الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1511 [ ص: 165 ] ( 6 ) باب ما يجوز من العتق في الرقاب الواجبة

1483 - مالك عن هلال بن أسامة ، عن عطاء بن يسار ، عن عمر بن الحكم ; أنه قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله ، إن جارية لي كانت ترعى غنما لي ، فجئتها وقد فقدت شاة من الغنم ، فسألتها عنها فقالت : أكلها الذئب فأسفت عليها ، وكنت من بني آدم فلطمت وجهها ، وعلي رقبة أفأعتقها ؟ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ( أين الله ؟ ) ) فقالت : في السماء ، فقال : ( ( من أنا ؟ ) ) فقالت : أنت رسول الله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ( أعتقها ) ) .


[ ص: 166 ] 33954 - قال أبو عمر : أما الحديث الأول لمالك في هذا الباب ، عن هلال بن أسامة ، عن عطاء بن يسار ، عن عمر بن الحكم ، فهكذا رواه جماعة رواة ( ( الموطأ ) ) عن مالك كلهم قال فيه : ( ( عن عمر بن الحكم ) ) ، وهو غلط ، ووهم منه ، وليس في الصحابة رجل يقال : له عمر بن الحكم ، وإنما معاوية بن الحكم السلمي .

33955 - وكذلك قال فيه كل من روى هذا الحديث ، عن هلال هذا ، وهو هلال بن علي بن أبي ميمونة ، وأبو ميمونة اسمه أسامة ، فربما قال : هلال بن أسامة ، وربما قال : هلال بن أبي ميمونة ، ينسبونه كلهم إلى ذلك ، وربما قالوا : هلال بن علي بن أبي ميمونة ، وهو مولى عامر بن لؤي .

33956 - وأما معاوية بن الحكم ، فمعروف في الصحابة ، والحديث له محفوظ ، وقد يمكن أن يكون الغلط في اسمه جاء من قبل هلال شيخ مالك ، لا من مالك .

33957 - والدليل على ذلك رواية مالك في هذا الحديث ، عن ابن شهاب ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، عن معاوية بن الحكم في غير ( ( الموطأ ) ) ولم يقل عمر بن الحكم ، وقال فيه معاوية بن الحكم ، إلا أن مالكا لم يذكر في روايته لهذا الحديث ، عن ابن شهاب ، عن أبي سلمة ، عن معاوية بن الحكم ، عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا قصة إتيان الكهان ، والطيرة ، لا غير ، وكذلك رواه أصحاب ابن شهاب .

[ ص: 167 ] 33958 - ورواه الأوزاعي ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن هلال بن أبي ميمونة ، عن عطاء بن يسار ، عن معاوية بن الحكم ، قال : قلت : يا رسول الله ! إنا كنا حديثي عهد بجاهلية ، فجاء الله بالإسلام وإن رجالا منا يتطيرون ، وذكر الخبر في الطيرة ، وفي إتيان الكهان ، وفي الخط ، وفي كلامهم في الصلاة .

33959 - وقوله : ( ( بأبي هو وأمي ما ضربني ، وكهرني .

33960 - قال : ثم اطلعت غنيمة لي ترعاها جارية ، وساق الحديث إلى قوله : ( ( إنها مؤمنة ، فأعتقها ) ) .

33961 - وقد ذكرنا حديث الأوزاعي وغيره بالأسانيد الصحاح في ( ( التمهيد ) ) .

33962 - وأما قوله في هذا الحديث للجارية : أين الله ؟ ، فعلى ذلك جماعة أهل السنة ، وهم أهل الحديث ، ورواته المتفقهون فيه ، وسائر نقلته ، كلهم يقول ما قال الله تعالى في كتابه : الرحمن على العرش استوى [ طه : 5 ] وأن الله عز وجل في السماء وعلمه في كل مكان ، وهو ظاهر القرآن في قوله عز وجل : أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور [ الملك : 16 ] وبقوله عز وجل : إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه [ فاطر : 10 ] وقوله : [ ص: 168 ] تعرج الملائكة والروح إليه [ المعارج : 4 ] .

33963 - ومثل هذا كثير في القرآن ، وقد أوضحنا هذا المعنى في كتاب الصلاة عند ذكر حديث التنزيل بما لا معنى لتكراره هاهنا ، وزدنا ذلك بيانا في هذا الباب في ( ( التمهيد ) ) أيضا .

وليس في هذا الحديث معنى يشكل غير ما وصفنا .

33964 - ولم يزل المسلمون إذا دهمهم أمر يقلقهم فزعوا إلى ربهم ، فرفعوا أيديهم ، وأوجههم نحو السماء يدعونه ، ومخالفونا ينسبونا في ذلك إلى التشبيه ، والله المستعان ، ومن قال بما نطق به القرآن ، فلا عيب عليه عند ذوي الألباب .

33965 - روينا أن أبا الدرداء أبطأ عن الغزو عاما ، فأعطى رجلا صرة فيها دراهم ، وقال : انطلق ، فإذا رأيت رجلا يسير مع القوم في ناحية عنهم في هيئة بذاذة فادفعها إليه .

قال : ففعل ، فرفع الذي أعطي الصرة رأسه إلى السماء ، وقال اللهم إنك لم تنس جريرا ، فاجعل جريرا لا ينساك .

قال : فرجع الرجل إلى أبي الدرداء ، وأخبره فقال أبو الدرداء : عرف الحق لأهله ، وأولى النعمة أهلها .

[ ص: 169 ] 33966 - وأما حديث مالك في هذا الباب عن ابن شهاب ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود فجود لفظه يحيى ، ومن تابعه .

33967 - ورواه ابن القاسم ، وابن بكير بإسناده مثله ، إلا أنهما لم يذكرا : ( ( فإن كنت تراها مؤمنة ) ) ، قالا : ( ( يا رسول الله ! علي رقبة مؤمنة ، أفأعتق هذه ؟ ) )

33968 - وكذلك رواه ابن وهب ، عن يونس .

33969 - ومالك ، عن ابن شهاب ، عن عبيد الله أن رجلا من الأنصار أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بجارية له سوداء ، فقال : يا رسول الله ! إن علي رقبة مؤمنة . . ) ) وساق الحديث .

33970 - وكذلك رواه معمر ، عن ابن شهاب .

33971 - ورواه القعنبي بإسناده مثله ، وحذف منه : ( ( إن علي رقبة مؤمنة ) ) ، وقال : إن رجلا من الأنصار أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بجارية له سوداء فقال : يا رسول [ ص: 170 ] الله ! أعتقها ؟ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ( أتشهدين . . ) ) وذكر الحديث .

33972 - وفائدة الحديث قوله : إن علي رقبة مؤمنة ، ولم يقله القعنبي ، إلا أن في الحديث ما يدل على المراد بقوله : أتشهدين بكذا .

33973 - ولم يختلف رواة ( ( الموطأ ) ) في إرسال هذا الحديث .

33974 - ورواه الحسين بن الوليد عن مالك ، عن ابن شهاب ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن أبي هريرة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلفظ حديث ( ( الموطأ ) ) سواء ، وجعله متصلا عن أبي هريرة مسندا .

33975 - ورواه الحسن هذا أيضا عن المسعودي ، عن عون بن عبد الله بن عتبة ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله ، إلا أنه زاد فيه عن المسعودي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ( أعتقها ، فإنها مؤمنة ) ) .

33976 - وليس في ( ( الموطأ ) ) من قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( ( فإنها مؤمنة ) ) ولكن فيه ما يدل على ذلك .

33977 - ورواه معمر ، عن الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن رجل من الأنصار ، أنه جاء بأمة له سوداء ، فقال : يا رسول الله ! إن علي رقبة مؤمنة ، فإن كنت تراها مؤمنة أعتقها . . ، وساق الحديث مثل رواية يحيى إلى آخرها .

33978 - وفي حديث مالك ، عن ابن شهاب في هذا الباب من الفقه : أن من شرط الشهادة التي لا يتم الإيمان إلا بها الإقرار بالبعث بعد الموت بعد شهادة أن لا إله [ ص: 171 ] إلا الله ، وأن محمدا رسول الله .

33979 - وقد أجمع المسلمون على أن من أنكر البعث بعد الموت ، فليس بمؤمن ، ولا مسلم ، ولا ينفعه ما شهد به . 33980 - وفي ذلك مع ما في القرآن من تأكيد الإقرار بالبعث بعد الموت ما يغني ويكفي .

33981 - ولا خلاف علمته فيمن جعل على نفسه رقبة مؤمنة نذرا لله أن يعتقها أنه لا يجزئ عنه إلا مؤمنة .

33982 - وكذلك لا يجزئ عند الجميع في كفارة قتل الخطأ إلا رقبة مؤمنة بشرط الله ذلك في نص كتابه هنالك .

33983 - واختلفوا في كفارة الظهار ، وكفارة الأيمان .

33984 - وقد ذكرنا ذلك في موضعه ، والحمد لله كثيرا .

33985 - واختلف العلماء فيمن عليه رقبة مؤمنة ، هل يجزئ فيها الصغير إن كان أبواه مؤمنين ؟ وهل يجزئ فيها من لم يصم ، ولا يصل ؟ :

33986 - فقالت طائفة : لا يجوز فيها إلا من صام ، وقالت : ذهب إلى هذا بعض من يقول : ( ( الإيمان قول وعمل ) ) .

33987 - وروى عبد الله بن صالح ، عن معاوية بن صالح ، عن علي بن [ ص: 172 ] أبي طلحة ، عن ابن عباس : وتحرير رقبة مؤمنة النساء : 92 ] قال : من عقل الإيمان ، وصام ، وصلى .

33988 - وروى وكيع عن الأعمش ، عن إبراهيم ، قال : ما كان في القرآن من رقبة مؤمنة ، فلا يجزئ إلا من صام ، وصلى وما كان في القرآن من رقبة ليست مؤمنة ، فالصبي يجزئ .

33989 - وعبد الرزاق ، عن الثوري عن الأعمش ، عن إبراهيم مثله ، إلا أنه قال : قد صلى ، ولم يذكر الصيام ، وما لم يذكر مؤمنة ، فيجزئ ، وإن لم يصل .

33990 - عن الشعبي ، والحسن وقتادة مثل قول ابن عباس ، وإبراهيم .

33991 - وهو قول الثوري .

33992 - وروى الأشجعي ، عن الثوري أنه قال : لا يجزئ في كفارة القتل الصبي ، ولا يجزئ إلا من صام وصلى .

33993 - وقال عطاء بن أبي رباح : كل رقبة ولدت في الإسلام ، فهي تجزئ .

33994 - وكذلك قال الزهري ; قال الأوزاعي : سألت الزهري : أيجزئ عتق الصبي المرضع في كفارة الدم ؟ قال : نعم ; لأنه ولد على الفطرة ، وهو قول [ ص: 173 ] الأوزاعي .

33995 - وقال أبو حنيفة : إذا كان أحد أبويه مؤمنا جاز عتقه في كفارة القتل .

33996 - وهو قول الشافعي ، إلا أن الشافعي يستحب ألا يعتق في الكفارات إلا من يتكلم بالإيمان .

33997 - واختلف قول مالك ، وأصحابه على هذين القولين ، إلا أن مالكا يراعي إسلام الأب ، ولا يراعي إسلام الأم .

33998 - قال أبو عمر : أجمع علماء المسلمين أن من ولد بين أبوين مسلمين ، ولم يبلغ حد الاختيار ، والتمييز ، فحكمه حكم المسلم المؤمن في الوراثة ، والصلاة عليه ، ودفنه بين المسلمين ، وأن ديته - إن قتل - مثل دية أحدهم ، فدل ذلك أنه يجزئ في الرقاب المؤمنة ، وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية