الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1464 1431 - مالك ، عن عمرو بن يحيى المازني ، عن أبيه ; أنه قال : كان ، في حائط جده ، ربيع لعبد الرحمن بن عوف ، فأراد عبد الرحمن بن عوف أن يحوله إلى ناحية من الحائط ، هي أقرب إلى أرضه . فمنعه صاحب الحائط ، فكلم عبد الرحمن عمر بن الخطاب في ذلك ، فقضى لعبد الرحمن بن عوف بتحويله .


32545 - قال أبو عمر أكثر أهل الأثر يقولون في هذا بما روي عن عمر ، رضي الله عنه ، ويقولون : ليس للجار أن يمنع جاره مما لا يضره .

32546 - وزعم الشافعي في كتاب الرد أن مالكا لم يرو عن أحد من الصحابة [ ص: 230 ] خلاف عمر في هذا الباب ، وأنكر على مالك أنه رواه وأدخله في كتابه ، ولم يأخذ به ، ولا بشيء مما في هذا الباب باب القضاء في المرفق في الموطأ ، بل رد ذلك كله برأيه .

32547 - قال أبو عمر : ليس كما زعم الشافعي ; لأن محمد بن مسلمة رد ذلك كله برأيه في ذلك خلاف رأي عمر ، ورأي الأنصاري أيضا كان خلافا لرأي عمر ، وكذا عبد الرحمن بن عوف في قصة الربيع وتحويل الربيع الساقية .

32548 - وإذا اختلف الصحابة وجب الرجوع إلى النظر ، والنظر يدل على أن دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم من بعضهم على بعض حرام إلا ما تطيب به النفس من المال خاصة ، فهذا هو الثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .

32549 - ويدل على الخلاف أيضا في ذلك قول أبي هريرة : ما لي أراكم عنها معرضين ، والله لأرمين بها ، ونحو هذا .

32550 - وروى أسد بن موسى قال : حدثني قيس بن الربيع ، عن منصور بن دينار ، عن أبي عكرمة المخزومي ، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : لا يحل لامرئ مسلم أن يمنع جاره خشبات يضعها على جداره ، ثم يقول أبو هريرة : [ ص: 231 ] والله لأضربن بها بين أعينكم ، وإن كرهتم .

32551 - وبهذا الحديث وما كان مثله احتج من رأى القضاء بالمرفق ، وأن لا يمنع الجار جاره وضع خشب في جداره ، ولا كل شيء يضره .

32552 - وقد ذكرنا في التمهيد في ذلك آثار مسندة ، وذكرنا حديث الأعمش ، عن أنس ، قال : استشهد منا غلام يوم أحد ، فجعلت أمه تمسح التراب عن وجهه ، وتقول : أبشر هنيئا لك الجنة ، فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم - : وما يدريك لعله كان يتكلم فيما لا يعنيه ، ويمنع ما لا يضره .

32553 - والأعمش لا يصح له سماع من أنس ، والله أعلم .

32554 - ولم يختلفوا في أنه لا يحتج من حديثه بما لم يذكره عن الثقات [ ص: 232 ] وبسنده ; لأن كان يدلس عن الضعفاء .

32555 - وأما أبو حنيفة وأصحابه ، فلا يرون أن يقضى بشيء مما ذكرنا في [ ص: 233 ] هذا الباب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في نهي الجار أن يمنعه جاره من غرز خشبة في جداره .

32556 - وعن عمر في قصة الخليج في أرض محمد بن مسلمة ، ولا ما كان مثل ذلك كله بقوله - صلى الله عليه وسلم - : إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام أي من بعضكم على بعض لقوله - صلى الله عليه وسلم - : لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه .

32557 - وهذا هو المشهور من مذهب مالك المعمول به .

32558 - فروى أصبغ ، عن ابن القاسم ، قال : لا يؤخذ بما قضى به عمر بن الخطاب على محمد بن مسلمة في الخليج ، ولا ينبغي أن يكون أحق بمال أخيه منه إلا برضاه .

32559 - قال : وأما ما حكم به لعبد الرحمن بن عوف من تحويل الربيع من موضعه إلى ناحية أخرى من الحائط ، فإنه يؤخذ به ، ويعمل بمثله ; لأن مجرى ذلك الربيع كان لعبد الرحمن ثابتا في الحائط ، وإنما أراد تحويله إلى ناحية أخرى من الحائط وإنما هي أقرب عليه وأنفع ، وأرفق لصاحب الحائط وكذلك حكم عليه عمر بتحويله .

32560 - وأما عبد الملك بن حبيب فإنه اضطرب في هذا الباب ، ولم يثبت فيه على مذهب مالك ، ولا مذهب العراقيين ، ولا مذهب الشافعي ، وتناقض في ذلك ، فقال في قوله - صلى الله عليه وسلم - : لا يمنعن أحدكم جاره أن يضع خشبة في جداره ، أرى أنه لازم للحاكم أن يحكم به على من أباه ، وأن يجبره عليه بالقضاء ; لأنه حق قضى به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولأنه من الضرر أن يدفع جاره أن يغرز خشبة على جداره ، فيمنعه [ ص: 234 ] بذلك المنفعة ، وصاحب الجدار لا ضرر عليه فيه ، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا ضرر ولا ضرار ، وقال عمر : لم تمنع أخاك ما لا يضرك ؟

32561 - وقد قال مالك : للجار إذا تهورت بئره أن يسقي نخيله وزرعه من بئره ، وهذا أبعد من غرز الخشبة في جدار الجار إذا لم يكن يضر بالجدار ، فإن خيف عليه أن يوهن الجدار ، ويضر به لم يجبر صاحب الجدار على ذلك وقيل لصاحب الخشب : احتل لخشبك .

32562 - قال : ومثله حديث ربيع عبد الرحمن بن عوف في حائط المازني .

32563 - قال : فهذا أيضا يجبر عليه بالقضاء من أجل أن مجرى ذلك الربيع كان ثابتا في الحائط لعبد الرحمن قد استحقه ، فأراد تحويله إلى ناحية أخرى هي أقرب عليه وأرفق لصاحب الحائط .

32564 - قال : وأما الحديث الثالث في قصة الضحاك بن خليفة مع محمد بن مسلمة ، فلم أجد أحدا من أصحاب مالك وغيره يرى أن يكون ذلك لازما في الحكم لأحد على أحد ، وإنما كان ذلك تشديدا على محمد بن مسلمة ، ولا ينبغي أحد أن يكون غيره أحق بماله منه إلا برضاه .

32565 - قال أبو عمر : مثل هذا يلزم في قصة ربيع عبد الرحمن بن عوف في حائط الأنصاري المازني ; لأن الذي استحق منه مجرى ربيع في [ ص: 235 ] ذلك الموضع بعينه ، وما عدا ذلك الموضع ، فملك الأنصاري لا يحل إلا عن طيب نفس منه ، كما لو اكترى رجل من رجل دارا ، أو حانوتا بعينه ، ثم أراد أن ينقله عنه إلى غيره لم يجز له عندهم إلا برضا المكتري ، ولا يجوز إلا أن يكون الباب في ذلك بابا واحدا ، ويكون القضاء بالمرفق خارجا عن معنى قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه خرج على الأعيان ، والرقاب ، واستهلاكها إذا أخذت بغير إذن صاحبها لا على المرافق ، والآثار التي لا تستحق بها رقبة ، ولا عين شيء ، وإنما تستحق بها منفعة ، وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية