الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
34381 - قال مالك : الأمر عندنا : أنه ليس على سيد العبد أن يكاتبه إذا سأله ذلك ، ولم أسمع أن أحدا من الأئمة أكره رجلا على أن يكاتب عبده ، وقد سمعت بعض أهل العلم إذا سئل عن ذلك فقيل له : إن الله تبارك وتعالى يقول : فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا [ النور : 33 ] يتلو [ ص: 247 ] هاتين الآيتين : وإذا حللتم فاصطادوا [ المائدة : 2 ] فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله [ الجمعة : 10 ] . قال مالك : وإنما ذلك أمر أذن الله عز وجل فيه للناس ، وليس بواجب عليهم .


34382 - قال أبو عمر : اختلف العلماء في وجوب الكتابة على السيد لعبد إذا ابتاعها منه ، وفيه خير .

34383 - واختلفوا أيضا في قوله عز وجل : إن علمتم فيهم خيرا [ النور : 33 ] .

34384 - فقالت طائفة : الخير المال ، والغنى ، والأداء .

34385 - وقال آخرون : الصلاح والدين .

34386 - وقال آخرون : الخير هاهنا حرفة يقوى بها على الاكتساب .

34387 - وكرهوا أن يكاتبوا من لا حرفة له فيبعثه عدم حرفته على السؤال .

34388 - وقال آخرون : الدين والأمانة ، والقوة على الأداء .

34389 - وقال آخرون : الصدق ، والقوة على طلب الرزق .

[ ص: 248 ] 34390 - قاله مجاهد ، وعطاء .

34391 - قال عطاء : هو مثل قوله تعالى : وإنه لحب الخير لشديد [ العاديات : 8 ] ، إن ترك خيرا الوصية [ البقرة : 180 ] .

34392 - قال ابن جريج : قلت لعطاء أرأيت إن لم أعلم عنده مالا ، وهو رجل صدق ; قال : ما أحسب خيرا إلا المال .

34393 - وقاله مجاهد .

34394 - وقال عمرو بن دينار : هو كل ذلك ; المال والصلاح .

34395 - وقال طاوس : المال والأمانة .

34396 - وقال الحسن ، وأخوه سعيد ، والضحاك ، وأبو رزين ، وزيد بن أسلم ، وعبد الكريم : الخير : المال .

34397 - قال سفيان : الدين ، والأمانة .

34398 - وقال الشافعي : إذا جمع القوة على الاكتساب والأمانة .

34399 - وروى معمر ، عن أيوب ، عن ابن سيرين ، عن عبيدة في قوله تعالى : فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا [ النور : 33 ] ، قال : إن علمتم عندهم أمانة .

34400 - والثوري ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، قال : صدقا ووفاء . [ ص: 249 ] قال أبو عمر : من لم يقل إن الخير هنا المال أنكر أن يقال : إن علمتم فيهم خيرا [ النور : 33 ] مالا .

34401 - قال : ويقال : علمت فيه الخير ، والصلاح والأمانة ، ولا يقال : علمت فيه المال ، وإنما يقال : علمت عنده المال .

34402 - ومن قال : إن مال المكاتب لسيده إذا عقدت كتابته ، فلا يكون الخير عنده إلا القوة على الكسب ، والتحرف .

34403 - ومن كره أن يكاتب من لا حرفة له ، ولا قوة على الاكتساب احتج بما رواه يحيى القطان ، عن ثور بن يزيد ، عن يونس بن سيف ، عن حكيم بن حزام ، قال : كتب عمر بن الخطاب إلى عمير بن سعد : أما بعد : فانه من قبلك من المسلمين أن يكاتبوا أرقاءهم ، على مسألة الناس .

34404 - وسفيان ، عن عبد الكريم الجزري ، عن نافع ، عن ابن عمر ، أنه كان يكره أن يكاتب غلامه إذا لم يكن له حرفة ، ويقول : تأمروني أن آكل أوساخ [ ص: 250 ] الناس .

34405 - وروى وكيع ، عن سفيان ، عن أبي جعفر الفراء ، عن ابن أبي ليلى الكندي ، أن سلمان أراد أن يكاتب عبده ، فقال : من أين ؟ قال : أسأل الناس . قال : أتريد أن تطعمني أوساخ الناس ؟ وأبى أن يكاتبه .

34406 - قال أبو عمر : هذا تنزه واختيار ، والله أعلم ، وقد كوتبت بريرة ، ولا حرفة لها ، وبدأت بسؤال الناس من حين كوتبت ، وتذبذب الناس إلى عون المكاتب ; لما فيه من عتق الرقاب .

34407 - وروى الثوري ، عن أبي جعفر الفراء ، عن جعفر بن أبي سروان ، عن أبي التياح مؤذن علي ، قال : قلت لعلي : أكاتب ، وليس لي مال ؟ قال : نعم ، ثم حصن الناس علي ، فأعطيت ما فضل عن كتابتي ، فأتيت عليا ، فقال : اجعلها في الرقاب . وأما اختلاف أهل العلم في معنى قوله تعالى : فكاتبوهم [ النور : 33 ] فهل هي على الوجوب ، أو على الندب والإرشاد ؟ فإن مسروق بن الأجدع ، وعطاء بن أبي رباح ، وعمرو بن دينار ، والضحاك بن مزاحم ، وجماعة أهل الظاهر ، كانوا يقولون : واجب على كل من سأله مملوكه ، وعلم عنده خيرا ، أن يعقد له كتابته مما يتراضيان به .

[ ص: 251 ] 34408 - واحتجوا بأن عمر بن الخطاب ، أجبر أنس بن مالك ، على كتابة لعبده سيرين أبي محمد بن سيرين بالدرة .

34409 - وروى قتادة ، وموسى بن أنس بن مالك ، أن سيرين والد محمد بن سيرين ، سأله الكتابة وكان كثير المال ؟ فأبى ; فانطلق إلى عمر ، فقال عمر لأنس : كاتبه ، فأبى ، فضربه بالدرة ، وتلا : فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا [ النور : 33 ] فكاتبه أنس .

34410 - قد قيل : إن عمر رفع الدرة على أنس ; لأنه أبى أن يأتيه شيئا من كتابته ، لا على عقد الكتابة أولا .

34411 - وقال ابن جريج : قلت لعطاء : واجب علي إذا علمت له مالا ، أن أكاتبه ؟ فقال : ما أراه إلا واجبا ، وقالها عمرو بن دينار .

34412 - وقال مالك ، والشافعي ، وأبو حنيفة وأصحابهم ، والثوري ، وهو قول الحسن ، والشعبي ; ليس على السيد أن يكاتب عبده ، إذا سأله ذلك ، وإن كان ذا مال ، إلا أن يريد السيد .

[ ص: 252 ] 34413 - قال أبو عمر : قد ينعقد الإجماع بأنه لو سأله أن يبيعه من غيره ، لم يلزمه ذلك ، وكذلك مكاتبته ; لأنه لا يبيع له من نفسه ، وكذلك لو قال له : أعتقني . أو : دبرني . أو : زوجني . لم يلزمه ذلك بإجماع ، فكذلك الكتابة ; لأنها معاوضة لا تصح إلا عن تراض .

34414 - وقوله عز وجل : فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا [ النور : 33 ] مثل قوله : وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم [ النور : 32 ] وذلك كله ندب وإرشاد ، وإذن ، كما قال مالك .

34415 - وقال زيد بن أسلم ، وقاله إسحاق ، إذا اجتمع في العبد الأمانة ، والمال ، وسأل سيده أن يكاتبه ، لم يسعه إلا مكاتبته ، ولا يجبره الحاكم على ذلك ، وأخشى أن يأثم إن لم يفعل .

34416 - وقد أنكر جماعة من أهل العلم على من جعل قوله عز وجل : فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا [ النور : 33 ] مثل قوله : وإذا حللتم فاصطادوا [ المائدة : 2 ] وقوله : فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض [ الجمعة : 10 ] .

34417 - وهذان الأمران ، ورد كل واحد منهما بعد حظر ومنع ، فكان معناهما الإباحة ، والخروج من ذلك الحظر ; لأنه عز وجل قال : لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم [ المائدة : 95 ] ، وقال تعالى : " وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما " [ ص: 253 ] [ المائدة : 96 ] . فمنعهم من الصيد ما داموا محرمين ، ثم قال لهم : وإذا حللتم فاصطادوا [ المائدة : 2 ] فعلم أن معنى هذا الأمر الإباحة لما حظر عليهم من الصيد ، ومنعوا منه ، لا إيجاب الاصطياد ، وكذلك منعوا من التصرف والاشتغال بكل ما يمنع من السعي إلى الجمعة ، إذا نودي لها ، وأمروا بالسعي لها ، ثم قال لهم : فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض [ الجمعة : 10 ] .

34418 - فعلم أهل اللسان ، أن معنى الأمر بالانتشار في الأرض ، إباحة لمن شاء .

34419 - وأجمع على ذلك أهل العلم وفهموه من معنى كتاب ربهم ; فقالوا : لا بأس بترك الصيد لمن حل من إحرامه ، ولا بأس بالقعود في المسجد الجامع لمن قضى صلاة الجمعة .

34420 - وأما الأمر بالكتابة لمن ابتغاها من العبيد ، فلم يتقدم نهي من الله عز وجل ، بأن لا يكاتبوا ، فيكون الأمر إباحة بالصيد ، والانتشار في الأرض . 43421 - وقد زعم بعض أصحابنا ، أن قول الله تعالى : لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم [ النساء : 29 ] تقتضي النهي عن الكتابة ; لأن مال العبد ، لسيده أخذه منه ، كما له أن يؤاجره ، يقال : فلو لم يؤذنوا لنا في الكتابة ، لكنا ممتنعين منها بالآية التي ذكرنا .

[ ص: 254 ] 34422 - قال : ولولا قوله عز وجل : فكاتبوهم [ النور : 33 ] ما جازت الكتابة .

التالي السابق


الخدمات العلمية