الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1467 [ ص: 249 ] 28 - باب القضاء في الضواري والحريسة .

32641 - قال أبو عمر : الضواري ما ضر في الأذى ، والحريسة المحروسة من المواشي في المرعى .

[ ص: 250 ] 1434 - مالك ، عن ابن شهاب ، عن حرام بن سعد بن محيصة ; أن ناقة البراء بن عازب دخلت حائط رجل فأفسدت فيه ، فقضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أن على أهل الحوائط حفظها بالنهار ، وأن ما أفسدت المواشي بالليل ، ضامن على أهلها .


32642 - قال أبو عمر : ضامن هنا بمعنى مضمون .

[ ص: 251 ] 32643 - هكذا روى هذا الحديث جماعة رواة الموطأ فيما رووا مرسلا .

32644 - واختلف أصحاب ابن شهاب عن ابن شهاب فيه ، فرواه الأوزاعي ، وصالح بن كيسان ، ومحمد بن إسحاق ، كما رواه مالك .

32645 - وكذلك رواه ابن عيينة ، إلا أنه جعل مع حرام بن سعد بن محيصة ، سعيد بن المسيب جميعا في هذا الحديث .

32646 - ورواه معمر ، عن الزهري ، عن حرام بن محيصة ، عن أبيه ، ولم يقل فيه عن أبيه غير معمر .

32647 - قال محمد بن يحيى : لم يتابع عليه معمر .

32648 - وقال أبو داود : لم يتابع عليه عبد الرزاق ، عن معمر .

32649 - قال أبو عمر : وقال فيه ابن أبي ذئب ، عن ابن شهاب أنه بلغه أن ناقة للبراء بن عازب دخلت حائط قوم ، فأفسدت فيه ، وذكر مثل حديث مالك سواء إلا أنه لم يذكر حرام بن سعد بن محيصة ، ولا غيره .

32650 - ورواه ابن جريج ، عن ابن شهاب ، قال : حدثني أبو أمامة بن سهل بن حنيف : أن ناقة دخلت في حائط قوم ، فأفسدت فيه ، فذهب أهل الحائط إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : على أهل الأموال حفظ أموالهم نهارا ، فجعل الحديث لابن شهاب عن أبي أمامة بن سهل ، ولم يذكر أن الناقة كانت للبراء .

32651 - وجائز أن يكون الحديث عند ابن شهاب عن ابن محيصة ، وعن سعيد بن المسيب ، وعن أبي أمامة ، والله أعلم ، فحدث به من شاء منهم على ما [ ص: 252 ] حضره ، وكلهم ثقات أثبات .

32652 - وعلى أي حال كان فالحديث من مراسيل الثقات ; لأن جميعهم ثقة ، وهو حديث تلقاه أهل الحجاز ، وطائفة من أهل العراق بالقبول ، والعمل .

32653 - وهو موافق لما نصه الله - عز وجل - في كتابه عن داود وسليمان إذ يحكمان في الحرث [ الأنبياء : 78 ] ، وأمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يقتدي بهما فيمن أمره بالاقتداء بهم من أنبيائه بقوله تبارك اسمه : أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده [ الأنعام : 90 ] .

32654 - وقال تبارك وتعالى : وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما [ الأنبياء : 78 ، 79 ] .

32655 - ولا خلاف بين أهل العلم بتأويل القرآن ولغة أهل العرب أن النفش لا يكون بالليل .

32656 - وذكر عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الزهري ، قال : النفش بالليل ، والهمل بالنهار .

32657 - قال : وأخبرنا معمر ، عن قتادة ، عن الشعبي أن شاة وقعت في غزل حائك ، واختصموا إلى شريح ، فقال الشعبي : انظروا فإنه سيسألهم : أليلا وقعت فيه أم نهارا ، ففعل ، ثم قال : إن كان بالليل ضمن ، وإن كان بالنهار لم يضمن ، ثم [ ص: 253 ] قرأ شريح : إذ نفشت فيه غنم القوم [ الأنبياء : 78 ] .

وقال : النفش بالليل ، والهمل بالنهار .

32658 - قال : وقال معمر ، وابن جريج : بلغنا أن حرثهم كان عنبا .

