الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
[ ص: 50 ] ( 4 ) باب أمر الحامل والمريض والذي يحضر القتال في أموالهم .

1467 - قال مالك : أحسن ما سمعت في وصية الحامل وفي قضاياها في مالها وما يجوز لها ، أن الحامل كالمريض ، فإذا كان المرض الخفيف غير المخوف على صاحبه ، فإن صاحبه يصنع في ماله ما يشاء ، وإذا كان المرض المخوف عليه ، لم يجز لصاحبه شيء ، إلا في ثلثه .

قال : وكذلك المرأة الحامل ، أول حملها بشر وسرور ، وليس بمرض ولا خوف; لأن الله تبارك وتعالى قال في كتابه : فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب [ هود : 71 ] وقال : حملت حملا خفيفا فمرت به فلما أثقلت دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحا لنكونن من الشاكرين [ الأعراف : 189 ] .

فالمرأة الحامل إذا أثقلت لم يجز لها قضاء إلا في ثلثها ، فأول الإتمام ستة أشهر ، قال الله تبارك وتعالى في كتابه : والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين [ البقرة : 233 ] وقال : وحمله وفصاله ثلاثون شهرا [ ص: 51 ] [ الأحقاف : 15 ] فإذا مضت للحامل ستة أشهر من يوم حملت لم يجز لها قضاء في مالها ، إلا في الثلث .

قال مالك في الرجل يحضر القتال : إنه إذا زحف في الصف للقتال ، لم يجز له أن يقضي في ماله شيئا ، إلا في الثلث ، وإنه بمنزلة الحامل والمريض المخوف عليه ، ما كان بتلك الحال .


33432 - قال أبو عمر : أصل علامات المرض الذي يلزم به صاحبه الفراش ، ولا يعذر معه على شيء من التصرف ، ويغلب على القلوب أنه يتخوف عليه منه الموت إذا كانت هذه حال المريض .

33433 - فالعلماء مجمعون قديما وحديثا على أنه لا يجوز له أن يقضي في ماله بأكثر من الثلث .

33434 - وأما الحامل ، فأجمعوا على أن ما دون ستة أشهر من حملها هي فيه كالصحيح في أفعاله ، وتصرفه في ماله .

33435 - وأجمعوا أيضا أنها إذا ضربها المخاض ، والطلق أنها كالمريض المخوف عليه ، لا ينفذ لها في مالها أكثر من ثلثها .

33436 - واختلفوا في حالها إذا بلغت ستة أشهر من حملها إلى حين يحضرها الطلق :

[ ص: 52 ] 33437 - فقال مالك ما وصفه في موطئه على ما ذكرناه .

33438 - وهو قول الليث بن سعد ، وأحمد ، وإسحاق ، وطائفة من السلف .

33439 - وقال أبو حنيفة ، والشافعي وأصحابهما ، والثوري ، وعبيد الله بن الحسن ، والأوزاعي ، وأبو ثور ، وداود : الحامل كالصحيح مالم يكن المخاض ، والطلق ، أو يحدث بها من الحمل ما تصير به صاحبة فراش .

33440 - وأجمع العلماء على أن من بلغت منه الجراح أن أنفذت مقاتله ، أو قدم للقتل في قصاص ، أو لرجم في زنا أنه لا يجوز له من القضاء في ماله إلا ما يجوز للمريض صاحب الفراش المخوف عليه .

33441 - وكذلك الذي يبرز في التحام الحرب للقتال .

33442 - وأجمع العلماء على أن عتق المريض صاحب الفراش الثقيل المرض لعبيده في مرضه إذا مات من مرضه ذلك لا ينفذ منه إلا ما يحمل ثلث ماله .

33443 - وثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عمران بن حصين وغيره في الذي أعتق ستة أعبد له عند موته لم يكن له مال غيرهم ثم مات ، فأقرع رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم ، وعتق ثلثهم اثنين ، وأرق ثلثيهم أربعة .

33444 - وأجمع الجمهور من العلماء الذين هم حجة على من خالفهم أن [ ص: 53 ] هبات المريض ، وصدقاته ، وسائر عطاياه إذا كانت حاله ما وصفنا لا ينفذ منها إلا ما حمل ثلثه . 0

33445 - وقال داود ، وأهل الظاهر : أما عتق المريض فعلى ما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في الذي أعتق ستة أعبد له في مرضه ، لا مال له غيرهم ينفذ من ذلك الثلث .

33446 - وأما هباته ، وصدقاته وما يهديه ويعطيه ، وهو حي ، فنافذ ذلك كله جائز عليه ماض في ذلك كله; لأنه ليس بوصية ، وإنما الوصية ما يستحق بموت الموصي .

33447 - وقال الجمهور من العلماء ، وجماعة أهل الفتوى بالأمصار : إن هبات المريض كلها وعتقه ، وصدقاته ، لو صح من مرضه نفذ ذلك كله من رأس ماله ، ويراعون فيها ماعدا العتق القبض على ما ذكرنا في أصولهم من قبض الهبات ، والصدقات فيما تقدم من هذا الكتاب .

33448 - وقال داود ، وأهل الظاهر : أما العتق خاصة في المرض ، فلا ينفذ منه إلا الثلث مات المعتق من مرضه ، أو صح; لأن المرض لا يعلم ما منه الموت ، وما منه الصحة إلا الله تعالى .

33449 - وقد أجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم عتق ثلث العبيد الذين أعتقهم سيدهم بالمرض ، ولا مال له غيرهم .

[ ص: 54 ] 33450 - قال أبو عمر : الحجة على داود قائمة بنص الحديث ; لأن فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما أقرع بين العبيد بعد موت سيدهم ، وتغيظ عليه ، وقال : ( ( لقد هممت ألا أصلي عليه ما أعتق جميعهم ) ) ، ولم يكن له مال غيرهم .

33451 - وهذه الألفاظ محفوظة في حديث عمران بن حصين .

33452 - وقد ذكرنا كثيرا منه في ( ( التمهيد ) ) ، وفي كتاب العتق من هذا الكتاب ، والله الموفق للصواب .

التالي السابق


الخدمات العلمية