الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1506 [ ص: 136 ] ( 3 ) باب من أعتق رقيقا لا يملك مالا غيرهم

1478 - مالك عن يحيى بن سعيد ، وعن غير واحد ، عن الحسن بن أبي الحسن البصري ، وعن محمد بن سيرين ; أن رجلا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعتق عبيدا له ، ستة عند موته ، فأسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم فأعتق ثلث تلك العبيد .

قال مالك : وبلغني أنه لم يكن لذلك الرجل مال غيرهم .

1479 - مالك ، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن ; أن رجلا في إمارة أبان بن عثمان أعتق رقيقا له ، كلهم جميعا ، ولم يكن له مال غيرهم ، فأمر أبان بن عثمان تلك الرقيق قسمت أثلاثا ، ثم أسهم على أيهم يخرج سهم الميت فيعتقون ، فوقع السهم على أحد الأثلاث ، فعتق الثلث الذي وقع عليه السهم .


33808 - قال أبو عمر : ذكر مالك في هذا الباب سنة ، وعملا بالمدينة ، فالسنة في ذلك رواها عمران بن حصين ، وأبو هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم .

[ ص: 137 ] 33809 - وحديث عمران أشهر وأكثر طرقا ، وهي سنة انفرد بها أهل البصرة ، واحتاج فيها إليهم أهل المدينة وغيرهم .

33810 - رواها عن عمران بن حصين الحسن ، وابن سيرين ، وأبو المهلب الجرمي ، ورواها عن الحسن ، عن عمران بن حصين منهم : قتادة ، وحميد الطويل ، وسماك بن حرب ، ويونس بن عبيد ، ومبارك بن فضالة ، وخالد الحذاء .

33811 - ورواها عن محمد بن سيرين ، عن عمران بن حصين : أيوب السختياني ، وهشام بن حسان ، ويحيى بن عتيق ، ويزيد بن إبراهيم التستري ، وغيرهم .

3812 - وروى هذا الحديث يزيد التستري ، عن الحسن ، وابن سيرين جميعا ، عن عمران بن حصين .

33813 - ورواه أيوب وغيره ، عن أبي قلابة ، عن أبي المهلب ، عن عمران بن حصين .

33814 - وأما حديث أبي هريرة فرواه محمد بن زياد ، عن أبي هريرة .

33815 - وروى إسماعيل بن أمية ، وقيس بن سعد ، وسليمان بن موسى ، كلهم سمعوا مكحولا ، يقول : سمعت سعيد بن المسيب يقول : أعتقت امرأة ، وفي رواية قيس بن سعد : أعتقت امرأة ، أو رجل ستة أعبد لها عند الموت على عهد [ ص: 138 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس لها مال غيرهم ، فأقرع رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم ، فأعتق اثنين ، وأرق أربعة .

33816 - وقد ذكرنا طرق هذا الحديث بالأسانيد في ( ( التمهيد ) ) ، ونذكر هنا منها طرفا .

33817 - أخبرنا أحمد بن محمد ، قال : حدثني أحمد بن الفضل ، قال : حدثني محمد بن جرير ، قال : حدثني أبو كريب ، قال : حدثني وكيع ، عن يزيد بن إبراهيم ، عن الحسن ، وابن سيرين ، عن عمران بن حصين : ( ( أن رجلا أعتق ستة أعبد له في مرضه ، فأقرع رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم ، فأعتق اثنين ، وأرق أربعة ) ) .

33818 - ليس في هذا الحديث ، ولا في حديث مالك : ليس له مال غيرهم ، وقد ذكر ذلك غير واحد من الثقات في هذا الحديث .

33819 - حدثني محمد بن خليفة ، قال : حدثني محمد بن الحسن البغدادي ، قال : حدثني عبد الله بن صالح البخاري ، قال : حدثنا عبد الأعلى بن حماد النرسي قال : حدثنا حماد بن سلمة ، عن أيوب ، عن محمد بن سيرين ، عن عمران بن حصين ، وعن قتادة ، وحميد وسماك ، عن الحسن ، عن عمران بن حصين : ( ( أن رجلا أعتق ستة مملوكين له عند موته ليس له مال غيرهم ، فأقرع رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم فأعتق اثنين ، وترك أربعة في الرق ) ) .

[ ص: 139 ] 33820 - وحدثني عبد الوارث بن سفيان قال : حدثني قاسم بن أصبغ ، قال : حدثني حماد بن بكر ، وحدثني عبد الله بن محمد ، قال : حدثني محمد بن بكر ، قال أبو داود : قال : حدثني مسدد ، قال : حدثني حماد بن زيد ، عن يحيى بن عتيق ، وأيوب عن محمد بن سيرين ، عن عمران بن حصين : ( ( أن رجلا أعتق ستة أعبد له عند موته ، ولم يكن له مال غيرهم ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، فأقرع بينهم ، فأعتق اثنين ، وأرق أربعة ) ) .

33821 - قال أبو عمر : اختلف العلماء في الرجل يعتق في مرضه عند موته عبيدا له ، ولا مال له غيرهم :

33822 - فقال مالك ، والشافعي ، وأصحابهما بهذا الأثر الصحيح ، وذهبوا إليه .

33823 - وبه قال أحمد ، وإسحاق ، وداود ، والطبري ، وجماعة من أهل الرأي والحديث .

33824 - ذكر ابن عبد الحكم ، عن مالك ، قال : من أعتق عبيدا له عند موته ليس له مال غيرهم قسموا أثلاثا ، ثم يسهم بينهم ، فيعتق ثلثهم بالسهم ، ويرق ما بقي وإن كان بينهم فضل رد السهم عليهم ، فأعتق الفضل ، وسواء ترك مالا غيرهم ، أو لم يترك .

33825 - قال : ومن أعتق رقيقا له عند الموت ، وعليه دين يحيط بنصفهم ، [ ص: 140 ] فإن استطاع أن يعتق من كل واحد نصفه فعل ذلك بهم .

33826 - قال : ومن قال : ثلث رقيقي حر أسهم بينهم ، وإن أعتق كلهم أسهم بينهم إذا لم يكن له مال غيرهم .

33827 - وإن قال : ثلث كل رأس حر ، ونصفه لم يسهم بينهم .

33828 - وقال ابن القاسم : كل من أوصى بعتق عبيده ، أو بتل عتقهم في مرضه ، ولم يدع غيرهم فإنه يعتق بالسهم ثلثهم .

33829 - وكذلك لو ترك مالا ، والثلث لا يسعهم لأعتق مبلغ الثلث منهم بالسهم .

33830 - وكذلك لو أعتق منهم جزءا سماه ، أو عددا سماه .

33831 - وكذلك لو قال : رأس منهم ، فالسهم يعتق منهم من يعتق إن كانوا خمسة ، فخمسهم ، وإن كانوا ستة فسدسهم ، خرج لذلك أقل من واحد ، أو أكثر .

33832 - وقال : لو قال عشرهم ، وهم ستون عتق سدسهم أخرج السهم أكثر من عشرة ، أو أقل .

33833 - هذا كله مذهب مالك .

33834 - ولم يختلف مالك ، وأصحابه في الذي يوصي بعتق عبيده في [ ص: 141 ] مرضه ولا مال له غيرهم أنه يقرع بينهم ، فيعتق ثلثهم بالسهم .

33835 - وكذلك لم يختلف الأكثر منهم أن هذا حكم الذي أعتق عبيده في مرضه عتقا بتلا ، ولا مال له غيرهم .

33836 - وقال أشهب ، وأصبغ : إنما القرعة في الوصية ، وأما البتل ، فهم كالمدبرين .

33837 - قال أبو عمر : حكم المدبرين عندهم إذا دبرهم سيدهم في كلمة واحدة أنه لا يبدي بعضهم على بعض ، ولا يقرع بينهم ، ويقضى الثلث على جميعهم بالقيمة ، فيعتق من كل واحد منهم حصته من الثلث ، وإن لم يدع مالا غيرهم عتق ثلث كل واحد وإن دبر في مرضه واحدا بعد واحد بدئ بالأول فالأول ، كما دبرهم في الصحة ، أو في مرضه ، ثم صح .

33838 - قال أبو عمر : قول أشهب ، وأصبغ خلاف السنة المذكورة في صدر هذا الباب ، وخلاف أهل الحجاز ، وأهل العراق ، ولم ترد السنة إلا فيمن أعتق في مرضه ستة أعبد له عتقا بتلا ، ولا مال له غيرهم ، لا فيمن أوصى بعتقهم ، فحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم بحكم الوصايا ، فأرق ثلثيهم ، وأعتق ثلثهم ، فكيف يجوز لأحد أن يقول بالحديث في الوصية دون العتق البتل ، فيخالفهم نصه ، ويقول بمعناه .

