الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
187 [ ص: 179 ] ( 8 ) باب ما جاء في أم القرآن

159 - مالك عن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب أن أبا سعيد ، مولى عامر بن كريز ، أخبره أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نادى أبي بن كعب وهو يصلي ، فلما فرغ من صلاته لحقه ، فوضع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يده على يده وهو يريد أن يخرج من باب المسجد ، فقال : " إني لأرجو أن لا تخرج من المسجد حتى تعلم سورة ما أنزل الله في التوراة ولا في الإنجيل ولا في القرآن مثلها " ، قال أبي : فجعلت أبطئ في المشي ; رجاء ذلك ، ثم قلت ; يا رسول الله ، السورة التي وعدتني ، قال : " كيف تقرأ إذا افتتحت الصلاة ؟ " ، قال : فقرأت : " الحمد لله رب العالمين " حتى أتيت على آخرها ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " هي هذه السورة ، وهي السبع المثاني ، والقرآن العظيم [ ص: 180 ] الذي أعطيت " .


4635 - قال أبو عمر : هذا الحديث مرسل في الموطأ ، هكذا عند جميع رواته ، فيما علمت .

4636 - وقد ذكرنا في التمهيد من وصله عن العلاء ، فجعله عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لأبي بن كعب .

4637 - ومنهم من يرويه عن العلاء ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، عن أبي بن كعب ، قال : قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ألا أعلمك سورة ما أنزل في التوراة ، ولا في الزبور ، ولا في الإنجيل ، ولا في الفرقان - مثلها ؟ " ، وذكر الحديث .

[ ص: 181 ] 4638 - ومنهم من قال فيه : فقرأت عليه : " الحمد لله رب العالمين " ، كما قال مالك .

4639 - ومنهم من قال فيه : فقرأت عليه فاتحة الكتاب .

4640 - ومنهم من قال فيه : فقرأت عليه أم القرآن .

4641 - ومن أحسنهم له سياقة يزيد بن زريع قال : حدثنا روح بن القاسم عن العلاء بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، قال : خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أبي بن كعب - وهو يصلي - فقال : " السلام عليك أي أبي " ، فالتفت إليه ، ولم يجبه ، ثم إن أبيا خفف الصلاة ، ثم انصرف إلى النبي - عليه السلام - ، فقال : السلام عليك يا رسول الله ، فقال : " وعليك ، ما منعك أن تجيبني إذ دعوتك ؟ " ، فقال : يا رسول الله ، كنت أصلي . قال : " أفلست تجد فيما أوحي إلي أن " استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم " [ سورة الأنفال : 24 ] ؟ قال : بلى يا رسول الله ، ولا أعود أبدا - إن شاء الله - . قال : " أي أبي ، أتحب أن أعلمك سورة لم ينزل في التوراة ، ولا في الإنجيل ، ولا في الزبور ، ولا في الفرقان - مثلها " . قلت : نعم يا رسول الله . قال : " فإني أرجو ألا تخرج من هذا الباب حتى تعلمها " . قال : ثم أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيدي ، فحدثني وأنا أتباطأ به مخافة أن أبلغ الباب قبل أن يقضي الحديث ، فلما دنونا من الباب قلت : يا رسول الله ، السورة التي وعدتني . قال : " كيف تقرأ في الصلاة " . قال : فقرأت عليه أم القرآن ، فقال : " والذي نفسي بيده ما أنزل في التوراة ، ولا في الإنجيل ، ولا في الزبور ، ولا في الفرقان - مثلها ، إنها السبع المثاني ، والقرآن العظيم الذي أعطيته " .

[ ص: 182 ] 4642 - قال أبو عمر : في حديث مالك من الفقه والمعاني مناداة من يصلي ، وذلك اليوم عندنا محمول على أن يجيب إشارة ، أو إذا فرغ من صلاته ; لتحريم الله الكلام في الصلاة .

4643 - قال زيد بن أرقم : كنا نتكلم في الصلاة حتى نزلت : " وقوموا لله قانتين " [ سورة البقرة : 238 ] ; فأمرنا بالسكوت ، ونهينا عن الكلام .

