الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
194 166 - وأما حديثه في هذا الباب عن ابن أكيمة الليثي ، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انصرف من صلاة جهر فيها بالقراءة ، فقال : " هل قرأ معي منكم أحد آنفا " ، فقال رجل : نعم ، أنا يا رسول الله ، قال : فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إني أقول ما لي أنازع القرآن " ، فانتهى الناس عن [ ص: 226 ] القراءة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما جهر فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالقراءة حين سمعوا ذلك من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .


4850 - فقد ذكرنا ابن أكيمة بما يجب من ذكره في التمهيد .

4851 - والاختلاف في اسمه كثير ; فقيل : عمرو ، وقيل : عامر ، وقيل : عمارة ، وقيل : عمر ، وقيل : عمار .

[ ص: 227 ] 4852 - وهو من بني ليث من أنفسهم ، يكنى أبا الوليد فيما ذكر الواقدي ، وقال : توفي سنة إحدى ومائة ، وهو ابن تسع وسبعين سنة .

4853 - روي عن ابن شهاب ، يقال : إنه لم يرو عنه غيره ، وإن الذي روى عنه محمد بن عمرو ، وهو ابن أخيه ، لا هو . والذي روى عنه محمد بن عمرو هو الذي روى عنه مالك حديث أم سلمة : " إذا دخل العشر فأراد أحدكم أن يضحي " الحديث . والله أعلم .

4854 - قال ابن شهاب : كان ابن أكيمة يحدث في مجلس سعيد بن المسيب ، فيصغي إلى حديثه ، وحسبك بهذا فخرا وثناء .

4855 - وأما قوله في هذا الحديث : " فانتهى الناس عن القراءة " إلى آخر الحديث - فأكثر رواة ابن شهاب عنه لهذا الحديث يجعلونه كلام ابن شهاب ، ومنهم من يجعله كلام أبي هريرة . وقد أوضحنا ذلك كله في التمهيد .

4856 - وفقه هذا الحديث الذي من أجله جيء به هو ترك القراءة مع الإمام فيما جهر فيه الإمام بالقراءة ; فلا يجوز أن يقرأ معه إذا جهر ، لا بأم القرآن ولا بغيرها ، على ظاهر هذا الحديث وعمومه .

[ ص: 228 ] 4857 - وهذا موضع اختلفت فيه الآثار عن النبي - عليه السلام - ، واختلف فيه العلماء من الصحابة والتابعين وفقهاء المسلمين على ثلاثة أقوال :

4858 - أحدها : يقرأ معه فيما أسر فيه ، ولا يقرأ معه فيما جهر .

4859 - والثاني : لا يقرأ معه ، لا فيما أسر ولا فيما جهر .

4860 - والثالث : يقرأ معه بأم القرآن خاصة فيما جهر ، وبأم القرآن وسورة فيما أسر .

4861 - فأما القول الأول فقال مالك : الأمرعندنا أن يقرأ الرجل مع الإمام فيما لا يجهر فيه الإمام بالقراءة ، ويترك القراءة معه فيما يجهر فيه بالقراءة .

4862 - وهو قول سعيد بن المسيب ، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، وسالم بن عبد الله بن عمر ، وابن شهاب ، وقتادة .

4863 - وبه قال عبد الله بن المبارك ، وأحمد ، وإسحاق ، وداود ، والطبري .

4864 - إلا أن أحمد بن حنبل قال : إن سمع في صلاة الجهر لم يقرأ ، وإن لم يسمع قرأ .

4865 - ومن أصحاب داود من قال : لا يقرأ فيما قرأ إمامه وجهر ، ومنهم من قال : يقرأ ، وأوجبوا كلهم القراءة إذا أسر .

4866 - واختلف في هذه المسألة عن عمر ، وعلي ، وابن مسعود ; فروي عنهم [ ص: 229 ] أن المأموم لا يقرأ وراء الإمام ، لا فيما أسر ، ولا فيما جهر ، كقول الكوفيين .

4867 - وروي عنهم أنه يقرأ فيما أسر ، ولا يقرأ معه فيما جهر ، كقول مالك .

4868 - وهذا أحد قولي الشافعي ، كان يقوله بالعراق .

[ ص: 230 ] 4869 - وروي ذلك عن أبي بن كعب ، وعبد الله بن عمرو ، وعبد الله بن عمر .

4870 - والحجة لهذا القول - وهو المختار عندنا - قول الله - تعالى - : " وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا " [ سورة الأعراف : 304 ] .

4871 - وهذا عند أهل العلم عند سماع القرآن في الصلاة ، لا يختلفون أن هذا الخطاب نزل في هذا المعنى دون غيره .

4872 - ومعلوم أن هذا لا يكون إلا في صلاة الجهر ; لأن السر لا يستمع إليه .

4873 - وقد ذكرنا في " التمهيد " خبر أبي عياض عن أبي هريرة ، قال : كانوا يتكلمون في الصلاة حتى نزلت هذه الآية " وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا " ، قال إبراهيم بن مسلم : فقلت لأبي عياض : لقد كنت أظن أنه لا ينبغي لأحد يسمع القرآن ألا يسمع ، قال : لا إنما ذلك في الصلاة المكتوبة ، فأما في غير الصلاة فإن شئت استمعت وأنصت ، وإن شئت مضيت ، ولم تسمع .

4874 - وروى ابن عيينة عن إبراهيم بن ميسرة قال : سمعت مجاهدا يقول : ما رأيت أحدا بعد ابن عباس أفقه من أبي عياض .

4875 - وروى حماد بن سلمة عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب في قوله تعالى : " وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا " قال : في الصلاة .

4876 - وعن أبي العالية ، والشعبي ، وابن شهاب ، والنخعي ، ومجاهد ، [ ص: 231 ] والحسن البصري ، وعطاء ، وزيد بن أسلم - مثله ، إلا أن مجاهدا زاد ، فقال : في الصلاة والخطبة يوم الجمعة . وهو قول قتادة والضحاك بن مزاحم .

4877 - وقد زدنا هذا المعنى بيانا بالأسانيد والأقوال في كتاب التمهيد .

4878 - وذكرنا فيه قول ابن مسعود : إذا كنت خلف الإمام فأنصت للقرآن .

4879 - وقوله : أتقرءون خلف الإمام ؟ . قالوا : نعم . قال : لا تفقهون ، ما لكم لا تعقلون " وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا " ؟ .

4880 - وفي قوله : أنصت للقرآن ، ونزوعه بقول الله : " وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا " - دليل على أنه أراد الجهر خاصة . والله أعلم . وإن كان الكوفيون يرون عنه ترك القراءة خلف الإمام في السر والجهر .

4881 - وفي إجماع أهل العلم على أن قوله تعالى : " وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا " لم يرد كل موضع يسمع فيه القرآن ، وإنما أراد الصلاة - أوضح الدلائل على أنه لا يقرأ مع الإمام فيما جهر فيه .

4882 - ويشهد لهذا قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الإمام : " وإذا قرأ فأنصتوا " .

[ ص: 232 ] 4883 - وقد ذكرناه بالأسانيد والطرق في " التمهيد " من حديث أبي هريرة وأبي موسى الأشعري .

4884 - وقد صحح هذا اللفظ أحمد بن حنبل .

4885 - قال أبو بكر الأثرم : قلت لأحمد بن حنبل : من يقول عن النبي - عليه السلام - من وجه صحيح : " إذا قرأ فأنصتوا " ; فقال : حديث ابن عجلان الذي يرويه أبو خالد الأحمر ، والحديث الذي رواه جرير عن التيمي ، وقد زعموا أن المعتمر رواه . قلت : نعم ، قد رواه المعتمر . قال : فأي شيء تريده ؟ فقد صحح أحمد هذين الحديثين .

4886 - قال أبو عمر : فأين المذهب عن سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وظاهر كتاب الله - تعالى - .

[ ص: 233 ] 4887 - وقال أحمد بن حنبل : من لم يسمع قراءة القرآن فجائز له أن يقرأ .

4888 - وقال في موضع آخر : من لم يسمع فعليه أن يقرأ ولو بأم القرآن ; لأن المأمور بالإنصات والاستماع من سمع دون من لم يسمع .

4889 - وهو قول سعيد بن جبير وعطاء .

4890 - قال عطاء : إذا لم يسمع فإن شاء سبح ، وإن شاء قرأ .

4891 - وقد قال بعض أصحاب مالك : لا بأس أن يتكلم يوم الجمعة من لا يسمع الخطبة بما شاء من الخير ، وما به الحاجة إليه .

4892 - وأما مالك فكره ذلك في الخطبة ، ولا يجيز القراءة للمأموم في صلاة الجهر ، سمع ، أو لم يسمع .

4893 - وقد ذكرنا هذه المسألة في موضعها من هذا الكتاب .

4894 - وقال آخرون : لا يترك أحد من المؤمنين خلف إمامه فيما أسر وفيما جهر فيه - القراءة ; لأن قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا صلاة لمن لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب " عام لا يخصه شيء ، وكذلك قوله : " كل صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج " .

4895 - وممن قال هذا الشافعي بمصر ، وعليه أكثر أصحابه .

4896 - وهو قول الأوزاعي والليث بن سعد ، وبه قال أبو ثور .

4897 - وهو قول عبادة بن الصامت ، وعبد الله بن عمرو ، وابن عباس .

[ ص: 234 ] 4898 - واختلف فيه عن أبي هريرة .

4899 - وبه قال عروة بن الزبير ، وسعيد بن جبير ، ومكحول ، والحسن البصري .

4900 - وقد ذكرنا الأسانيد عنهم في التمهيد .

4901 - قال أبو عمر : أما قوله : " كل صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج " فهو حديث مالك وغيره عن العلاء بن عبد الرحمن ، وقد ذكرناه .

4902 - وأما قوله : " لا صلاة لمن لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب " فهو حديث ابن شهاب عن محمود بن الربيع ، عن عبادة عن النبي - عليه السلام - . رواه عن ابن شهاب جماعة من أصحابه ، منهم : معمر ، ويونس ، وعقيل ، وابن عيينة ، وشعيب ، وإبراهيم بن سعد . وليس عند مالك عن ابن شهاب من وجه صحيح عن مالك .

4903 - وتأول أصحاب الشافعي في قول الله - تعالى - : " وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا " أنه مخصوص بحديث أبي هريرة ، وحديث عبادة ، كأنه قال : استمعوا وأنصتوا بعد قراءة فاتحة الكتاب ; فإنه لا صلاة إلا بها .

4904 - وتأول أصحاب مالك أن الآية موقوفة على الجهر في صلاة الإمام دون السر . وهو قول داود .

4905 - إلا أن داود يرى أن القراءة بفاتحة الكتاب فيما أسر فيه الإمام بالقراءة فرض ، وأصحاب مالك على الاستحباب في ذلك دون الإيجاب .

4906 - واختلف البويطي والمزني عن الشافعي في هذه المسألة :

[ ص: 235 ] 4907 - فقال البويطي عن الشافعي : يقرأ المأموم فيما أسر فيه الإمام بأم القرآن وسورة في الأوليين ، وبأم القرآن في الآخرتين ، وما جهر فيه الإمام لا يقرأ إلا بأم القرآن .

4908 - قال البويطي : وكذلك يقول الليث والأوزاعي .

4909 - وروى المزني عن الشافعي أنه يقرأ فيما أسر وفيما جهر . وهو قول أبي ثور .

4910 - وذكر الطبري عن العباس بن الوليد بن مزيد عن أبيه ، عن الأوزاعي ، قال : يقرأ خلف الإمام فيما أسر وفيما جهر .

4911 - وقال : إذا جهر فأنصت ، وإذا قرأ فاقرأ في سكتاته بين القراءتين .

4912 - حدثنا عبد الوارث ، حدثنا قاسم بن أصبغ ، حدثنا أحمد بن زهير ، حدثنا هارون بن معروف ، حدثنا ضمرة عن الأوزاعي قال : أخذت القراءة مع الإمام عن عبادة بن الصامت ، ومكحول .

4913 - وحجة من ذهب هذا المذهب أنه لا تنوب قراءة أحد عن أحد كما لا ينوب الركوع عن السجود .

4914 - ومن جهة الأثر حديث محمد بن إسحاق عن مكحول ، عن [ ص: 236 ] محمود بن الربيع ، عن عبادة بن الصامت ، قال : صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الغداة ، فثقلت عليه القراءة ، فلما انصرف قال : " إني لأراكم تقرءون وراء الإمام " ، قالوا : نعم ، قال : " فلا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب ; فإنه لا صلاة إلا بها " .

4915 - وفي حديث محمد بن أبي عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : أتقرءون وراء الإمام ؟ قالوا : نعم ، قال : " فلا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب " .

4916 - إلا أن حديث محمد بن أبي عائشة منقطع مرسل ، وحديث عبادة من رواية مكحول وغيره متصل مسند من رواية الثقات . وهذه الأحاديث كلها مذكورة في " التمهيد " .

4917 - قال أبو عمر : روى سمرة وأبو هريرة عن النبي - عليه السلام - أنه [ ص: 237 ] كانت له سكتات في صلاته : حين يكبر ويفتتح الصلاة ، وحين يقرأ بفاتحة الكتاب ، وإذا فرغ من القراءة قبل الركوع .

4918 - قال أبو داود : وكانوا يستحبون أن يسكت عند فراغه من السورة لئلا يتصل التكبير بالقراءة .

[ ص: 238 ] 4919 - قال أبو عمر : فذهب الحسن وقتادة وجماعة إلى أن الإمام يسكت سكتات على ما في هذه الآثار المذكورة ، ويتحين المأموم تلك السكتات من إمامه فيقرأ فيها بأم القرآن ، ويسكت فيها في سائر صلاة الجهر ، فيكون مستعملا للسنة والآية في ذلك .

4920 - وقال الأوزاعي والشافعي وأبو ثور : حق على الإمام أن يسكت سكتة بعد التكبيرة الأولى ، وسكتة بعد فراغه بقراءة فاتحة الكتاب ، وبعد الفراغ بالقراءة ; ليقرأ من خلفه بفاتحة الكتاب .

4921 - قالوا : فإن لم يفعل الإمام فاقرأ معه بفاتحة الكتاب على كل حال .

4922 - وأما مالك فأنكر السكتات ، ولم يعرفها ; قال : لا يقرأ أحد مع الإمام إذا جهر ، لا قبل القراءة ، ولا بعدها .

4923 - وقد ذكرنا علل حديث السكتتين ، وعلة حديث ابن إسحاق في كتاب التمهيد ، وكذلك حديث محمد بن أبي عائشة .

[ ص: 239 ] 4924 - وقال أبو حنيفة وأصحابه : ليس على الإمام أن يسكت إذا كبر ، ولا إذا فرغ من قراءة أم القرآن ، ولا إذا فرغ من القراءة . ولا يقرأ أحد خلف إمامه لا فيما أسر ولا فيما جهر .

4925 - وهو قول زيد بن ثابت وجابر بن عبد الله .

4926 - وروي ذلك عن علي وابن مسعود .

4927 - وبه قال الثوري ، وابن عيينة ، وابن أبي ليلى ، والحسن بن حي .

4928 - وهو قول جماعة من التابعين بالعراق .

4929 - وحجة من قال بهذا القول حديث جابر عن النبي - عليه السلام - أنه قال : " من كان له إمام فقراءته له قراءة " .

[ ص: 240 ] 4930 - وهذا الحديث رواه جابر الجعفي عن أبي الزبير ، عن جابر ، عن النبي - عليه السلام - .

4931 - وجابر الجعفي لا حجة فيما ينفرد به عند جماعة أهل العلم لسوء مذهبه ، وكان الثوري وشعبة يثنيان عليه بالحفظ ، وأما ابن عيينة فكان يحمل عليه .

[ ص: 241 ] [ ص: 242 ] 4932 - وروى يحيى بن سلام عن مالك ، عن وهب بن كيسان ، عن جابر ، عن النبي - عليه السلام - أنه قال : " كل ركعة لا يقرأ فيها بأم القرآن فلم تصل إلا وراء إمام " .

4933 - وهو حديث لا يصح إلا موقوفا على جابر .

4934 - واحتجوا أيضا بحديث ابن مسعود ، قال : كانوا يقرءون خلف النبي - عليه السلام - ، فقال : " خلطتم علي " .

4935 - وهذا لا حجة فيه ، وإنما معناه في الجهر ; لأن التخليط لا يقع في صلاة السر .

[ ص: 243 ] 4936 - ويبين ذلك حديث هذا الباب ، قوله - عليه السلام - : " مالي أنازع القرآن ؟ " ، وهذا في الجهر على ما قدمنا .

4937 - واحتجوا بحديث عمران بن حصين أن النبي - عليه السلام - صلى صلاة الظهر ، فلما قضى صلاته قال : أيكم قرأ " سبح اسم ربك الأعلى " ، فقال بعضهم : أنا ، فقال : " قد عرفت أن بعضكم خالجنيها " .

4938 - وهذا الحديث رواه شعبة وجماعة عن قتادة ، عن زرارة بن أوفى ، عن عمران بن حصين .

4939 - قال شعبة : قلت لقتادة : ألست تقول لسعيد بن المسيب : أنصت للقرآن ؟ قال : ذلك إذا جهر ، قلت : فقد كرهه هنا ، قال : لو كرهه نهى عنه .

4940 - وقال بعض القائلين بقول الكوفيين : قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا صلاة لمن لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب " خاص به من صلى وحده ، أو كان إماما . وكذلك فسره ابن عيينة .

4941 - فأما من صلى وراء إمام فإن قراءته قراءة له .

4942 - واحتجوا بأن جمهور العلماء مجمعون على أن الإمام إذا لم يقرأ وقرأ من خلفه لم تنفعهم قراءتهم ; فدل على أن قراءة الإمام التي تراعى ، وأن قراءته - كما جاء في الحديث - قراءة لمن خلفه .

[ ص: 244 ] 4943 - ورووا عن عمر بن الخطاب أنه لم يقرأ في صلاة صلاها فأعاد بهم الصلاة .

4944 - ورووا عن علي بن أبي طالب أنه قال : من قرأ خلف الإمام فقد أخطأ الفطرة .

4945 - وهذا لو صح احتمل أن يكون في صلاة الجهر ; لأنه حينئذ يخالف الكتاب والسنة ، فكيف وهو غير ثابت عن علي لما ذكرنا من رواية عبيد الله بن أبي رافع عنه خلافه ؟ .

4946 - وكذلك قول زيد بن ثابت : من قرأ خلف الإمام فلا صلاة له - منكر ، لا يصح عنه .

[ ص: 245 ] 4947 - وقد أجمع العلماء على أن من قرأ خلف الإمام فصلاته تامة ، ولا إعادة عليه ; فدل على فساد ما روي عن زيد بن ثابت .

4948 - وكذلك الحديث المروي عن سعد بن أبي وقاص ، أنه قال : وددت أن الذي يقرأ خلف الإمام في فيه حجر - حديث منقطع ، لا يصح ، ولا نقله ثقة .

4949 - وقد تكلمنا على أحاديث هذا الباب في التمهيد .

4950 - وما أعلم في هذا الباب من الصحابة من صح عنه ما ذهب إليه الكوفيون فيه من غير اختلاف عنه ، إلا جابر بن عبد الله وحده ; فإن عبد الرزاق ذكر عن داود بن قيس ، عن عبد الله بن مقسم ، قال : سألت جابر بن عبد الله : أتقرأ خلف الإمام في الظهر والعصر ؟ قال : لا .

4951 - وأما جملة اختلاف العلماء في حكم القراءة خلف الإمام فيما يسر فيه الإمام بالقراءة - فإن الكوفيين ذهبوا إلى ما ذكرنا من كراهية القراءة خلفه فيما أسر [ ص: 246 ] وفيما جهر ، وهو قول أصحاب ابن مسعود ، وإبراهيم النخعي ، وسفيان ، وأبي حنيفة ، وسائر أهل الكوفة . وحجتهم ما وصفنا .

4952 - وقال فقهاء الحجاز والشام وأكثر البصريين : القراءة مع الإمام فيما يسر فيه بالقراءة ، وهو قول مالك ، والأوزاعي ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبي ثور ، وداود ، والطبري ، وحجتهم ما قدمنا ذكره في هذا الباب .

4953 - ثم اختلف هؤلاء في وجوب القراءة إذا أسر الإمام :

4954 - فتحصيل مذهب مالك عند أصحابه أن القراءة خلف الإمام فيما يسر فيه بالقراءة سنة ، ومن تركها فقد أساء ، ولا يفسد ذلك عليه صلاته .

4955 - وكذلك قال الطبري : القراءة فيما أسر فيه الإمام سنة مؤكدة ، ولا تفسد صلاة من تركها وقد أساء .

4956 - وقد ذكر ابن خويز منداد أن القراءة خلف الإمام عند أصحاب مالك فيما أسر فيه الإمام بالقراءة - مستحبة ، غير واجبة .

4957 - وكذلك قال الأبهري ، وإليه أشار إسماعيل بن إسحاق ، وذكره في الأحكام له .

[ ص: 247 ] 4958 - قال : حدثنا إبراهيم بن حمزة ، قال : حدثنا عبد الله بن محمد عن أسامة بن زيد ، قال : سألت القاسم بن محمد عن القراءة خلف الإمام فيما لم يجهر فيه ، فقال : إن قرأت فلك في رجال من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسوة ، وإن لم تقرأ فلك في رجال من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسوة .

4959 - قال : وحدثنا القعنبي ، قال : حدثنا سليمان بن بلال عن يحيى بن سعيد ، قال : سمعت القاسم بن محمد يقول : إني لأحب أن أشغل نفسي بالقراءة فيما لم يجهر فيه الإمام بالقراءة عن حديث النفس في الظهر والعصر ، والثالثة من المغرب ، والآخرتين من العشاء .

4960 - وقال الأوزاعي ، والشافعي ، وأبو ثور ، وأحمد ، وإسحاق ، وداود - : القراءة خلف الإمام فيما أسر فيه واجبة ، ولا صلاة لمن لم يقرأ في كل ركعة منها بفاتحة الكتاب أقل شيء إذا أسر الإمام القراءة ; لأن الإنصات إنما كان للجهر بالقراءة ; لقول الله - تعالى - : " وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا " [ سورة الأعراف : 204 ] ، ولقوله - عليه السلام - : " ما لي أنازع القرآن " . وقد ارتفعت هذه العلة في صلاة السر ; فوجب على كل مصل أن يقرأ لنفسه ، ولا تنوب عند واحد من هؤلاء قراءة الإمام عن قراءة المأموم ، كما لا ينوب عنه إحرامه ، ولا ركوعه ، ولا سجوده .

4961 - وقد تكرر هذا المعنى وتلخيص مذهب كل واحد من العلماء مجملا ومفسرا في هذا الباب .

[ ص: 248 ] 4962 - قال أبو عمر : للشافعي في هذه المسألة أربعة أقوال ، وقد ذكرناها في التمهيد .

التالي السابق


الخدمات العلمية