33839 - وذكر ابن حبيب ، عن ابن القاسم ، وابن كنانة ، وابن الماجشون ، [ ص: 142 ] ومطرف ، قالوا : إذا عتق الرجل في مرضه عبيدا له عتقا بتلا ، أو أوصى لهم بالعتاقة كلهم ، أو بعضهم سماهم ، أو لم يسمهم إلا أن الثلث لا يحملهم أن السهم يجزئ فيهم كان له مال سواهم أو لم يكن .

33840 - قال ابن حبيب : وقال ابن نافع : إن كان له مال سواهم لم يسهم بينهم ، وأعتق من كل واحد ما ينوبه ، وإن لم يكن له مال سواهم ، أو كان له مال تافه ، فإنه يقرع بينهم .

33841 - وقال الشافعي : وإذا أعتق الرجل في مرضه عبيدا له ، عتق بتات ، انتظر بهم ، فإن صح عتقوا من رأس ماله ، وإن مات ولا مال له غيرهم أقرع بينهم ، وأعتق ثلثهم .

33842 - قال الشافعي : والحجة في أن العتق البتات في المرض وصية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرع بين ستة مملوكين أعتقهم الرجل في مرضه وأنزل عتقهم وصية ، فأعتق ثلثهم .

33843 - قال الشافعي : ولو أعتق في مرضه عبدا له عتق بتات ، وله مدبرون ، وعبيد ، أوصى بعتقهم بعد موته بدئ بالذين بت عتقهم في مرضه ; لأنهم يعتقون عليه إن صح ، وليس له الرجوع فيهم بحال .

33844 - وقال الشافعي : والقرعة أن تكتب رقاع ، ثم يكتب أسماء العبيد ، ثم يبندق بنادق من طين ، ثم يجعل في كل بندقة رقعة ، ويجرى الرقيق أثلاثا ، ثم [ ص: 143 ] يؤمر رجل منهم لم يحضر الرقاع ، فيخرج رقعة على كل جزء ، وإن لم يستووا في القيمة عدلوا ، وضم قليل الثمن إلى كثير الثمن ، وجعلوه ثلاثة أجزاء ، قلوا أو كثروا ، إلا أن يكونوا عبدين ، فإن وقع العتق على جزء فيه عدة رقيق أقل من الثلث أعيدت الرقعة بين السهمين الباقيين ، فأيهم وقع عليه أعتق منه باقي الثلث .

33845 - قال أحمد بن حنبل في هذا كله كقول الشافعي سواء .

33846 - وذكر عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن جريج ، قال : أخبرني سليمان ابن موسى ، قال : سمعت مكحولا يقول : أعتقت امرأة من الأنصار عبيدا لها ستة ، لم يكن لها مال غيرهم ، فلما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم غضب وقال في ذلك قولا شديدا ، ثم دعا بستة قداح ، فأقرع بينهم ، فأعتق اثنين .

قال سليمان بن موسى : كنت أراجع مكحولا ، فأقول : إن كان عبد ثمنه ألف دينار أصابته القرعة ذهب المال ، فقال : قف عند أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ابن جريج : قلت لسليمان : الأمر يستقيم على ما قال مكحول ، قال : كيف ؟ قلت : يقيمون قيمة ، فإن زاد اللذان أعتقا على الثلث أخذ منهما الثلث ، وإن نقصا عتق ما بقي أيضا بالقرعة ، فإن فضل عليه أخذ منهم .

قال : ثم بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقامهم .

33847 - قال أبو عمر : قد روي في حديث ابن سيرين ، عن عمران بن [ ص: 144 ] حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم جزأهم ثلاثة أجزاء ، وهذا يدل على أنه أقامهم ، وعدلهم بالقيمة ، ولا يمكن غير ذلك في إخراج الثلث .

33848 - قال : حدثني محمد بن خليفة ، قال : حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثني عبد الله بن داود ، قال : حدثني علي بن نصر ، قال : حدثني يزيد بن زريع ، قال : حدثني هشام بن حسان ، عن محمد بن سيرين ، عن عمران بن حصين أن رجلا كان له ستة أعبد ، ولم يكن له مال غيره ، فأعتقهم عند موته ، فرفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فجزأهم ثلاثة أجزاء ، فأعتق اثنين ، وأرق أربعة . 33849 - وهذا كله قول مالك ، والشافعي ، وأحمد بن حنبل ، ومن ذكرنا معهم .

33850 - وقال أبو حنيفة فيمن أعتق عبيدا له في مرضه ، ولا مال له غيرهم : عتق من كل واحد منهم ثلثه ، وسعوا في الباقي .

33851 - وهو قول الحسن بن حي .

33852 - وقال أبو حنيفة : حكم كل واحد منهم مادام يسعى حكم المكاتب .

33853 - وقال أبو يوسف ، ومحمد : هم أحرار ، وثلثا قيمتهم دين عليهم يسعون في ذلك حتى يؤدوه إلى الورثة .

33854 - قال أبو عمر : رد الكوفيون السنة المأثورة في هذا الباب إما بأن لم يبلغهم ، أو بأن لم تصح عنهم ، ومن أصل أبي حنيفة ، وأصحابه عرض أخبار الآحاد [ ص: 145 ] على الأصول المجتمع عليها ، أو المشهورة المنتشرة .

33855 - والحجة قائمة على من ذهب مذهبهم بالحديث الصحيح الجامع في هذا الباب ، وليس الجهل بالسنة ، ولا الجهل بصحتها علة يصح لعاقل الاحتجاج بها ، وقد أنكرها قبلهم شيخهم ; حماد بن أبي سليمان .

33856 - وروى مؤمل بن إسماعيل ، عن حماد بن زيد ، عن محمد بن ذكوان أنه سمع حماد بن أبي سليمان ، وذكر الحديث الذي جاء في القرعة بين الأعبد الستة الذين أعتقهم سيدهم في مرضه الذي مات فيه .

قال : هذا قول الشيخ يعني إبليس ، فقال : محمد بن ذكوان له : وضع القلم عن المجنون حتى يفيق ، فقال له حماد : ما دعاك إلى هذا ؟ فقال له محمد بن ذكوان : وأنت ما دعاك إلى هذا ؟ قال : وكان حماد ربما صرع في بعض الأوقات .

33857 - قال أبو عمر : بنى الكوفيون مذهبهم على أن العبيد المعتقين في كلمة واحدة في مرض الموت قد استحق كل واحد منهم العتق ، لو كان لسيدهم مال يخرجون من ثلثه ، فإن لم يكن له مال لم يكن واحد منهم أحق بالعتق من غيره ، وكذلك عتق من كل واحد ثلثه ، وسعى في ثلثي قيمته للورثة ; لقولهم بالسعاية في حديث أبي هريرة في معسر أعتق حصته من عبد بينه ، وبين آخر على ما قدمنا ذكره في ما مضى من هذا الكتاب .

[ ص: 146 ] 33858 - وهذا عندنا لا يجوز أن ترد سنة بمعنى ما في أخرى إذا أمكن استعمال كل واحد منهما بوجه ما ، وبالله التوفيق ، والصواب ، لا شريك له .

33859 - وفي حديث هذا الباب من الفقه أيضا دليل على أن الوصية جائزة لغير الوالدين والأقربين ; لأن عتقهم في العبيد لمرضهم وصية لهم ، ومعلوم أنهم لم يكونوا بوالدين لمالكهم المعتق لهم ، ولا بأقربين له ، وقد قال : بأن الوصية لا تجوز إلا للأقربين غير الوارثين ولا تجوز لغيرهم ، ولا عند عدمهم طائفة من التابعين .

33860 - وسيأتي ذكر ذلك - إن شاء الله تعالى في كتاب الوصايا .

33861 - وفيه دليل على أن أفعال المريض كلها من عتق وهبة ، وعطية كالوصية ، لا يجوز فيها أكثر من الثلث .

33862 - وقد خالف في ذلك قوم زعموا أن أفعال المريض في رأس ماله كأفعال الصحيح ، ولم يجعلوا ذلك كالوصايا ، ويأتي ذكر ذلك كله في الوصايا - إن شاء الله تعالى .

33863 - وفيه أيضا إبطال السعاية مع دليل حديث ابن عمر في ذلك ، والله الموفق .

التالي السابق


الخدمات العلمية