذن الإمام في ذلك أم لم يأذن .

32489 - قال الشافعي : وعطية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عامة لكل من أحيا مواتا أثبت من عطية من بعده من سلطان ، أو غيره .

32490 - وهو قول أحمد ، وإسحاق ، وأبي ثور ، وداود ، وقولهم في هذا الباب كله نحو قول الشافعي .

32491 - وقال أبو حنيفة ، وأصحابه : من ملكه الإمام مواتا ، فأحياه ، [ ص: 214 ] وأخرجه من الموات إلى العمران فيما بينه ، وبين ثلاث سنين ، ثم ملكه فيه ، وإن تركه ولم يعمره حتى مضت ثلاث سنين بطل إقطاع الإمام إياه ذلك ، وعاد إلى ما كان عليه قبل إقطاع الإمام ذلك .

32492 - قال أبو عمر : ليس عند مالك ، والشافعي ، وأصحابهما ، ومن ذكرنا معهما في ذلك حد ، وإنما هو اجتهاد الإمام يؤجله على حسب ما يراه ، فإن عمره ، وإلا يقطعه غيره ممن يعمره .

32493 - قال أبو عمر : ذهبت طائفة من التابعين ، ومن بعدهم إلى أن من حجر على موات ، فقد ملكه .

32494 - واحتجوا بما رواه شعبة وغيره عن قتادة ، عن الحسن ، عن سمرة : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : من أحاط حائطا على أرض ، فهو له .

32495 - وروى عبد الرزاق ، عن معمر ، عن ابن عيينة ، عن ابن شهاب ، عن سالم ، عن ابن عمر ، قال : كان الناس يتحجرون على عهد عمر في الأرض التي ليست لأحد ، فقال عمر : من أحيا أرضا فهي له .

32496 - وهذا - والله أعلم - على أن التحجير غير الإحياء على ما قاله أكثر العلماء .

[ ص: 215 ] 32497 - وروى ابن عيينة عن ابن أبي نجيح ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقطع ناسا من جهينة ، أو مزينة أرضا ، فعطلوها ، فجاء قوم فعمروها ، فخاصمهم أصحاب الأرض إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فقال عمر : لو كانت قطيعة من أبي بكر ، أو مني ، لم أردها إليكم ، ولكنها قطيعة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، لا نستطيع إلا أن أردها ، فردها إليهم ، ثم قال عمر : من أقطع أرضا ، فعطلها صاحبها ثلاث سنين ، ثم أحياها غيره ، فهو أحق بها .

التالي السابق


الخدمات العلمية