4644 - وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن الله أحدث من أمره ألا تكلموا في الصلاة " .

[ ص: 183 ] 4645 - وقد مضى هذا المعنى مجودا ، والحمد لله . فمن دعي اليوم لم يجب حتى يفرغ من صلاته ، إلا في أمر لم يجد منه بدا ، أو يقضي به فرضا ، ثم يقضي صلاته بعد .

4646 - ولو أجاب أبي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لكان ذلك خاصا له دون غيره ; لقوله : " استجيبوا لله وللرسول " .

4647 - وقد جاء من وجه صحيح في حديث أبي بن كعب هذا - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له : " ما منعك أن تجيبني ؟ أليس قد قال الله : " ياأيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم " [ سورة الأنفال : 24 ] .

4648 - وهذا يحتمل أن يكون الدعاء إلى الفرائض والإيمان ، ويحتمل في كل شيء ، وليس كلام الناس في الصلاة كذلك ; لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما ذكرنا ، وقوله : [ ص: 184 ] " إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس ; إنما هو ذكر الله ، وقراءة القرآن " .

4649 - وهذا الحديث يدل على العموم والإجماع على تحريم الكلام ، ويدل على تخصيص النبي - عليه السلام - بذلك . والله أعلم .

4650 - وفيه وضع الرجل يده على يد صديقه إذا حدثه بحديث يريد أن يحفظه ، وهذا يستحسن من الكبير للصغير ; لما فيه من التأنيس والتأكيد في الود .

4651 - وفي قول أبي : يا رسول الله ، السورة التي وعدتني - دليل على حرصه على العلم ، ورغبته فيه . وكذلك كان إبطاؤه في مشيه محبة في العلم ، وحرصا عليه .

4652 - وأما قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - له : " كيف تقرأ إذا افتتحت الصلاة " . قال : فقرأت عليه : " الحمد لله رب العالمين " - فقد استدل به بعض أصحابنا على سقوط " بسم الله الرحمن الرحيم " من أول فاتحة الكتاب ، وعلى سقوط التوجيه .

4653 - وهذا لا حجة فيه ; لأن التوجيه قد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وعن عمر بن الخطاب ، وغيره . وقد جاءت به رواية عن مالك .

4654 - ولكنه يدل أنه لا شيء على من أسقطه ولم يأت به ، ولأنه لم يقل [ ص: 185 ] له : ما تقول إذا افتتحت الصلاة ؟ وإنما قال له : كيف تقرأ إذا افتتحت الصلاة ؟ فأجابه : إن القراءة في الصلاة لا تفتتح إلا بفاتحة الكتاب ، فلا يجوز أن يقرأ بغيرها إلا بعد الافتتاح بها ; بدليل هذا الحديث ، وما كان مثله . ولا حجة فيه في سقوط " بسم الله الرحمن الرحيم " ، وإنما فيه دليل واضح على أنه يفتتح القراءة بها في الصلاة دون غيرها من سور القرآن ; لأن " الحمد لله رب العالمين " اسم لها ، كما يقال قرأت " يس والقرآن الحكيم " ، وقرأت " ن والقلم " ، وقرأت " ق والقرآن المجيد " ; وهذه كلها أسماء للسور ، وليس في ذلك ما يسقط " بسم الله الرحمن الرحيم " إذا قام الدليل بأنها آية من فاتحة الكتاب على ما نذكره في الباب بعد هذا - إن شاء الله - .

4655 - والقول في هذه المسألة بين المتنازعين قد طال ، وكثر فيه الشغب ، والذي أقول به : إنه من ترك " بسم الله الرحمن الرحيم " في فاتحة الكتاب ، أو غيرها متأولا - فلا حرج ; لأنه لم يقم بإيجاب قراءتها دليل ، لا معارض له ولا إجماع ; لأنه لا إجماع في أنها آية إلا في سورة النمل . ومن قرأها في فاتحة الكتاب أو غيرها - فلا حرج ; فقد رويت في ذلك آثار كثيرة عن النبي - عليه السلام - مرفوعة ، وعمل بها جماعة من السلف ، منهم : ابن عمر ، وابن عباس ، وقد روى ابن نافع عن مالك مثل ذلك ، وسنبين هذا في الباب بعد هذا - إن شاء الله - .

