الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
[ ص: 272 ] 31 - باب القضاء في الحمالة والحول .

1441 - قال مالك : الأمر عندنا في الرجل يحيل الرجل على الرجل بدين له عليه ، أنه إن أفلس الذي أحيل عليه ، أو مات فلم يدع وفاء ، فليس للمحتال على الذي أحاله شيء ، وأنه لا يرجع على صاحبه الأول .

قال مالك : وهذا الأمر الذي لا اختلاف فيه عندنا .

[ ص: 273 ] قال مالك : فأما الرجل يتحمل له الرجل بدين له على رجل آخر ، ثم يهلك المتحمل ، أو يفلس ، فإن الذي تحمل له ، يرجع على غريمه الأول .


32758 - قال أبو عمر : عند مالك في باب الحوالة حديث مسند ، رواه عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : مطل الغني ظلم ، وإذا أتبع أحدكم على مليء ، فليتبع .

32759 - وهذا الحديث في رواية يحيى عن مالك في الموطأ في باب جامع الدين والحول من كتاب البيوع ، وهو عند جماعة من رواة الموطأ هاهنا .

32760 - والحوالة عند مالك ، وأكثر العلماء خلاف الحمالة .

32761 - والذي عليه مالك وأصحابه في الحوالة ما ذكره في الموطأ إلا أنه لم يذكر : إذا غره من فلس علمه فإنه يرجع عليه كالحمالة ، وكذلك لو أحاله على من لا دين له عليه ، فهي حمالة يرجع بها إن لحقه توا .

32762 - وقد ذكر هذا من الوجهين ابن القاسم وغيره عن مالك ، قالوا عن [ ص: 274 ] مالك : إذا حال غريمه عن غريم له ، فقد برئ المحيل ، ولا يرجع عليه المحال بإفلاس ، ولا موت إلا أن يغره من فلس علمه من غريمه الذي أحال عليه ، فإن كان ذلك رجع عليه ، وإن لم يغره من فلس علمه إذا كان له دين ، وإن غره ، أو لم يكن عليه شيء ، فإنه يرجع عليه إذا أحاله ، قال : وهذه حمالة .

32763 - وقال الشافعي : يرجع المحيل بالحوالة ، ولا يرجع عليه بموت ، ولا إفلاس .

32764 - وهو قول أحمد ، وأبي عبيد ، وأبي ثور أنه لا يرجع على المحيل بموت ، ولا إفلاس ، وسواء غره ، أو لم يغره من فلس عند الشافعي ، وغيره .

32765 - وقال أبو حنيفة وأصحابه يبدأ المحيل بالحوالة ، ولا يرجع عليه إلا بعد التوي .

32766 - والتوي عند أبي حنيفة أن يموت المحال عليه مفلسا ، أو يحلف ما له من شيء ، ولم تكن للمحيل بينة .

32767 - وقال أبو يوسف ، ومحمد : هذا توي ، وإفلاس المحال عليه توي أيضا .

32768 - وقال شريح ، والشعبي ، والنخعي : إذا أفلس ، أو مات رجع على المحيل .

32769 - وقال عثمان البتي : الحوالة لا تبرئ المحيل إلا أن يشترط براءته ، فإن [ ص: 275 ] شرط البراءة بيد المحيل إذا أحاله على مليء ، وإن أحاله على مفلس ، ولم يقل إنه مفلس فإنه يرجع عليه ، وإن أبرأه ، وإن أعلمه أنه مفلس وأبرأه لم يرجع على المحيل .

32770 - وروى ابن المبارك ، عن الثوري إذا أحاله على رجل فأفلس ، فليس له أن يرجع على الآخر إلا بمحضرهما ، وإن مات وله ورثة ، ولم يترك شيئا رجع حضروا ، أو لم يحضروا .

32771 - وروى المعافي ، عن الثوري : إذا كفل لمدين رجل بمال وأبرأه برئ ، ولا يرجع إلا أن يفلس الكبير أو يموت ، فيرجع على صاحبه حينئذ .

32772 - وقال الليث في الحوالة : لا يرجع إذا أفلس المحال عليه .

32773 - وقال زفر ، والقاسم بن معن في الحوالة : له أن يأخذ كل واحد منهما بمنزلة الكفالة .

32774 - وقال ابن أبي ليلى : يبرأ صاحب الأصل بالحوالة .

32775 - قال أبو عمر : هذا اختلافهم في الحوالة ، وأما الكفالة والحمالة ، وهما لفظتان معناهما الضمان ، فاختلاف العلماء في الضمان على ما أورده بحول الله لا شريك له .

32776 - قال مالك : وإذا كان المطلوب مليا بالحق لم يأخذ الكفيل الذي كفل به عنه ، ولكنه يأخذ حقه من المطلوب ، فإن نقص شيء من حقه أخذه من مال الحميل ، إلا أن يكون الذي عليه الحق عليه ديون لغيره ، فيخاف صاحب الحق أن يخاصمه الغرماء ، أو كان غائبا ، فله أن يأخذ الحميل ، ويدعه .

32777 - قال ابن القاسم : لقد كان يقول : له أن يأخذ أيهما شاء ، ثم رجع [ ص: 276 ] إلى هذا القول .

32778 - وقال الليث : إذا كفل المال ، وعرف مبلغه جاز عليه ، وأخذ به ، وقال : إن كفلت لك بحقك ، ولم أعرف الحق لم يجبر ; لأنه مجهول .

32779 - وقال الشافعي ، وأبو حنيفة ، وأصحابهما ، والثوري ، والأوزاعي ، وأحمد ، وإسحاق : إذا كفل عن رجل بمال ، فللطالب أن يأخذ من أيهما شاء من المطلوب ، ومن الكفيل .

32780 - وقال أبو ثور : الكفالة والحوالة سواء ، ومن ضمن عن رجل مالا لزمه ، وبرئ المضمون عنه ، قال : ولا يجوز أن يكون مالا واحدا عن اثنين .

32781 - وهو قول ابن أبي ليلى ; قال أبو يوسف : قال ابن أبي ليلى : ليس له أن يأخذ الذي عليه الأصل ، قال : وإن كان رجلان كل واحد منهما كفيل عن صاحبه كان له أن يأخذ أيهما شاء .

32782 - قال أبو يوسف : وقال ابن شبرمة في الكفالة : إن اشترط أن كل واحد منهما كفيل عن صاحبه ، فأيهما اختار أخذه ، وبرئ الآخر ، إلا أن يشترط أخذها ، إن شاء جميعا .

32783 - وروى شعيب بن صفوان ، عن ابن شبرمة فيمن ضمن عن رجل مالا أنه يبرأ المضمون عنه ، والمال على الكفيل .

32784 - وقال في رجلين أقرضا رجلا ألف درهم على أن كل واحد منهما [ ص: 277 ] كفيل عن صاحبه ، فليس له أن يأخذ أحدهما بأصل المال ، وإنما له أن يأخذ بما كفل له عن صاحبه ، وهذه خلاف رواية أبي يوسف .

32785 - قال أبو عمر : هذه أقوالهم ، ومذاهبهم في الكفالة بالمال ، وأما الكفالة بالنفس ، فهي جائزة عند مالك ، وأصحابه ، إلا في القصاص والحدود .

32786 - وهو قول الأوزاعي ، والليث ، وأبي حنيفة ، وأصحابه .

32787 - وأما الشافعي ، فمرة ضعف الكفالة بالنفس على كل حال ، ومرة أجازها على المال .

32788 - وقال مالك : إذا كفل بنفسه إلى أجل وعليه مال غرم المال إن لم يأت به عند الأجل ، ويرجع به على المطلوب ، فإن اشترط الضامن بالنفس أنه لا يضمن المال كان ذلك له ، ولم يلزمه شيء من المال .

32789 - وقال أبو حنيفة ، وأصحابه : إذا كفل بالنفس ، ومات المطلوب برئ الكفيل ، ولم يلزمه شيء .

32790 - وقال عثمان البتي : إذا كفل بنفس في قصاص ، أو جراح فإنه إن لم يجئ به لزمته الدية ، أو أرش الجناية ، وهي له في مال الجاني ، ولا قصاص - علمت - على الكفيل .

32791 - قال أبو عمر : أما الحوالة ، فالأصل فيها قوله - صلى الله عليه وسلم - : إذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع .

[ ص: 278 ] 32792 - وهذا هو الحالة بعينها بدليل رواية يونس بن عبيد ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : مطل الغني ظلم ، وإذا أحلت على مليء فاتبعه .

32793 - وفي قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أحلت على مليء ، فاتبعه وقوله : إذا أتبع أحدكم على مليء ، فليتبع ، دليل على أنه إذا أحيل على غير مليء لم تصح الإحالة .

32794 - وفي ذلك ما يوضح لك ما ذهب إليه مالك - رحمه الله - أن المحيل إذا غر المحال من فلس المحال عليه ، فإنه لا تلزمه الحوالة ، وله رجوعه بماله على المحال ; لأنه لما شرط المليء في الحوالة دل ذلك على أن عدم ذلك يوجب غرم المال .

32795 - ولا حجة عندي للكوفيين فيما نزعوا به من هذا الحديث أنه إذا أفلس المحال عليه ، أو مات كان له الرجوع; لأن زوال الملك يوجب الرجوع على المحال .

32796 - ولهم في ذلك حجج من جهة المقايسات ، لم أر لذكرها وجها .

32797 - وكذلك قالوا إن ظاهر الحديث يوجب جواز الحوالة على من لا دين عليه للمحيل ; لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يفرق بين من عليه دين للمحيل ، وبين من لا دين عليه .

32798 - وهذا عندي ليس كما قالوا ; لأن الحوالة معناها ابتياع ذمة بذمة ، [ ص: 279 ] ومن لا دين عليه ليس للمحيل عليه شيء ، إلا أنهم جعلوا التطوع بما في الذمة كالذمة التي تكون عن بدل .

32799 - والكلام في هذا تشغيب ، وفيه تعسف ، وشغب ، وبالله التوفيق .

32800 - وقال أهل الظاهر : الحوالة على المليء لازمة ، رضي بها أو لم يرض وليس بشيء ; لأن ابتياع الذمم بالذمم كابتياع الأعيان في سائر التجارات ، والتجارة لا تكون إلا عن تراض .

32801 - وأما الأصل في الضمان ، فقول الله عز وجل : وأنا به زعيم [ يوسف : 72 ] أي كفيل ، وحميل ، وضامن .

32802 - ومن السنة حديث قبيصة بن المخارق ، قال : تحملت حمالة ، فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فسألته عنها ؟ ، فقال : نخرجها عنك من إبل الصدقة يا قبيصة ، إن المسألة لا تحل إلا في ثلاث : رجل تحمل حمالة ، فحلت له المسألة حتى يردها ، ثم يمسك ، وذكر تمام الحديث .

32803 - وفي إحلاله المسألة لمن تحمل حمالة عن قوم دليل على لزوم الحمالة للمتحمل ، ووجوبها عليه .

32804 - وقد استدل بهذا الحديث من قال : إن المكفول له تجوز له مطالبة [ ص: 280 ] الكفيل كان المكفول عليه مليئا ، أو معدما ، وزعم أن ذلك يرد قول من قال : إن المكفول ليس له مطالبة الكفيل إذا قدر على مطالبة المكفول عنه ; لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أباح المسألة المحرمة بنفس الكفالة ولم يعتبر حال المحتمل عنه .

32805 - وفي هذا الحديث أيضا دليل على جواز الحمالة بالمال المجهول ; لأن فيه تحملت حمالة ولم يذكر لها قدرا ، ولا مبلغا .

32806 - وممن أجاز الكفالة بالمجهول من المال : مالك ، وأبو حنيفة ، وأصحابهما .

32807 - وقال ابن أبي ليلى ، والشافعي : لا تصح الكفالة بالمجهول ; لأنها مخاطرة .

32808 - وفي هذا الباب أيضا حديث عبد الله بن محمد بن عقيل ، عن جابر ، أن رجلا مات ، وعليه دين ، فلم يصل عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى قال أبو اليسر : هو علي ، فصلى النبي عليه السلام ، فجاءه من الغد يتقاضاه ، فقال : إنما كان ذلك أمس ، ثم أتاه من بعد الغد ، فأعطاه ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : الآن بردت عليه جلدته .

32809 - هكذا رواه شريك ، عن عقيل ، عن جابر .

32810 - وقد قال : رواه زائدة ، عن عبد الله بن محمد بن عقيل ، عن جابر ، [ ص: 281 ] فقال فيه : وقال أبو قتادة : دينه علي يا رسول الله ، وجعل مكان أبي اليسر أبا قتادة .

32811 - وهذا الحديث يدل على أن المطلوب لا يبرأ بكفالة الكفيل حتى يقع الأداء ، ويدل على أن للطالب أن يأخذ بماله أيهما شاء ، ويدل على أن من كفل عن إنسان بغير أمره لم يكن له أن يرجع عليه ; لأنه لو كان له الرجوع لقام فيه مقام الطالب صاحب أصل الدين ، ولم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - ليصلي عليه ، ولا كانت جلدته لتبرد ، والله أعلم .

32812 - وأما حديث عبد الله بن أبي قتادة ، عن أبيه أن رجلا توفي على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وترك عليه دينارين ، وأبى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يصلي عليه حتى يؤدى عنه ، فتحمل بها أبو قتادة ، فصلى عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

32813 - وقد روي في حديث عبد الله بن أبي قتادة ، عن أبيه أنه قال : أتصلي عليه يا رسول الله إن قضيت عنه ؟ قال : نعم فقضى عنه ، وصلى عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

32814 - وقد رواه بكير بن عبد الله بن الأشج ، عن أبي قتادة : قال : سمعت من أهلي من لا أتهم : أن رجلا توفي ، فذكر الحديث .

32815 - وأحاديث هذا الباب معلومة عند أهل العلم بالنقل كلها ; للاختلاف في أسانيدها ، وألفاظها وتضعيفهم لبعض ناقليها ، وأحسنها حديث الزهري .

[ ص: 282 ] 32816 - وقد اختلف عليه فيه أيضا ، فرواه معمر عن الزهري ، عن أبي سلمة ، عن جابر ، قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يصلي على رجل مات ، وعليه دين ، فأتي بميت ، فقال : أعليه دين ؟ قالوا : نعم ، ديناران ، فقال : صلوا على صاحبكم .

32817 - قال أبو قتادة الأنصاري : هما علي يا رسول الله ، فصلى عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فلما فتح الله على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : أنا أولى بكل مؤمن من نفسه ، فمن ترك دينا فعلي قضاؤه ، ومن ترك مالا ، فلورثته .

32818 - هكذا رواه عبد الرزاق عن معمر ، ورواه غيره عن الزهري عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة بمثله ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، لم يذكر فيه ضمان أبي قتادة ، وذكر سائر الحديث .

32819 - ورواه عقيل ، عن الزهري ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة أيضا ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مختصرا ، لم يذكر فيه إلا : أنا أولى بالمسلمين من أنفسهم إلى آخره لا غير .

التالي السابق


الخدمات العلمية