الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
201 174 - وأما حديث مالك عن صدقة بن يسار ، عن المغيرة بن حكيم أنه رأى ابن عمر يرجع في سجدتين في الصلاة على صدور قدميه ، فلما انصرف ذكر ذلك له ; فقال له : إنها ليست سنة الصلاة ، وإنما أفعل هذا من أجل أني أشتكي .


5050 - ففيه أن ابن عمر قال في انصراف المصلي بين السجدتين على صدور قدميه : إنها ليست سنة الصلاة ، والسنة إذا أطلقت فهي سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى تضاف إلى غيره ، كما قيل : سنة العمرين ، ونحو هذا .

5051 - وهذا الذي ينفي ابن عمر أن تكون سنة الصلاة هو الإقعاءالمنهي عنه عند جماعة العلماء .

5052 - ومن جعل الإقعاء انصراف المصلي بين السجدتين على صدور قدميه من العلماء - فليس بسنة ; لأن النبي - عليه السلام - نهى أن يقعي الرجل في صلاته كما يقعي الكلب .

[ ص: 268 ] 5053 - وقد روي عن أبي إسحاق ، عن الحارث ، عن علي ، عن النبي - عليه السلام - قال : " لا تقعين على عقبيك في الصلاة " .

5054 - وهذا غير صحيح ; لأن الحارث لم يسمع منه أبو إسحاق غير أربعة أحاديث ، وليس هذا منها . وقد تكلم في الحارث الشعبي وغيره ، وثقه آخرون .

[ ص: 269 ] 5055 - وعن أبي هريرة أنه كره الإقعاء .

5056 - وعن قتادة مثله .

5057 - وكره الإقعاء في الصلاة مالك ، وأبو حنيفة ، والشافعي ، وأصحابهم .

5058 - وبه قال أحمد ، وإسحاق ، وأبو عبيد .

5059 - إلا أن أبا عبيد قال : الإقعاء جلوس الرجل على أليته ناصبا فخذيه مثل إقعاء الكلب والسبع .

5060 - وهذا إقعاء مجتمع عليه ، لا يختلف العلماء فيه ، وهو تفسير أهل اللغة [ ص: 270 ] وطائفة من أهل الفقه .

5061 - قال أبو عبيد : وأما أهل الحديث فإنهم يجعلون الإقعاء أن يجعل أليته على عقبيه بين السجدتين .

5062 - قال أبو عمر : قد ذكرنا من قال ذلك أيضا من الفقهاء .

5063 - وأما الذين أجازوا رجوع المصلي على عقبيه وجلوسه على صدور قدميه بين السجدتين فجماعة :

5064 - قال طاوس : رأيت العبادلة يقعون في الصلاة : ابن الزبير ، وابن عباس ، وابن عمر .

5065 - وكذلك روى الأعمش عن عطية العوفي ، قال : رأيت العبادلة يقعون في الصلاة : ابن عباس ، وابن عمر ، وابن الزبير .

5066 - قال أبو عمر : أما ابن عمر فقد ثبت عنه من وجوه نقلها مالك في موطئه أنه لم يفعل ذلك إلا أنه اشتكى ، وأن رجليه كانتا لا تحملانه ، وقد قال : إن ذلك ليست سنة الصلاة ، وكفى هذا ، فهو يخرج في المسند .

5067 - ومعلوم عند أهل السير والعلم بالأخبار أن يهود خيبر فدعوا يديه [ ص: 271 ] ورجليه فلم تعد كما كانت ، فكان يشتكي من أجل ذلك ، وكانت رجلاه لا تحملانه ; فكان يتربع .

5068 - وقال حبيب بن أبي ثابت : إن ابن عمر كان يقعي بعد ما كبر .

5069 - وأما ابن عباس فذكر عبد الرزاق عن معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه أنه رأى ابن عمر ، وابن عباس ، وابن الزبير - يقعون بين السجدتين .

5070 - وذكر أبو داود ، قال : حدثنا يحيى بن معين ، قال : حدثنا حجاج بن محمد عن ابن جريج ، قال : أخبرني أبو الزبير أنه سمع طاوسا يقول : قلنا لابن عباس : الإقعاء على القدمين في السجود ، قال : هي السنة ، قال : قلنا : إنا لنراه جفاء بالرجل ، فقال ابن عباس : هي سنة نبيك - عليه السلام - .

5071 - وقال إبراهيم بن ميسرة : عن طاوس قال : سمعت ابن عباس يقول : من السنة أن تمس عقبيك أليتك .

5072 - فهذا ابن عباس يثبت هذا المعنى سنة ، وهو الذي نفاه ابن عمر عن السنة ، والمثبت أولى من النافي من جهة النظر ومن جهة الأثر أيضا ; لأن الحديث المسند إنما فيه أن يقعي الرجل كما يقعي الكلب ، والكلب إنما يقعد على أليته ورجلاه من كل ناحية .

[ ص: 272 ] 5073 - قال أبو عبيدة معمر بن المثنى : هذا هو الإقعاء عند العرب .

5074 - وقد ذكرنا في " التمهيد " حديث أنس : أن النبي - عليه السلام - قال له : " يا بني إذا سجدت فأمكن كفيك وجبهتك من الأرض ، ولا تنقر نقر الديك ، ولا تقع إقعاء الكلب ، ولا تلتفت التفات الثعلب " .

5075 - فالذي فسر به الإقعاء معمر بن المثنى أولى عندي . والله أعلم .

5076 - يقال : أقعى الكلب ، ولا يقال : قعد ، وقعوده إقعاؤه . ويقال : إنه ليس شيء يكون إذا قام أقصر منه إذا قعد إلا الكلب إذا أقعى ; فمن انصرف بين السجدتين على هذا الحال ، وقعد في صلاته على هذه السبيل - فهو الإقعاء المنهي عنه ، المجتمع عليه ; وذلك أن يقعد على أليته ، وينصب رجليه من الجانبين ، فمن فعل هذا فقد فعل ما لا يجوز عند أحد من العلماء .

5077 - ومن أوجب الإعادة على فاعل هذا لم يخرج ; لأن فعله طابق النهي ففسد . والله أعلم .

5078 - ومن لم ير على فاعل ذلك إعادة فلأنها هيئة عمل قد حصل معها الجلوس ، وهيئة العمل لا يعدم معها العمل . وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية