الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1481 1452 - وكذلك ذكر في الموطأ بأثر الحديث المذكور في أول الباب ، عن نافع : أن عبد الله بن عمر ورث من حفصة بنت عمر دارها ، قال : وكانت حفصة قد أسكنت بنت زيد بن الخطاب ما عاشت ، فلما توفيت بنت زيد قبض عبد الله بن عمر المسكن ، ورأى أنه له .


32985 - قال أبو عمر : لأنه كان شقيق حفصة ، والمنفرد بميراثها ، فرجعت إليه الدار بعد موتها ; لأن الإسكان لا يملك به إلا المنفعة دون الرقبة .

32986 - وكذلك الإعمار عند مالك ، وحجته في ذلك قول القاسم بن محمد : ما أدركت الناس إلا على شروطهم في أموالهم ، وفيما أعطوا ، يريد أن لفظ العمرى ينفي أن يكون للمعمر من الشيء الذي أعمر إلا منفعته ، وعمره ، لا غير .

32987 - ولم يأخذ مالك بحديثه المسند في هذا الباب عن ابن شهاب ، عن أبي سلمة ، عن جابر ، وقال : ليس عليه العمل إلا ما ذكره عنه يحيى بن يحيى في الموطأ ، وكان من آخر من روى عنه الموطأ .

[ ص: 319 ] 32988 - وروى عنه بعض أصحابه أنه قال : رأيت محمدا ، وعبد الله ابني أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ، وسمعت عبد الله يعاتب محمدا ، ومحمد يومئذ قاض يقول له : ما لك لا تقضي بالحديث الذي جاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في العمرى ؟ - يعني حديث ابن شهاب عن أبي سلمة ، عن جابر فيقول له محمد : يا أخي لم أجد الناس على هذا ، فجعل عبد الله يكلمه ، ومحمد يأباه .

32989 - قال أبو عمر : لم يأخذ مالك بحديث العمرى ، ورده بالعمل عنده ، وقد أخذ به ابن شهاب وغيره .

32990 - وروى معمر ، عن ابن شهاب ، عن الزهري ، عن أبي سلمة ، عن جابر ، قال : إنما العمرى التي أجاز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما أن يقول : هي لك ، ولعقبك ، فأما إذا قال : هي لك ما عشت ، فإنها ترجع إلى صاحبها .

32991 - قال معمر : وكان الزهري يفتي بذلك .

32992 - قال أبو عمر : هذا قول أبي سلمة بن عبد الرحمن ، ويزيد بن قسيط ، وبه قال ابن أبي ذئب ، والأوزاعي ، وإليه ذهب أبو ثور ، وداود بن علي .

32993 - وقال الأوزاعي : قلت : للزهري : الرجل يقول للرجل جاريتي هذه لك حياتك ، أيحل له أن يطأها ؟ قال : لا : قلت : فقال : هي لك عمري ، أو [ ص: 320 ] عمرك ، فيحل له فرجها ، قال : لا ، حتى يبينها له ، إنما العمرى التي لا يكون فيها للمعمر شيء ، أن يقول : هي لك ، ولعقبك ، يعطيها له ، ولعقبه ، لا يكون للمعطي فيها مثوبة .

32994 - وقال محمد بن يحيى الذهلي النيسابوري : حديث معمر هذا إنما منتهاه إلى قوله : هي لك ، ولعقبك ، وما بعده عندنا من كلام الزهري ، قال : وما رواه أبو الزبير عن جابر يرد حديث معمر هذا .

32995 - قال أبو عمر : حديث أبي الزبير رواه ابن جريج ، والحجاج بن أبي عثمان ، وحماد بن سلمة ، وإبراهيم بن طهمان ، عن أبي الزبير عن جابر ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : يا معشر الأنصار أمسكوا عليكم أموالكم ، ولا تعمروها ، فمن أعمر شيئا حياته ، فهو له حياته وموته .

32996 - وقد رواه ابن جريج أيضا عن عطاء ، عن جابر .

32997 - أخبرنا أبو محمد ; عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن ، قال حدثنا محمد بن عثمان بن ثابت أبو بكر الصيدلاني ببغداد ، قال : حدثني إسماعيل القاضي ، قال : حدثني علي بن المديني ، قال : حدثني سفيان ، قال : حدثني ابن جريج : أنه سمع عطاء يقول : سمعت جابر بن عبد الله يقول : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا تعمروا ، ولا ترقبوا ، فمن أعمر شيئا ، أو أرقبه ، فهو لورثته .

[ ص: 321 ] قال سفيان : وأخبرنا عمرو بن دينار ، عن سليمان بن يسار ، قال : قضى طارق بالمدينة بالعمرى للوارث عن قول جابر بن عبد الله أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى بها .

32998 - وقد ذكرنا الآثار بهذا المعنى في التمهيد .

32999 - قال أبو عمر : من قال في العمرى بحديث أبي الزبير ، عن جابر ، وما كان مثله في العمرى جعل العمرى هبة مبتولة ملكا للذي أعمرها ، وأبطل شرط ذكر العمر فيها .

33000 - وبهذا قال الشافعي ، وأبو حنيفة ، وأصحابهما .

33001 - وهو قول عبد الله بن شبرمة ، وسفيان الثوري ، والحسن بن صالح ، وابن عيينة ، وأحمد بن حنبل ، وأبي عبيد ، كل هؤلاء يقولون بالعمرى هبة مبتولة ، يملك المعمر رقبتها ، ومنافعها ، واشترطوا فيها القبض كسائر الهبات ، فإذا قبضها المعمر ورثها عنه ورثته بعده كسائر ماله ; لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبطل شرط المعمر فيها ، وجعلها ملكا للمعمر موروثا عنه .

33002 - قالوا : وسواء ذكر العقب في ذلك والسكوت عنه ; لأنه لو أعمرها من أعقبها ، أو من لا يكون له عقب كالمجبوب ، والعقيم ، فقال : لك ولعقبك ، أو قال ذلك لمن له عقب ، أو من لا يكون له عقب كالمجبوب ، والعقيم ، فقال : لك ولعقبك ، أو قال ذلك لمن له عقب ، فماتوا قبله لم يكن لذكر العقب معنى يصح ، إلا أنها حينئذ تورث عندهم عنه ، وقد يرثه غير عقبه .

33003 - قالوا : فذكر العقب لا معنى له في ذلك ، وإنما المعنى الصحيح ما [ ص: 322 ] جاء به الأثر واضحا أن العمرىتورث عن المعطي لملكه لها بما جعلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ذلك له حياته ، وموته .

33004 - وهو قول جابر بن عبد الله ، وابن عمر ، وابن عباس .

33005 - ذكر معمر ، عن أيوب ، عن حبيب بن أبي ثابت ، قال : سمعت ابن عمر وسأله أعرابي أعطى ابنه ناقة له حياته ، فأنتجت إبلا ، فقال ابن عمر : هي له حياته وموته .

قال : أفرأيت إن تصدق بها عليه ، قال : فذلك أبعد له .

33006 - قال أبو عمر : هذا الحديث عن ابن عمر يدل على أن مذهبه في العمرى بخلاف مذهبه في الإسكان والسكنى بدليل أنه ورث من حفصة أخته دارا كانت أسكنتها زيد بن الخطاب ما عاشت ، فلما ماتت بنت زيد بن الخطاب بعد موت حفصة ورث ابن عمر الدار عن أخته حفصة ; لأنها كانت على ملكها ، وكان عبد الله بن عمر وارثها ; لأنه كان شقيقها .

33007 - وعلى هذا أكثر أهل العلم في الإعمار والعمرى إذ ذلك مخالف للإسكان والسكنى .

33008 - وقد كان الحسن ، وعطاء ، وقتادة يسوون بين العمرى ، والسكنى ، وقالوا : من أسكن أحدا داره لم ينصرف إليه أبدا .

33009 - وكان الشعبي يقول : إذا قال : هي لك سكنى حتى تموت ، فهي له [ ص: 323 ] حياته وموته ، وإذا قال : داري هذه اسكنها حتى تموت ، فإنها ترجع إلى صاحبها .

33010 - قال أبو عمر : جعل هؤلاء السكنى كالعمرى هبة تملك بها الرقبة ، وجعل ملك العمرى كالسكنى ، لا تملك بها إلا المنفعة دون الرقبة .

33011 - وذلك الذي عليه جمهور أهل العلم في السكنى والإسكان أنه لا تملك به رقبة الشيء .

33012 - والخبر عن ابن عباس في العمرى رواه الثوري ، وغيره ، عن أبي الزبير ، عن طاوس ، عن ابن عباس ، قال : لا تحل العمرى ، ولا الرقبى ، فمن أعمر شيئا ، فهو له ، ومن أرقب شيئا ، فهو له .

33013 - والخبر عن جابر رواه ابن جريج ، عن أبي الزبير ، عن جابر ، وقد ذكرناه في التمهيد .

33014 - وهو قول طاوس ، ومجاهد ، وسليمان بن يسار ، وبه كان يقضي شريح ، وقد ذكرنا أخبار هذا الباب ، وطرقها ، وألفاظها ، واختلافها في التمهيد ، والحمد لله كثيرا .

33015 - وروى ابن عيينة ، عن أيوب السختياني ، عن ابن سيرين ، قال : خاصم رجل إلى شريح في العمرى ، فقضى له ، وقال : لست أنا قضيت لك ، ولكن [ ص: 324 ] محمدا - صلى الله عليه وسلم - قضى بذلك منذ أربعين سنة : العمرى ميراث عن أهلها ، من ملك شيئا حياته ، فهو لورثته إذا مات .

33016 - فأما حديث ابن شهاب في صدر هذا الباب ، فقد أوردنا فيه رواية مالك له بألفاظه ، ثم رواية معمر له بألفاظه .

33017 - ورواه ابن أبي ذئب ، والأوزاعي ، ومحمد ابن أخي الزهري ، والليث بن سعد على خلاف ذلك .

33018 - فأما رواية ابن أبي ذئب ، فذكرها في موطئه عن ابن شهاب عن أبي سلمة ، عن جابر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قضى فيمن أعمر عمرى له ، ولعقبه ، فهي له قبله ، لا يجوز للمعطي فيها شرط ، ولا مثوبة .

33019 - قال أبو سلمة : لأنه أعطى عطاء وقعت به المواريث ، فقطعت المواريث شرطه .

33020 - قال أبو عمر : بين ابن أبي ذئب موضع المسند المرفوع من هذا الحديث ، فجعل سائره من قول أبي سلمة ، فجوده .

33021 - وذلك بخلاف ما قال محمد بن يحيى إذ جعله من قول الزهري .

33022 - ورواه الليث عن ابن شهاب بإسناده عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال : من أعمر رجلا عمرى ؛ له ولعقبه ، فقد قطع قوله حقه فيها ، وهي لمن أعمرها ، ولعقبه .

33023 - ورواه الأوزاعي ، قال : حدثني الزهري ، قالا : حدثني أبو سلمة ، [ ص: 325 ] قال : حدثني جابر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : العمرى لمن أعمرها ، هي له ، ولعقبه .

33024 - ورواية ابن أخي الزهري نحو ذلك .

33025 - ومعاني رواة ابن شهاب كلها متقاربة .

33026 - وأما قوله في حديث مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر أنه ورث حفصة بنت عمر دارها ، فأسقط حرف الجر ، وهي لغة للعرب .

33027 - قال أبو الحجناء :


أضحت جياد ابن قعقاع مقسمة في الأقربين بلا من ولا ثمن     ورثتهم فتسلوا عنك إذ ورثوا
وما ورثتك غير الهم والحزن

33028 - أراد : وما ورثت منك غير الهم والحزن .

33029 - وقالت زينب الطثرية :


مضى وورثناه دريس مفاضة     وأبيض هنديا طويلا حمائله



التالي السابق


الخدمات العلمية