الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
[ ص: 311 ] 36 - باب الاعتصار في الصدقة

1449 - قال مالك : الأمر عندنا الذي لا اختلاف فيه ، أن كل من تصدق على ابنه بصدقة قبضها الابن ، أو كان في حجر أبيه فأشهد له على صدقته ، فليس له أن يعتصر شيئا من ذلك ; لأنه لا يرجع في شيء من الصدقة .

قال مالك : الأمر المجتمع عليه عندنا فيمن نحل ولده نحلا ، أو أعطاه عطاء ليس بصدقة ، أن له أن يعتصر ذلك ، ما لم يستحدث الولد دينا يداينه الناس به ، ويأمنونه عليه ، من أجل ذلك العطاء الذي أعطاه أبوه ، فليس لأبيه أن يعتصر من ذلك شيئا ، بعد أن تكون عليه الديون ، أو يعطي الرجل ابنه أو [ ص: 312 ] ابنته ، فتنكح المرأة الرجل ، وإنما تنكحه لغناه ، وللمال الذي أعطاه أبوه ، فيريد أن يعتصر ذلك الأب ، أو يتزوج الرجل المرأة ، قد نحلها أبوها النحل ، إنما يتزوجها ويرفع في صداقها لغناها ومالها ، وما أعطاها أبوها ، ثم يقول الأب : أنا أعتصر ذلك ، فليس له أن يعتصر من ابنه ولا من ابنته شيئا من ذلك ، إذا كان على ما وصفت لك .


32958 - قال أبو عمر : قد قلنا : إن الاعتصار عند أهل المدينة هو الرجوع في الهبة والعطية ، ولا أعلم خلافا بين العلماء أن الصدقة لا رجوع فيها للمتصدق بها .

32959 - وكل ما أريد به - من الهبات - وجه الله تعالى بأنها تجري مجرى الصدقة في تحريم الرجوع فيها .

32960 - وأما الهبات إذا لم يقل الواهب فيها لله ، ولا أراد بهبته الصدقة المخرجة لله عز وجل ، فإن العلماء اختلفوا في ذلك اختلافا كثيرا :

32961 - فمذهب مالك فيما ذكره في كتابه الموطأ على ما أوردناه من تخصيص ترك رجوع الأب في هبته لولده إذا نكحت الابنة ، أو استدان الابن ونحو ذلك على ما تقدم وصفه .

32962 - وأما الشافعي ، فليس لأحد عنده أن يرجع في هبته إلا الوالد ، ثم وقف عن ذلك ، فقال : لو اتصل حديث طاوس : لا يحل لواهب أن يرجع في هبته إلا الوالد ، لقلت به ، ولم أزد واهبا غيره ، وهب لمن يستثيب منه ، أو لمن لا يستثيب منه .

[ ص: 313 ] 32963 - قال أبو عمر : قد وصل حديث طاوس حسين المعلم ، وهو ثقة ، ليس به بأس .

32964 - أخبرنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثني محمد بن بكر ، قال : حدثني أبو داود ، قال : حدثني مسدد ، قال : حدثني يزيد بن زريع ، قال : حدثني حسين المعلم ، عن عمرو بن شعيب ، عن طاوس ، عن ابن عمر ، وابن عباس ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لا يحل لأحد أن يعطي عطية ، أو يهب هبة ، ثم يرجع فيها إلا الوالد فيما يعطي ولده ، ومثل الذي يعطي العطية ، ثم يرجع فيها كمثل الكلب يأكل ، فإذا شبع قاءه ، ثم عاد في قيئه .

32965 - قال أبو عمر : أما قوله - صلى الله عليه وسلم - : العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه .

32966 - ولا خلاف بين أهل العلم في صحة إسناده .

32967 - ومن أحسن أسانيده حديث شعبة ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب ، عن ابن عباس .

32968 - وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - : لا يحل لواهب أن يرجع في هبته إلا الوالد ، فليس يتصل إسناده إلا من حديث حسين المعلم ، كما وصفت لك .

32969 - وبه قال أبو ثور .

32970 - وقال أبو حنيفة ، وأصحابه : كل من وهب هبة لذي رحم محرمة [ ص: 314 ] كالأخ والأخت ، وابن الإخوة ، والأخوات .

32971 - وكذلك الأعمام والعمات ، والأخوال ، والخالات ، والآباء ، وإن علوا ، والبنين وإن سفلوا ، وكل من لا يحل له نكاحها ، أو كانت امرأة من جهة النسب ، والصهر .

32972 - وكذلك الزوجان إن وهب أحدهما لصاحبه لم يكن للواهب منهم أن يرجع في هبته ، كما ليس للمتصدق أن يرجع في شيء من صدقته ، فإن وهب لغير هؤلاء ، فله الرجوع في هبته ، ما لم تزد في بدنها ، أو يزيد فيها الموهوب له ، وما لم يمت واحد منهما ، وما لم تخرج الهبة من ملك الموهوب له إلى ملك غيره ، وما لم يعوض الموهوب له الواهب عوضا يقبله ، ويقبض منه ، فأي هذه الأشياء كانت فلا رجوع في الهبة معه ، كما لا يرجع في الصدقة ، ولا فيما وهب لذي رحم محرمة منه ، ولا فيما وهب أحد الزوجين لصاحبه .

32973 - وإذا لم تكن هذه الأشياء والشروط التي ذكرنا ، والأوصاف التي وصفنا كان للواهب الرجوع في الهبة ، ولا يرجع عليه إلا بحكم الحاكم له فيها ، أو بتسليم من الموهوب له .

32974 - هذا كله قول أبي حنيفة وأصحابه فيما ذكر الطحاوي عنهم في مختصره .

32975 - وحجتهم في ذلك - الحديث عن عمر - رضي الله عنه - من رواية مالك وغيره ، عن داود بن الحصين ، عن أبي غطفان ، عن مروان ، عن عمر ، أنه قال : من وهب هبة لصلة رحم ، أو على وجه الصدقة . فسوى بين الهبة لذي [ ص: 315 ] الرحم ، وبين الصدقة .

32976 - وروى الأسود ، عن عمر مثله فيمن وهب لصلة رحم ، أو قرابة .

32977 - وليس في حديث عمر ذكر الزوجين .

32978 - ولا فرق بين الرحم المحرمة ، ولا غير المحرمة ، كما فعل الكوفيون .

32979 - والأصل عندي الذي تلزم الحجة به أنه لا يجوز لأحد الرجعة فيه ; لقوله - صلى الله عليه وسلم - : العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه ، إلا أن تثبت سنة تخص هذه الجملة ، أو يتفق على معنى من ذلك علماء الأمة ، وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية