الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
[ ص: 296 ] ( 5 ) باب بيع المكاتب

1508 - قال مالك : إن أحسن ما سمع في الرجل يشتري مكاتب الرجل ; أنه لا يبيعه إذا كاتبه بدنانير أو دراهم لا بعرض من العروض يعجله ولا يؤخره ; لأنه إذا أخره كان دينا بدين ، وقد نهي عن الكالئ بالكالئ .

قال : وإن كاتب المكاتب سيده بعرض من العروض ، من الإبل أو البقر أو الغنم أو الرقيق ، فإنه يصلح أن يشتريه بذهب أو فضة أو عرض مخالف للعروض التي كاتبه سيده عليها ، يعجل ذلك ولا يؤخره .


34626 - قال أبو عمر : منع من ذلك لما يدخله من النسيئة في بيع دنانير ، أو دراهم بعضها ببعض ، لأن ما على المكاتب يؤخذ نجوما ، فلا يحل بيعه بالنقد ، ولا بالنسيئة ; لأنه صرف إلى أجل .

34627 - وكذلك لا يجوز شراء عرض على المكاتب بعرض غير معجل ; لأن النجوم مؤجلة ، فلو تأخر العرض كان من الدين بالدين .

34628 - وكذلك لا يجوز عند مالك بيع عرض بعرض من جنسه ; لأنه [ ص: 297 ] يدخله الربا من أجل أنه عرض بعرض مثله وزيادة .

34629 - وكذلك اختلف العلماء في بيع المكاتب .

34630 - فقال جمهور العلماء : لا يباع إلا على أن يمضي في كتابته عند مشتريه ، ولا يبطلها ، وهذا عندي بيع الكتابة لا بيع الرقبة .

34631 - وقالت طائفة : بيعه جائز ما لم يؤد من كتابته شيئا ; لأن بريرة بيعت ، ولم تكن أدت من كتابتها شيئا .

34632 - وقال آخرون : إذا رضي المكاتب بالبيع جاز لسيده بيعه .

34633 - هذا قول أبي الزناد ، وربيعة ، وهو قول الشافعي ، ومالك أيضا ، إلا أن مالكا اختلف في كيفية تعجيز المكاتب على ما نذكره بعد ، ولا يرى بيع رقبة المكاتب إلا بعد التعجيز .

34634 - وأما الشافعي ; فإذا رضي المكاتب بالبيع فهو منه رضى بالتعجيز ، وتعجيزه إليه لا إلى سيده ; لأن بريرة رضيت أن تباع ، وهي كانت المساومة لنفسها ، والمختلفة بين سادتها الذين كاتبوها ، وبين عائشة التي اشترتها .

34635 - وقال آخرون : لا يجوز أن تباع إلا للعتق ، فكذلك بيعت بريرة .

34636 - هذا قول الأوزاعي ، وأحمد ، وإسحاق .

[ ص: 298 ] 34637 - وقال آخرون : لا يجوز أن تباع حتى تعجز ، فإذا عجزت نفسها جاز بيعها ، وذكروا أن بريرة عجزت نفسها ، وللمكاتب عندهم أن يعجز نفسه كان له مال ظاهر أو لم يكن .

34638 - وسنذكر الاختلاف في ذلك بعد إن شاء الله تعالى .

34639 - وقال آخرون : لا يجوز بيع المكاتب ويجوز بيع كتابة المكاتب ، على أنه إن عجز فللذي اشترى كتابته رقبته ، وإن مات المكاتب ورثه دون البائع ، وإن أدى كتابته إلى الذي اشترى كان ولاؤه للبائع الذي عقد كتابته .

34640 - هذا قول مالك وأصحابه .

34641 - وقال آخرون : لا يجوز بيع المكاتب ; لما في ذلك من نقد العقد له ، وقد أمر الله تعالى بالوفاء بالعقود ، ولأنه يدخله بيع الولاء ، وكذلك لا يجوز بيع كتابته ، ولا بيع شيء مما بقي منها عليه ، والبيع في ذلك كله فاسد مردود ; لأن ذلك غرر لا يدرى العجز من المكاتب أم لا ، ولا يدري المشتري ما يحصل عليه بصفقته رقبة المكاتب أو كتابته ، وإن حصل على رقبته كان في ذلك بيع الولاء .

34642 - هذا كله قول أبي حنيفة وأصحابه .

34643 - وأما اختلافهم في تعجيز المكاتب ; فكان مالك يقول : لا يعجزه [ ص: 299 ] سيده إلا عند السلطان ، أو القاضي ، أو الحاكم .

34644 - وهو قول ابن أبي ليلى وبه قال سحنون .

34645 - وقال ابن القاسم : إذا رضي المكاتب بالعجز دون السلطات لزمه ذلك .

34646 - وقال ابن القاسم : ولا يجوز له أن يعجز نفسه إذا كانت له أموال ظاهرة ، فإن عجز ثم ظهرت له أموال مضى التعجيز ما لم يعلم بالمال .

34647 - وقال ابن كنانة ، وابن نافع : للمكاتب أن يعجز نفسه وإن كان له مال ظاهر .

34648 - وروى ابن وهب ، في ( ( موطئه ) ) ، عن مالك ، مثل قول ابن نافع ، وابن كنانة .

34649 - وهذه المسألة عند أصحابنا على قولين .

34650 - وقال الشافعي ، وأبو حنيفة : للمكاتب أن يعجز نفسه ، ويعجزه سيده عند غير السلطان إذا كانا في بلد واحد ، وحضرة واحدة ، وذلك بأن يقول المكاتب : ليس عندي شيء ، ويقول السيد : اشهدوا أني قد عجزته .

34651 - وفعل ذلك ابن عمر .

34652 - وقضى به شريح ، والشعبي .

[ ص: 300 ] 34653 - وقال الشعبي ، وأبو حنيفة : للسيد أن يعجز المكاتب بحلول نجم من نجومه .

34654 - قال الشافعي : لا يعجز السلطان المكاتب الغائب إلا أن يثبت عنده الكتابة وحلول نجم من نجومه ، ويحلفه ما أبرأه ، ولا قبضه منه ، ولا أنذره به ، فإذا فعل عجزه له ، ويجعل المكاتب على حجته إن كانت له .

34655 - قال : وأما إذا أراد المكاتب إبطال كتابته وادعى العجز ، فذلك إليه ، علم له مال أو لم يعلم ، وعلمت له قوة على الكسب أو لم تعلم ، هذا إليه ليس إلى سيده .

34656 - وقال أبو يوسف : لا يعجزه حتى يجتمع عليه نجمان .

34657 - وهو قول الحكم ، وابن أبي ليلى ، والحسن بن حي .

34658 - وقال الثوري : منهم من يقول : نجمان ، والاستثناء أحب إلي .

34659 - وقال أحمد : وكان أحب إلي .

34660 - وقال الحارث العكلي : إذا دخل نجم في نجم ، فقد استبان عجزه .

34661 - وقال الحسن البصري : إذا كانت نجومه مساقاة ، استسعى بعد النجم سنتين .

[ ص: 301 ] 34662 - وقال الأوزاعي : يستأنى به شهرين .

34663 - وقال محمد بن الحسن عنه وعن أصحابه : إن كان له مال حاضر أو غائب يرجو قدومه ، أجله يومين أو ثلاثة ، لا زيادة على ذلك .

34664 - وقال الأوزاعي : إذا قال : قد عجزت عن الأداء ، وعجز نفسه ، لم يمكن من ذلك .

34665 - قال أبو عمر : هذا ليس بشيء ; لأن كتابته مضمنة بالأداء ، فإذا لم يكن الأداء بإقراره بالعجز على نفسه انفسخت كتابته ، وكان هو وماله لسيده ، والأصل في الكتابة ; لأنها لا تجب عند من أوجبها إلا بابتغاء العبد لها ، وطلبه إياها ، وتعجيزه نفسه نقض لذلك .

34566 - وقد أجمعوا في ذلك أن المكاتب لعبده : إن جئتني بكذا وكذا دينار إلى أجل كذا ، فلم يجبه بها ، أنه لا يلزمه شيء .

التالي السابق


الخدمات العلمية