الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1519 [ ص: 189 ] ( 10 ) باب مصير الولاء لمن أعتق

1492 - مالك عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ; أنها قالت : جاءت بريرة فقالت : إني كاتبت أهلي على تسع أواق ، في كل عام أوقية ، فأعينيني ، فقالت : عائشة : إن أحب أهلك أن أعدها لهم عنك ، عددتها ويكون لي ولاؤك فعلت ، فذهبت بريرة إلى أهلها ، فقالت لهم ذلك ، فأبوا عليها ، فجاءت من عند أهلها ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس ، فقالت لعائشة : إني قد عرضت عليهم ذلك فأبوا علي ، إلا أن يكون الولاء لهم ، فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسألها ، فأخبرته عائشة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ( خذيها ، واشترطي لهم الولاء ، فإنما الولاء لمن أعتق ) ) ففعلت عائشة ، ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : ( ( أما بعد ) ) فما بال رجال يشترطون شروطا ليست في كتاب الله ؟ ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل ، وإن كان مائة شرط ، قضاء الله أحق ، وشرط الله أوثق ، وإنما الولاء لمن أعتق ) ) .

[ ص: 190 ] 1493 - مالك عن نافع ، عن عبد الله بن عمر ; أن عائشة أم المؤمنين أرادت أن تشتري جارية تعتقها ، فقال أهلها : نبيعكها على أن ولاءها لنا ، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ( ( لا يمنعك ذلك ، فإنما الولاء لمن أعتق ) ) .

1494 - مالك عن يحيى بن سعيد ، عن عمرة بنت عبد الرحمن ; أن بريرة جاءت تستعين عائشة أم المؤمنين ، فقالت عائشة : إن أحب أهلك أن أصب لهم ثمنك صبة واحدة ، وأعتقك ، فعلت ، فذكرت ذلك بريرة لأهلها ، فقالوا : لا ، إلا أن يكون لنا ولاؤك .

[ ص: 191 ] قال يحيى بن سعيد : فزعمت عمرة أن عائشة ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ( اشتريها وأعتقيها ، فإنما الولاء لمن أعتق ) ) .


1495 - مالك عن عبد الله بن دينار ، عن عبد الله بن عمر ; أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الولاء وعن هبته .

34073 - قال مالك ، في العبد يبتاع نفسه من سيده ، على أنه يوالي من شاء : إن ذلك لا يجوز ، وإنما الولاء لمن أعتق ، ولو أن رجلا أذن لمولاه أن يوالي من شاء ما جاز ذلك ; لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( ( الولاء لمن [ ص: 192 ] أعتق ) ) ، ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الولاء وعن هبته ، فإذا جاز لسيده أن يشترط ذلك له ، وأن يأذن له أن يوالي من شاء ، فتلك الهبة .


34074 - قال أبو عمر : قد خرج الناس في معاني حديث بريرة وجوها كثيرة ، فمنهم من له في ذلك باب ، ومنهم من له في ذلك كتاب ، وربما ذكروا من الاستنباط ما لا يفيد علما ولا يثيره ، ونحن - إن شاء الله تعالى بعونه وفضله - نذكر من معاني حديث بريرة هاهنا ما فيه كفاية من الأحكام التي عنى بذكرها وبالحرص فيها الفقهاء ، وأولوا الأحلام والنهى .

34075 - فمن ذلك أن في حديث بريرة استعمال عموم الخطاب في السنة ، والكتاب ; لأن بريرة لما كاتبها أهلها دل على أن الرجال والنساء والعبيد والإماء داخلون في عموم قول الله تعالى : والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم . . الآية [ النور : 33 ] ، وأن الأمة ذات زوج كانت أو غير ذات زوج داخلة في حديث بريرة في عموم الآية ; لأنها كانت ذات زوج ، لا خلاف فيه .

34076 - وفيه دليل أن كتابة الأمة ذات الزوج جائزة دون زوجها ، وفي ذلك دليل على أن زوجها ليس له منعها من الكتابة ، وإن كانت تئول إلى فراقه بغير إرادته إذا أدت وعتقت ، وخيرت ، فاختارت نفسها ، ولا منعها من السعي في كتابتها .

34077 - ولو استدل مستدل من هذا المعنى ; بأن الزوجة ليس عليها خدمة زوجها كان حسنا .

[ ص: 193 ] 34078 - كما أن للسيد عتق الأمة تحت العبد وإن أدى ذلك إلى بطلان نكاحه ، وله أن يبيع أمته من زوجها الحر ، وإن كان ذلك في بطلان زوجتيهما كان بهذا المعنى جائزا له كتابتها على رغم زوجها .

34079 - وفيه دليل على أن به يجوز للسيد مكاتبة عبده ، وأمته ، وإن لم يكن لهما شيء من المال ، ألا ترى أن بريرة جاءت تستعين عائشة في أول كتابتها ، ولم تكن أدت منها شيئا .

34080 - كذلك ذكر ابن شهاب ، عن عروة في هذا الحديث ، ذكره ابن وهب ، عن يونس ، والليث ، عن ابن شهاب ، عن عروة ، عن عائشة ، قالت : جاءت بريرة إلي ، فقالت : يا عائشة ! إني كاتبت أهلي على تسع أواق في كل عام أوقية فأعينيني ، ولم تكن قضت من كتابتها شيئا . . ، وذكر تمام الحديث .

34081 - وفيه دليل على إجازة كتابة الأمة ، وهي غير ذات صنعة ، وكتابة من لا حرفة له ، ولا مال معه إذ ظاهر الخبر أنها ابتدأت بالسؤال من حين كوتبت ، ولم يقل النبي صلى الله عليه وسلم : هل لها مال ، أو عمل واجب أو مال ، ولو كان هذا واجبا لسأل عنه ليقع علمه عليه ; لأنه بعث مبينا ومعلما صلى الله عليه وسلم .

34082 - وفيما وصفنا دليل على أن قول من تأول قول الله عز وجل : إن علمتم فيهم خيرا [ النور : 33 ] أن الخير هاهنا المال ، ليس بالتأويل الجيد ، وإن كان قد روي عن جماعة من المسلمين ، قد ذكرت بعضهم فيما تقدم من باب المكاتب .

[ ص: 194 ] والدليل على ضعف هذا التأويل إجماع العلماء على أن مال العبد للسيد ، إن شاء أن ينتزعه من عنده انتزعه من قال منهم : إن العبد يملك ، ومن قال : إنه لا يملك ، فكيف يكاتبه بماله إلا أن يشأ ترك ذلك له ؟

34084 - وأصح ما في تأويل الآية ، والله أعلم أن الخير المذكور فيها هو القدرة على الاكتساب مع الأمانة ، وقد يكتسب بالسؤال كما قيل : السؤال آخر كسب الرجل ، أي : أرذل كسب الرجل . 34085 - وكان ابن عمر يكره كتابة العبد إذا لم تكن له حرفة ، وكان يكره أن يطعمه مكاتبه من سؤال الناس ، وقال بذلك طائفة من أهل الورع .

34086 - وفي حديث بريرة ما يدل على جواز اكتساب المكاتب بالسؤال ، وأن ذلك طيب لمولاه ، وهو يرد قول من قال لا تجوز كتابة المكاتب إذا عدل على السؤال ; لأنه يطعمه أوساخ الناس . 34087 - والدليل على صحة ما قلنا أن ما طاب لبريرة أخذه طاب لسيدها أخذه منها اعتبارا باللحم الذي كان عليها صدقه ، وللنبي صلى الله عليه وسلم هدية ، واعتبارا أيضا بجواز معاملة الناس للسائل .

34088 - وقد روي أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث سهل بن حنيف ، وغيره أنه قال : ( ( من أعان غارما في عسرته ، أو غازيا في سبيل الله ، أو مكاتبا في رقبته [ ص: 195 ] أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ) ) ، فندب الناس إلى الصدقة على المكاتب .

34089 - وقد تأول قوم من العلماء في ذلك قول الله عز وجل وفي الرقاب [ التوبة : 60 ] أنهم المكاتبون ، يعانون في فك رقابهم من اشترط منهم عونهم في أجر الكتابة ، ومن لم يشترط ، وأجازوا لهم الزكاة المفروضة فضلا عن التطوع .

34090 - وكان الحسن البصري يقول في قول الله عز وجل : إن علمتم فيهم خيرا [ النور : 33 ] قال : صدقا وأمانة ، من أعطاهم كان مأجورا ، ومن سئل ، فرد خيرا كان مأجورا .

34091 - وقال إبراهيم النخعي : إن علمتم فيهم خيرا : صدقا ووفاء .

34092 - وقال عكرمة : قوة تعين على الكسب . 34093 - وقال سفيان الثوري : دينا وأمانة .

34094 - وقال آخرون : الخير هاهنا الصلاة ، والصلاح .

34095 - وقد ذكرنا هذا المعنى بأتم ذكر في كتاب المكاتب .

[ ص: 196 ] واتفق مالك ، والشافعي ، وأبو حنيفة في جواز كتابة من لا حرفة له ، ولا مال معه .

34097 - فقد روي عن مالك أيضا كراهية ذلك .

34098 - كره الأوزاعي ، وأحمد ، وإسحاق كتابة من لا حرفة له . 34099 - وعن عمر ، وابن عمر ، ومسروق مثل ذلك .

34100 - وقد ذكرنا ما للعلماء من التنازع في وجوب كتابة العبيد إذا ابتغوا ذلك من ساداتهم وعلموا فيهم خيرا في كتاب المكاتب .

34101 - وأما قولها : ( ( كاتبت أهلي على تسع أواق ) ) ، فقد ذكرنا مبلغ الأوقية ، والأصل فيها من كتاب الزكاة .

34102 - وأما قولها : في كل عام أوقية ، ففيه دليل على أن الكتابة تكون على النجم ، وهذا جائز عند الجميع ، وأقل الأنجم ثلاثة .

34103 - واختلفوا في الكتابة إذا وقعت على نجم واحد ; فأكثر أهل العلم يجيزونها على نجم واحد .

34104 - وقال الشافعي : لا تجوز على نجم واحد ، ولا تجوز حالة البتة ، لأنها ليست كتابة ، وإنما عتق على صفة كتابة كأنه قال : إذا أديت إلي كذا وكذا فأنت حر ، وقد احتج بقولها في هذا الحديث : في كل عام أوقية . [ ص: 197 ] 34105 - ومن أجاز النجامة في الديون كلها على مثل هذا في كل شهر كذا ، ولا يقول في أول كل شهر ، أو في وسطه ، أو في آخره ; لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقل إنها كتابة فاسدة ، ومعلوم أن المكاتب منفرد بكسبه كالأجنبي ، ليس كالعبد .

34106 - وأبى ذلك أكثر الفقهاء حتى يقول في أول الشهر ، أو في وسطه ، أو عند انقضائه ، أو يسمي الوقت من الشهر أو العام ; لنهيه صلى الله عليه وسلم عن البيع المؤجل إلى أجل معلوم ، ونهيه عن بيع حبل حبلة ، وهي إلى حين تباع الناقة ونتاج نتاجها ، وقالوا : ليس معاملة السيد لمكاتبه كالبيوع ; لأنه لا ربا بين العبد وسيده ، ( ( المكاتب عبد ما بقي عليه من كتابته شيء ) ) .

34107 - وأما قول عائشة : ( ( إن أحب أهلك أن أعدها لهم عددتها ) ) ، ففيه دليل على أن العد في الدراهم الصحاح يقوم مقام الوزن ، وأن البيع والشراء بها جائز من غير ذكر الوزن ; لأنها لم تقل : أزنها لهم ، وهذا على حسب سنة البلد ، وعلم ذلك فيه ، وليس ذلك من سنة بلدنا ، ولا معروف عندنا .

34108 - والأصل في الذهب والورق الوزن ، وفي البر وما كان مثله الكيل ، وإنما يجوز العد في بلد يكون الضارب فيه للدنانير والدراهم يعتبر الوزن ، ولا تدخله فيه داخلة .

34109 - ومن أجاز عد الدنانير ، والدراهم إنما يجيزها في العروض كلها ، أو [ ص: 198 ] في الذهب بالوزن ، لا في بعض الجنس ببعضه .

34110 - وأما قولها : ( ( ويكون ولاؤك لي فعلت ) ) فظاهر هذا الكلام أنها أرادت أن تشتري منهم الولاء بعد عقدهم الكتابة لأمتهم ، وأن تودي جميع الكتابة إليهم ; ليكون الولاء لها ، فأبوا ذلك عليها ، وقالوا : لا يكون الولاء إلا لنا .

34111 - ولو كان هذا الكلام كما نقله هشام وغيره ، عن عروة عن عائشة لكان النكير حينئذ على عائشة ; لأنها كانت متبوعة بأداء كتابة بريرة ، ومشترطة للولاء من أجل الأداء ، وهذا بيع الولاء ، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك .

34112 - فلو كان كذلك لكان الإنكار على عائشة - رضي الله عنها - دون موالي بريرة ، ولكن الأمر ليس كذلك بدليل ما نقله غير مالك في حديث هشام ، وما نقله غير هشام في حديث عائشة في هذه القصة .

34113 - فمن ذلك أن وهيب بن خالد - وكان حافظا - روى هذا الحديث عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة فقال فيه : إن أحب أهلك أن أعدها لهم عدة واحدة ، فأعتقك ، ويكون ولاؤك لي ، فعلت فقولها : " وأعتقك " دليل على شرائها له شراء صحيحا ; لأنه لا يعتقها إلا بعد الشراء لها .

34114 - هذا هو الظاهر في قولها : ( ( وأعتقك ) ) ، والله أعلم

34115 - وفي حديث ابن شهاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعائشة : ( ( لا يمنعك ذلك ، ابتاعي ، وأعتقي ) ) ، فأمرها بابتياع بريرة ، وعتقها بعد ملكها لها .

[ ص: 199 ] 34116 - وهذا هو الصحيح في الأصول .

34117 - وفي قوله في حديث ابن شهاب : ( ( ابتاعي ، وأعتقي ) ) تفسير قوله في حديث هشام بن عروة : ( ( خذيها ) ) ، أي : خذيها بالابتياع ، ثم أعتقيها .

34118 - ويصحح هذا كله حديث مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر ، أن عائشة أرادت أن تشتري بريرة فتعتقها ، فقال : أهلها : نبيعكها على أن الولاء لنا ، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : ( ( لا يمنعك ذلك ، فإن الولاء لمن أعتق ) ) .

34119 - وليس في أحاديث بريرة أصح من الإسناد ; لأن الأحاديث عن عائشة مختلفة الألفاظ جدا .

34120 - وقد بان في حديث ابن عمر أن عائشة إنما أرادت شراء بريرة ، وعتقها ، فأبى أهلها إلا أن يكون الولاء لهم .

34121 - وفي هذا يكون الإنكار على موالي بريرة ، لا على عائشة ; لأن الولاء للمعتق ، ولا يتحول ببيع ، ولا بهبة .

34122 - وفي ذلك إبطال الشرط في البيع إذا كان باطلا ، وتصحيح البيع ، وهذه مسألة اختلف فيها الآثار ، وعلماء الأمصار .

34123 - وقد روى الأعمش ، عن إبراهيم ، عن الأسود ، عن عائشة أن أهل بريرة أرادوا أن يبيعوها ، ويشترطوا الولاء ، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : ( ( اشتريها ، وأعتقيها ، فإنما الولاء لمن أعتق ) ) .

[ ص: 200 ] 34124 - وهذه الرواية عن عائشة موافقة لحديث ابن عمر في ذلك .

34125 - وكذلك في حديث ابن شهاب ما يدل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرها بالشراء ابتداء ، وتعتقها بعد ذلك ، ويكون الولاء لها .

34126 - وفي حديث هشام بن عروة أيضا في قوله : ( ( خذيها ، ولا يمنعك ذلك ، فإنما الولاء لمن أعتق ) ) دليل على صحة شرائها - إن شاء الله عز وجل .

34127 - واشتراط أهل بريرة الولاء بعد بيعهم لها للعتق ، خطبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم منكرا لذلك ، وقال : ( ( ما بال رجال يشترطون شروطا ، ليست في حكم الله ، أي ليست في حكم الله ، كما قال الله : ( ( كتاب الله عليكم ) ) [ النساء : 24 ] . أي حكم الله فيكم .

34127 م - وقد ذكرنا ما للعلماء في بيع المكاتب للعتق ، وغيره في حال تعجيزه ، وحكم ذلك كله في كتاب المكاتب .

34128 - وفي هذا الحديث أيضا دليل على أن عقد الكتابة للمكاتب ، لا يوجب له عتقا .

34129 - وفي ذلك رد قول من قال : إنه كالغريم من الغرماء إذا عقدت كتابته .

34130 - وأما قوله في حديث هشام بن عروة : خذيها ، واشترطي لهم الولاء ، [ ص: 201 ] فيكون معناه : أظهري لهم حكم الولاء ، فإنما الولاء لمن أعتق ، أي : عرفيهم بحكم الولاء ، لأن الاشتراط ، الإظهار ، ومنها أشراط الساعة ظهور علاماتها .

34131 - قال أوس بن حجر :

فأشرط فيها نفسه وهو معصم وألقى بأسباب له ، وتوكلا أي : أظهر نفسه فيما حاول أن يفعل .

34132 - وقيل : اشترطي لهم الولاء ، أي اشترطي عليهم ، كقوله تعالى : إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها [ الإسراء : 7 ] أي : فعليها .

34133 - وكقوله : أولئك لهم اللعنة [ الرعد : 25 ] أي : عليهم .

34134 - وقوله تعالى : فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا [ النساء : 109 ] قوله عليهم بمعنى لهم .

34135 - ويجوز أن يكون معناه الوعيد ، والتهاون لمن خالف ما أمر به ، كقوله تعالى : واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد . . الآية [ الإسراء : 64 ] .

34136 - ثم قال تعالى : إن عبادي ليس لك عليهم سلطان [ الإسراء : 65 ] بيانا بفعل من فعل ما نهى عنه ، وتحذيرا من موافقة ذلك .

34137 - ومعلوم أنه لم يكن هذا القول منه إلا بعد إعلامهم أن الولاء [ ص: 202 ] كالنسب ، لا يباع ولا يوهب ; لأنه لا يجوز في صفته صلى الله عليه وسلم أن ينهى عن شيء ، ثم يأتيه ، وإنما معناه : اشترطي لهم الولاء ، فإن اشتراطهم إياه بعد علمهم بأن اشتراطهم لا يجوز غير نافع لهم ، ولا جائز في الحكم ; لأنه صلى الله عليه وسلم أمر باشتراط الولاء لهم ; ليقع البيع بينها وبينهم ، فبطل الشرط ويصح البيع ، وهم غير عالمين بأن اشتراطهم ذلك لأنفسهم غير جائز لهم ; لأن هذا مكر وخديعة .

34138 - والرسول صلى الله عليه وسلم أبعد الناس من هذا ، ومن أن يفعل ما نهى عن فعله ، وأن يرضى لغيره ما لا يرضى لنفسه ، ومن ظن ذلك برسول الله صلى الله عليه وسلم فكافر بطعنه على النبي صلى الله عليه وسلم ، وإنما كان هذا القول منه تهديدا ، ووعيدا لمن رغب عن سنته ، وحكمه من تحريم بيع الولاء ، وهبته ، وخالف في ذلك أمره ، وأقدم على فعل ما قد نهى عن فعله .

34139 - وليس في حديث مالك في الباب تخيير بريرة حين عتقت تحت زوجها ، وهو عنده من حديث ربيعة مذكور في باب الخيار من كتاب الطلاق ، وقد مضى القول فيه هناك ، والحمد لله كثيرا .

34140 - وفي هذا الحديث دليل على أن الشرط الفاسد في البيع لا يفسد البيع ولكنه يسقط ، ويبطل الشرط ، ويصح البيع .

34141 - وهذا عند مالك - رحمه الله - في شيء دون شيء يطول شرح مذهبه في ذلك ، ويأتي كل في موضعه من البيوع ، إن شاء الله تعالى .

[ ص: 203 ] 34142 - ومن قال من أهل العلم من يرى أن الشرط الفاسد يفسد البيع ، ومنهم من يرى أنه لا ينعقد بيع ، ولا شرط أصلا ، ومنهم من يرى أن الشرط لا يضر البيع كائنا ما كان .

34143 - وهذه أصول يحتمل أن يفرد لها كتاب .

34144 - وقد ذكرنا في ( ( التمهيد ) ) خبر عبد الوارث بن سعيد الثوري ، قال : قدمت مكة ، فوجدت أبا حنيفة ، وابن أبي ليلى ، وابن شبرمة ، فسألت أبا حنيفة ، فقلت : ما تقول في رجل باع بيعا وشرط شرطا ؟ فقال : البيع باطل ، والشرط باطل ، ثم أتيت ابن أبي ليلى ، فسألته ، فقال : البيع جائز ، والشرط باطل ، ثم أتيت ابن شبرمة ، فسألته ، فقال : البيع جائز ، والشرط جائز ، فقلت : يا سبحان الله ! ثلاثة من فقهاء العراق ، اختلفوا في مسألة واحدة ، فأتيت أبا حنيفة ، فأخبرته ، فقال : لا أدري ما قالا ، حدثني عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده : أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع ، وشرط ، البيع باطل ، ثم أتيت ابن أبي ليلى ، فأخبرته ، فقال : لا أدري ما قالا ، حدثني هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة قالت : ( ( أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أشتري بريرة ، فأعتقها ، وإن اشترط أهلها الولاء ، فإنما الولاء لمن أعتق ) ) ، البيع جائز ، والشرط باطل ، ثم أتيت ابن شبرمة ، فأخبرته ، فقال : لا أدري ما قالا لك ، حدثني مسعر بن كدام ، عن محارب بن دثار ، عن جابر ، قال : بعت من النبي [ ص: 204 ] صلى الله عليه وسلم ناقة ، وشرط لي حملانها ، أو ظهرها إلى المدينة ) ) ، البيع جائز ، والشرط جائز .

34145 - وروى إسماعيل بن إسحاق ، قال : حدثني أبو ثابت ، عن عبد الله بن وهب ، قال : أخبرني مالك بأنه سأل ابن شهاب عن رجل خطب عبده وليدة قوم ، واشترط على عبده أن ما ولدت الأمة من ولد ، فله شطره ، وقد أعطاها العبد مهرها فقال ابن شهاب : هذا من الشرط الذي لا نرى له جوازا .

34146 - قال : وقال ابن شهاب : أخبرني عروة بن الزبير أن عائشة قالت : ، قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فخطب الناس ، فقال : ( ( ما بال رجال يشترطون شروطا ليست في كتاب الله ، من اشترط شرطا ليس في كتاب الله ، فهو باطل ، وإن شرطه مائة مرة ، شرط الله أحق وأوثق ) ) .

34147 - قال أبو الحسن الدارقطني ، انفرد إسماعيل بن إسحاق بهذا الحديث ، عن أبي ثابت ، عن ابن وهب ، عن مالك .

34148 - قال أبو عمر : وأما قوله : كل شرط ليس في كتاب الله ، فمعناه : كل شرط ليس في حكم الله وقضائه من كتابه ، أو سنة نبيه ، فهو باطل .

34149 - قال الله عز وجل : كتاب الله عليكم [ النساء : 24 ] أي : حكم الله وقضائه فيكم . 34150 - وفيه إجازة السجع الحق من القول ; لقوله صلى الله عليه وسلم : ( ( كتاب الله أحق ، وشرط الله أوثق ، وإنما الولاء لمن أعتق ) ) .

34151 - وهذا تفسير قوله في سجع الأعرابي : ( ( أسجعا كسجع الكهان ) ) ; [ ص: 205 ] لأن الكهان يسجعون بالباطل ; ليخرصون ، ويرجمون الغيب ، ويحكمون بالظنون .

34152 - وكذلك عاب سجعهم ، وسجع من أشبه معنى سجعهم ، ولذلك عاب قول الأعرابي في معارضة السنة بقوله : كيف أغرم ما لا أكل ، ولا شرب ، ولا استهل ، ومثل ذلك بطل ؟ فقال له : ( ( أسجعا كسجع الكهان ) ) ; لأنه كان سجعا في باطل ، اعتراضا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم .

34153 - وهذا يدل على أن السجع كلام كسائر الكلام ، فحسنه حسن ، وقبيحه قبيح . 34154 - وفي قوله صلى الله عليه وسلم : ( ( إنما الولاء لمن أعتق ) ) ما ينفي أن يكون الولاء إلى المعتق ، إلا لمن أعتق ، فينبغي بظاهر هذا القول أن يكون الولاء للذي يسلم على يديه ، وللملتقط .

34155 - فأما الذي يسلم على يديه رجل ، أو يواليه ; فقال مالك : لا ميراث للذي أسلم على يديه ، ولا ولاء له ، وميراث ذلك المسلم إذا لم يدع وارثا لجماعة المسلمين ، وهو قول الشافعي ، والثوري ، وابن شبرمة ، والأوزاعي .

34156 - وحجتهم قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( ( إنما الولاء لمن أعتق ) ) ينفي ذلك أن يكون الولاء إلى المعتق .

34157 - وهو قول أحمد ، وداود .

[ ص: 206 ] 34158 - وقال أبو حنيفة ، وأبو يوسف ، ومحمد : من أسلم على يدي رجل ، ووالاه ، وعاقده ، ثم مات ، ولا وارث له ، فميراثه له .

34159 - وقال الليث : من أسلم على يدي رجل ، فقد والاه ، وميراثه له إذا لم يدع وارثا .

34160 - وهو قول ربيعة ، ويحيى بن سعيد ، إلا أن يحيى بن سعيد ، قال ذلك فيمن جاء من أرض العدو كافرا ، فأسلم على يدي رجل من المسلمين أن له ولاءه .

34161 - قال : وأما من أسلم من أهل الذمة على يدي رجل مسلم ، فولاؤه لجماعة المسلمين ، ولم يفرق ربيعة ، ولا الليث بين الذمي ، وأهله .

34162 - وحجة من ذهب مذهب أبي حنيفة ، وربيعة حديث تميم الداري قال : ( ( سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المشرك يسلم على يدي المسلم ؟ فقال : هو أولى الناس ، وأحق الناس ، وأولاهم بمحياه ، ومماته ) ) .

[ ص: 207 ] 34163 - وقضى به عمر بن عبد العزيز ، وقد ذكرنا الحديث بإسناده في ( ( التمهيد ) ) ، وحدثناه عبد الوارث ، قال : حدثنا قاسم ، قال : حدثني بكر ، قال : حدثني مسدد ، قال : حدثني عبد الله بن داود الخريبي ، عن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز ، عن عبد الله بن وهب ، عن تميم الداري .

34164 - قال أبو عمر : وحديث " الولاء لمن أعتق " أصح ، وسنذكر ميراث اللقيط ، وولاءه في كتاب الأقضية عند ذكر حديث ابن شهاب ، عن سنين بن جميلة - إن شاء الله عز وجل .

34165 - وأما ولاء السائبة ، وولاء المسلم يعتقه النصراني ، فسيأتي القول في ذلك في آخر باب في هذا الكتاب ، إن شاء الله تعالى .

34166 - وأما قول مالك في العبد يبتاع نفسه من سيده على أنه يوالي من شاء فإن ذلك لا يجوز ; لأن الولاء لمن أعتق بقول صحيح ، يشهد له قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ( إنما الولاء لمن أعتق ) ) ، ونهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع الولاء وهبته ، واحتجاج مالك بذلك صحيح حسن جدا ، إلا إنها مسألة اختلف فيها السلف قديما ، ومن بعدهم .

34167 - وقول الشافعي فيها كقول مالك .

34168 - وهو قول أحمد ، وداود .

34169 - وروي عن عمر بن الخطاب أنه جعل إسلامه على يديه موالاة ، [ ص: 208 ] وجعل لمن لا ولاء عليه أن يوالي من شاء .

34170 - وهو قول عمر بن عبد العزيز ، والليث بن سعد .

34171 - قال معمر ، عن الزهري : قضى عمر بن الخطاب في رجل والى قوما أن ميراثه لهم ، وعقله عليهم .

34172 - قال الزهري : إذا لم يوال أحدا ورثه المسلمون .

34173 - وقد روى حماد بن سلمة ، عن جعفر بن الزبير ، عن القاسم بن عبد الرحمن ، عن أبي أمامة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : ( ( من أسلم على يدي رجل ، فله ولاؤه ) ) .

34174 - وروي عن عمر ، وعلي ، وعثمان ، وابن مسعود أنهم أجازوا الموالاة ، وورثوا بها .

34175 - وعن عطاء ، والزهري ، ومكحول نحوه .

34176 - وروي عن سعيد بن المسيب : أيما رجل أسلم على يدي رجل ، فعقل عنه ، ورثه ، وإن لم يعقل عنه لم يرثه ) ) .

34177 - وقالت به طائفة .

34178 - وقال أبو حنيفة ، وأصحابه : إذا والاه على أن يعقل عنه ، ويرثه عقل عنه ، وورثه إذا لم يخلف وارثا .

34179 - قالوا : وله أن ينقل ولاءه عنه ما لم يعقل عنه ، أو عن أحد من صغار [ ص: 209 ] ولده .

34180 - وللمولي أن يبرأ من ولائه بحضرته ما لم يعقل عنه ، وإن أسلم على يدي رجل ، ولم يعقل عنه ، ولم يواله ، لم يرثه ، ولم يعقل عنه .

34181 - وهو قول الحكم ، وحماد ، وإبراهيم .

34182 - هذا كله فيمن لا عصبة له ، ولا ذو رحم .

34183 - ومن هذا الباب عتق المرء عن غيره بإذنه ، وبغير إذنه ، وقد اختلف العلماء في ذلك :

34184 - فالذي ذهب إليه مالك في المشهور من مذهبه عند أكثر أصحابه أن الولاء عنه ، سواء كان بأمره ، أو بغير أمره .

34185 - وقال أشهب : الولاء للمعتق ، وسواء أمره بذلك ، أو لم يأمره .

34186 - وهو قول الليث ، والأوزاعي .

وحجة مالك حديث ابن شهاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حديث ذكره : إن نبي الله أيوب عليه السلام ، قال في بلائه إن الله تعالى يعلم أني كنت أمر على الرجلين يتنازعان ، ويذكران الله تعالى ، فأرجع إلى بيتي ، فأكفر عنهما كراهة أن يذكر الله تعالى إلا في حق .

34187 - وقد روي هذا الحديث عن ابن شهاب ، عن أنس ، وقد ذكرنا [ ص: 210 ] ذلك كله بالأسانيد في ( ( التمهيد ) ) .

34188 - وفي هذا الحديث دليل على جواز عتق المرء عن غيره ; لأن الكفارة قد تكون بالعتق وغيره ، ولم يبلغنا أن شريعة أيوب كانت بخلاف شريعتنا ، وقد قال الله عز وجل : أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده [ الأنعام : 9 ] .

34189 - وقال الشافعي : إذا أعتقت عبدك عن رجل حي ، أو ميت بغير أمره ، فولاؤه لك ، وإن أعتقته عنه بأمره بعوض ، أو بغير عوض ، فولاؤه له ، ويجزئه بمال ، وبغير مال ، وسواء قبله المعتق عنه ، أو لم يقبله .

34190 - وهو قول أحمد ، وداود .

34191 - وقال أبو حنيفة ، وأصحابه ، والثوري : إن قال : أعتق عني عبدك على مال ذكره ، فالولاء للمعتق عنه ; لأنه بيع صحيح ، وإذا قال : أعتق عبدك عني بغير مال ، فالولاء للمعتق ; لأن الآمر لم يملك منه شيئا ، وهي هبة باطلة ; لأنها لا يصح فيها القبض .

34192 - قال أبو عمر : الأصل في هذا الباب قوله صلى الله عليه وسلم : ( ( الولاء لمن أعتق ) ) يدخل فيه الذكر والأنثى ، والواحدة ، والجماعة ; لأنه من يصلح له كله ، إلا أن السفيه الذي لا يجوز له التصرف في ماله خارج من هذه الجملة ، وأما النساء ، فلهن ولاء من أعتقن ، دون ميراث الولاء في غير ذلك ، وقد تقدم هذا المعنى مجودا ، والحمد لله كثيرا .

التالي السابق


الخدمات العلمية