32659 - واختلف الفقهاء في هذا المعنى على أربعة أقوال :

32660 - أحدها : كل دابة مرسلة فصاحبها ضامن .

32661 - والثاني : لا ضمان فيما أصاب المنفلتة من الدواب والمواشي .

32662 - والثالث : ما أصابت بالليل فهو مضمون ، وما أصابت بالنهار فغير مضمون .

32663 - والرابع : الفرق بين الأموال والدماء .

32664 - فأما أقوال الفقهاء في هذا الباب ، فذكر ابن عبد الحكم ، قال : قال مالك : ما أفسدت المواشي والدواب من الزرع والحوائط بالليل ، فضمان ذلك على أهلها ، وما كان بالنهار ، فلا شيء على أصحاب الدواب ، ويقوم الزرع على الذي أفسدت بالليل على الرجاء والخوف .

32665 - قال : والحوائط التي تحرث والتي لا تحرث سواء ، والمخطر عليه ، وغير المخطر سواء ، يغرم أهلها ما أصابت بالليل بالغا ما بلغت ، وإن كان أكثر من قيمتها .

[ ص: 254 ] 32666 - قال مالك : وإذا انفلتت دابة بالليل ، فوطئت على رجل قائم لم يغرم صاحبها شيئا ، وإنما هذا في الحوائط والزرع والحرث .

32667 - قال مالك : وإذا تقدم إلى صاحب الكلب الضاري ، أو البعير ، أو الدابة بما أفسدت ليلا أو نهارا ، فعليهم غرمه .

32688 - قال أبو عمر : لا خلاف عن مالك ، وأصحابه في ذلك على ما ذكره ابن عبد الحكم في كتابه .

32668 م - وهو قول الشافعي وأصحابه إلا فيما ذكر من التقدم إلى صاحب الدابة الضارية ، أو الكلب الضاري ، والبعير الصئول فإن التقدم في ذلك سواء عنده ، وإنما يضمن عندهم في الدواب والمواشي ما أفسدت في الحائط والزرع والأعتاب والثمار بالليل دون النهار .

32669 - وستأتي مسألة الجمل الصئول ، والكلب العقور في موضعها إن شاء الله عز وجل .

32670 - وإنما وجب - والله أعلم - الضمان على أرباب المواشي فيما أفسدت من الزرع ، وشبهه بالليل دون النهار ; لأن الليل وقت رجوع الماشية إلى مواضع مبيتها من دور أصحابها ، ورحالهم ليحفظوها ، ويمسكوها عن الخروج إلى حرث الناس وحوائطهم ; لأنها لا يمكن أربابها حفظها بالليل ; لأنه وقت سكون وراحة لهم مع علمهم أن المواشي قد أواها أربابها إلى أماكن قرارها ومبيتها ، وأما [ ص: 255 ] النهار فيمكن فيه حفظ الحوائط وحرزها ، وتعاهدها ، ودفع المواشي عنها .

32671 - ولا غنى لأصحاب المواشي عن مشيها لترعى ؛ فهو عيشها ، فألزم أهل الحوائط حفظها نهارا لذلك ، والله أعلم ، وألزم أرباب الماشية ضمان ما أفسدت ليلا لتفريطهم في ضبطها وحبسها عن الانتشار بالليل .

32672 - ولما كان على أرباب الحوائط حفظ حوائطهم في النار فلم يفعلوا كانت المصيبة منهم لتفريطهم أيضا وتضييعهم ما كان يلزمهم من حراسة أموالهم .

32673 - وهذا عندي - والله أعلم - إذا أطلقت الدواب والمواشي دون راع يرعاها .

32674 - وأما إذا كانت ترعى ومعها صاحبها ، فلم يمنعها من زرع غيره ، وهو قادر على منعها ، فهو المسلط لها ، وهو - حينئذ - كالسائق ، والراكب ، والقائد .

32675 - وسيأتي ذكر اختلاف الناس في ذلك عند قوله - صلى الله عليه وسلم - : العجماء جرحها جبار - إن شاء الله عز وجل .

32676 - وقال الليث بن سعد : يضمن رب الماشية ما أفسدت بالليل والنهار ، ولا يضمن أكثر من قيمة الماشية .