4656 - وفي ذلك دليل على أن فاتحة الكتاب تقرأ في أول ركعة ، وحكم [ ص: 186 ] كل ركعة كحكم تلك الركعة في القياس والنظر . وفي هذا حجة لمن أوجب قراءتها .

4657 - وأما المعنى في قول من قال : أم القرآن - فهو بمعنى أصل القرآن ، وأم الشيء : أصله ، كما قيل : أم القرى لمكة ، وقيل : لأنها أول ما يقرأ في الصلاة .

4658 - وكرهت طائفة أن يقال لها : أم القرآن ، وقالوا : فاتحة الكتاب ، ولا وجه لما كرهوا من ذلك ; لحديث أبي هريرة هذا ، وما كان مثله ، وفيه أم القرآن .

4659 - وأما قوله - عليه السلام - لأبي : " حتى تعلم سورة ما أنزل الله في القرآن ، ولا في التوراة ، ولا في الإنجيل ، ولا في الزبور ، ولا في الفرقان - مثلها " - فمعناه : مثلها في جمعها لمعاني الخير ; لأن فيها الثناء على الله بما هو أهله ، وما يستحق من الحمد الذي هو له حقيقة لا لغيره ; لأن كل نعمة وخير فمنه ، لا من سواه ، فهو الخالق الرازق ، ولا مانع لما أعطى ، ولا معطي لما منع ، وهو المحمود على ذلك ، وإن حمد غيره فإليه يعود الحمد .

4660 - وفيها التعظيم له ، وأنه رب العالم أجمع ، ومالك الدنيا والآخرة ، وهو المعبود المستعان .

4661 - وفيها تعليم الدعاء إلى الهدى ، ومجانبة طريق من ضل وغوى ، والدعاء لباب العبادة ; فهي أجمع سورة للخير ، وليس في الكتاب مثلها على هذه الوجوه . والله أعلم .

4662 - وقد : قيل إن معنى ذلك لأنها لا تجزئ الصلاة إلا بها دون غيرها ، [ ص: 187 ] ولا يجزئ غيرها منها ، وليس هذا بتأويل مجمع عليه .

4663 - وأما قوله : " هي السبع المثاني والقرآن العظيم " - فمعناه عندي هي السبع المثاني التي أعطيت ; لقوله - تعالى - : " ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم " [ الحجر : 87 ] ، فخرج ( والقرآن العظيم ) على معنى التلاوة .

4664 - وأولى ما قيل به في تأويل السبع المثاني أنها فاتحة الكتاب ; لأن القول بذلك أرفع ما روي فيه ، وهو يخرج في التفسير المسند .

4665 - وقد روي عن ابن عباس في قوله - تعالى - : " ولقد آتيناك سبعا من المثاني " قال : فاتحة الكتاب ، قيل لها ذلك لأنها تثنى في كل ركعة .

4666 - وقال بذلك جماعة من أهل العلم بتأويل القرآن ، منهم قتادة .

4667 - ذكر عبد الرزاق عن معمر ، عن قتادة في قوله : " سبعا من المثاني " قال : هي فاتحة الكتاب ; تثنى في كل ركعة مكتوبة وتطوع .

4668 - وقد روي عن ابن عباس أيضا في السبع المثاني أنها السبع الطوال : البقرة ، وآل عمران ، والنساء ، والمائدة ، والأنعام ، والأعراف ، والأنفال ، وبراءة ، وهو قول مجاهد وسعيد بن جبير ; لأنها تثنى فيها حدود القرآن والفرائض .

[ ص: 188 ] 4669 - والقول الأول أثبت عن ابن عباس وهو الصحيح - إن شاء الله - في تأويل الآية ; لما ثبت عن النبي - عليه السلام - في ذلك .

التالي السابق


الخدمات العلمية