32677 - قال أبو عمر : لم يفرق الليث بين الليل والنهار في هذا المعنى ، ولم يتجاوز بالضمان قيمة الماشية ، وأظنه قاسه على العبد الجاني ألا يفتكه سيده بأكثر من [ ص: 256 ] قيمته ، وأن جنايته في الليل والنهار سواء ، فخالف الحديث في العجماء جرحها جبار وخالف حديث ناقة البراء ، وقد تقدمه إلى ذلك طائفة من العلماء منهم عطاء .

32678 - قال ابن جريج : قلت لعطاء : الحرث تصيبه الماشية ليلا أو نهارا ؟ قال يضمن صاحبها ويغرم .

قلت : كان عليه حظر أو لم يكن ؟ قال : نعم ، قلت : ما يغرم ؟ قال : يغرم قيمة ما أكل حماره ، ودابته ، وماشيته .

32679 - وقال معمر ، عن ابن شبرمة : يقوم الزرع على حاله التي أصيب عليها دراهم .

32680 - وذكر أبو بكر ، قال : حدثني حفص ، عن حجاج ، عن القاسم بن نافع ، قال : قال عمر : ما أصاب المنفلت ، فلا ضمان على صاحبه ، ومن أصاب المنفلت ضمن .

32681 - وقال : حدثني عبد السلام ، عن عمرو بن الحسن ، عن ابن سيرين - في الدابة المرسلة تصيب ما ليس عليه ضمان - قال : وحدثني أبو خالد ، عن الأشعث ، عن الشعبي ، قال : كل مرسلة ، فصاحبها ضامن .

32682 - وروي عن عمر بن الخطاب ، وعمر بن عبد العزيز تضمين رب الماشية ليلا ونهارا من طرق لا تصح .

32683 - وروي عنهما في البعير الضاري ; الجمل ، والحمار ، والبقرة الضارية أن يعهد إلى ربها ثلاثا ثم يعقرن ، وكانا يأمران كل من له حائط أن يحظره [ ص: 257 ] حظارا من النصارى يكون إلى نحر البعير ، فإن تسور رد إلى أهله ثلاث مرات ، ثم عقر .

32684 - قال أبو عمر : الصواب في هذا الباب - والله أعلم - أن يضمن رب الماشية ما أفسدت ليلا بالغا ما بلغت الجناية ; لأن الظاهر من حديث ناقة البراء الضمان مطلقا غير مقيد بقيمة الناقة وغيرها ، وأن حكم الليل في ذلك بخلاف حكم النهار .

32685 - وكان يحيى بن يحيى يفتي بقول الليث في ذلك ، يحمل الناس عليه ، وقضى به أكثر القضاة عندنا بعده ، واعتل عندهم بأن مالكا يذهب إلى ذلك في الدابة الضارية المعتادة الانطلاق على زرع الناس .

32686 - واختلف قول الثوري في هذه المسألة :

32687 - فروى ابن المبارك عنه أنه لا ضمان على أصحاب الماشية بالليل ، ولا بالنهار .

32688 - وهو قول أبي حنيفة ، وأصحابه ، قالوا : لا ضمان على أرباب البهائم فيما تفسده ، أو تجني عليه ، لا في الليل ، ولا في النهار ، إلا أن يكون راكبا ، أو سائقا ، أو قائدا .

32689 - وحجتهم في ذلك قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العجماء جرحها جبار ، وقالوا : هذا حكم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخلاف ما شرع لداود وسليمان .

32690 - قال الله عز وجل : لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا [ المائدة : 48 ] .

[ ص: 258 ] 32691 - وروى الواقدي ، عن الثوري في شاة وقعت في غزل حائك بالنهار أنه يضمن .

32962 - فقال الطحاوي : تصحيح الروايتين عنه أنه إذا أرسلها محفوظة لم يضمن بالليل ولا بالنهار ، وإذا أرسلها سائبة ضمن .

32693 - قال أبو عمر : إذا كان على أهل الحوائط حفظها بالنهار فقد فعل أرباب المواشي إذا سيبوها ما أبيح لهم ، فلا ضمان عليهم ، على ظاهر حديث ناقة البراء ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية