الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1552 1526 - مالك عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب ؛ أن رجلا من أسلم جاء إلى أبي بكر الصديق فقال له : إن الأخر زنى ، فقال له أبو بكر : هل ذكرت هذا لأحد غيري ؟ فقال : لا ، فقال له أبو بكر : فتب إلى الله ، واستتر بستر الله فإن الله يقبل التوبة عن عباده ، فلم تقرره نفسه حتى أتى عمر بن الخطاب ، فقال له مثل ما قال لأبي بكر ، فقال [ ص: 22 ] [ له عمر مثل ما قال له أبو بكر ] فلم تقرره نفسه حتى جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال له : إن الأخر زنى ، فقال سعيد : فأعرض عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث مرات ، كل ذلك يعرض عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى إذا أكثر عليه ، بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أهله فقال : " أيشتكي أم به جنة ؟ " فقالوا : يا رسول الله . والله إنه لصحيح ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أبكر أم ثيب " ؟ فقالوا : بل ثيب يا رسول الله ، فأمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرجم .

1527 - مالك عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب قال : بلغني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لرجل من أسلم ، يقال له هزال " يا هزال لو سترته بردائك لكان خيرا لك " قال يحيى بن سعيد : فحدثت بهذا الحديث في مجلس فيه يزيد بن نعيم بن هزال الأسلمي . فقال يزيد : هزال جدي ، وهذا الحديث حق .

1528 - مالك عن ابن شهاب أنه أخبره أن رجلا اعترف على نفسه [ ص: 23 ] بالزنا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وشهد على نفسه أربع مرات . فأمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرجم . قال ابن شهاب : فمن أجل ذلك يؤخذ الرجل باعترافه على نفسه .


35172 - قال أبو عمر : أما الحديث الأول في هذا الباب ، عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب ، أن رجلا من أسلم - ولم يسم الرجل - فقد سماه فيه : يزيد بن هارون ، وغيره ممن روى عن يحيى بن سعيد ؛ قال يزيد بن هارون ، وغيره ، عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب ، أن ماعز بن مالك الأسلمي ، أتى إلى أبي بكر الصديق ، فأخبره أنه زنى ، فقال له أبو بكر : هل ذكرت ذلك لأحد غيري ؟ . قال : لا . فقال له أبو بكر : استتر بستر الله وتب إلى الله تعالى ، فإن الناس يعيرون ولا يغيرون ، وأما الله - عز وجل - يقبل التوبة عن عباده .

35173 - قال أبو عمر : هو ماعز بن مالك الأسلمي ، لا خلاف بين العلماء في ذلك ، وقد تكررت الآثار المروية في قصته بذلك .

35174 - وقد روي معنى حديث مالك هذا متصلا من وجوه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد ذكرنا بعضها في " التمهيد " ، ونذكر منها ما حضرنا في هذا الباب إن شاء الله عز [ ص: 24 ] وجل .

35175 - وروى ابن عيينة ، عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب ، أن رجلا من أسلم أتى عمر ، فقال : إن الأخر زنى ، فقال تب إلى الله تعالى ، واستتر بستر الله ، فإن الله يقبل التوبة عن عباده ، وإن الناس يعيرون ولا يغيرون . فلم تدعه نفسه حتى أتى أبا بكر ، فقال له مثل ذلك ، فقال له قول عمر ، ورد عليه مثل ما رد عليه عمر ، فلم تدعه نفسه حتى أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكر ذلك له ، فأعرض عنه ، فأتاه من الشق الآخر فأعرض عنه ، فأتاه من الشق الآخر فذكر له ذلك ، فأرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى قومه فسألهم عنه : " أبه جنون ؟ أبه ريح ؟ " فقالوا : لا ، فأمر به فرجم .

35176 - قال يحيى بن سعيد ، عن نعيم بن عبد الله بن هزال ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لهزال : " لو سترته بثوبك ، كان خيرا لك " . قال : وهزال كان أمره أن يأتي النبي - صلى الله عليه وسلم - فيخبره .

35177 - ذكره عبد الرزاق ، عن ابن عيينة .

35178 - قال : وقال ابن عيينة ، قال : وأخبرني عبد الله بن دينار ، قال : قام النبي - صلى الله عليه وسلم - على المنبر ، فقال : " أيها الناس ، اجتنبوا هذه القاذورة التي نهاكم الله عنها ، ومن أصاب من ذلك شيئا ، فليستتر " .

[ ص: 25 ] 35179 - وفي هذا الحديث من الفقه : أن ستر المسلم على نفسه ما وقع فيه من الكبائر الموجبة للحدود ، والتوبة منها ، والندم عليها ، والإقلاع عنها ، أولى به من الإقرار بذلك على نفسه .

35180 - ألا ترى أن أبا بكر ، أشار بذلك على الرجل الذي اعترف عنده بالزنا ، وكذلك فعل عمر - رضي الله عنهما - .

35181 - وهو ماعز الأسلمي ، لا خلاف في ذلك بين أهل العلم ، وذلك مشهور في الآثار .

35182 - وكذلك إعراض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنه حين أقر على نفسه بالزنا ، حتى أكثر عليه كان - والله أعلم - رجاء ألا يتمادى في الإقرار ، وأن ينتبه ، ويرعوي ، ثم ينصرف ، فيعقد التوبة مما وقع فيه .

35183 - هذا مذهب من قال : إن الاعتراف بالزنا مرة واحدة يكفي .

35184 - وأما من قال : إنه لا بد من إقراره أربع مرات ؛ فقالوا : إنما أعرض عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليتم إقراره عنده .

35185 - وليس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك كغيره ؛ لأنه كان إليه إقامة الحدود لله تعالى ، ومن كان ذلك إليه ، لم يكن له - إذا بلغه ، وثبت عنده ما يوجبها - إلا إقامتها ، ولم يكن أبو بكر ، ولا عمر ، في ذلك الوقت كذلك .

35186 - وسنذكر اختلاف الفقهاء في حكم إقرار المعترف في الزنا ، وهل [ ص: 26 ] يحتاج إلى تكرار الإقرار ، أم لا ، في حديث ابن شهاب بعد هذا ، في هذا الباب إن شاء الله .

35187 - ويدلك أن الستر واجب من المؤمن على المؤمن قوله - صلى الله عليه وسلم - : " تعافوا الحدود فيما بينكم ، فإنه إذا بلغني ذلك ، فلا عفو " ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - لهزال الأسلمي : " يا هزال لو سترته بردائك ، لكان خيرا لك " .

وكان هزال قد أمره أن يأتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيعترف عنده بما وقع منه ، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا القول ، معرفا له أن ستره عليه كان أفضل وأولى به ، وإذا كان ستر المسلم على المسلم مندوبا إليه ، مرغوبا فيه ، فستر المرء على نفسه ، أولى به ، وعليه التوبة مما وقع فيه .

35188 - ويدلك أيضا على ما وصفت لك ، قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أيشتكي ؟ أبه جنة ؟ " فيقول : أمجنون هو يبلغ نفسه إلى الموت ، وهو يمكنه أن يتوب ويستغفر الله تعالى ولا يعود ، فإن الله تعالى يقبل عن عباده ، ويحب التوابين .

35189 - وأما قوله : إن الأخر زنى ، فالرواية فيه بكسر الخاء ، على وزن فعل [ ص: 27 ] عند أهل اللغة .

35190 - والمعنى فيه : إن البائس الشقي زنى ، كما تقول : الأبعد زنى ، قال ذلك توبيخا لنفسه .

35191 - قال أهل اللغة ، في قول قيس بن عاصم : المسألة أخر كسب الرجل : أي أرذل كسب الرجل .

35192 - حدثني محمد بن عبد الله بن حكم ، قال : حدثني محمد بن معاوية بن عبد الرحمن ، قال : حدثني إسحاق بن أبي حسان ، قال حدثني هشام بن عمار ، قال : حدثني عبد الحميد بن حبيب ، قال : حدثني الأوزاعي ، قال : أخبرني عثمان بن أبي سودة ، قال : حدثني من سمع عبادة بن الصامت يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله - عز وجل - ليستر العبد من الذنب ، ما لم يخرقه " . قالوا : وكيف يخرقه ؟ . قال : " يحدث به الناس " .

35193 - حدثني خلف بن قاسم ، قال : حدثني قاسم بن عبد الرحمن أبو عيسى الأسواني ، قال : حدثني إسحاق بن إبراهيم بن يونس ، قال : حدثني سفيان بن وكيع بن الجراح ، قال : حدثني أبي ، عن إسرائيل ، عن جابر ، عن عامر ، عن عبد الرحمن بن أبزى ، عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - إن ماعزا أقر على نفسه بالزنا ، عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث مرات ، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إن أقررت الرابعة ، أقمت عليك الحد " ، فأقر [ ص: 28 ] عنده الرابعة ، فأمر به فحبس ثم سأل عنه ، فذكروا خيرا ، فرجم .

35194 - وهذا حديث حسن ، إلا أن جابرا الجعفي يتكلمون فيه ، وأجمعوا على أن يكتب حديثه ، واختلفوا في الاحتجاج به ؛ فكان يحيى القطان ، وعبد الرحمن بن مهدي ، لا يحدثان عنه ، وكان أحمد بن حنبل ، ويحيى بن معين ، يضعفانه ، وكان شعبة بن الحجاج ، وسفيان الثوري ، يشهدان له بالحفظ والإتقان ، وكان وكيع ، وزهير بن معاوية يوثقانه ، ويثنيان عليه ، قال وكيع : مهما شككتم ، فلا تشكوا ، فإن جابرا الجعفي ثقة .

35195 - وأما حديث مالك ، في هذا الباب ، عن ابن شهاب ، مرسلا فرواه معمر ، ويونس ، عن الزهري ، عن أبي سلمة ، عن جابر ، أن رجلا من أسلم أتى النبي صلى الله عليه وسلم . الحديث .

35196 - ورواه شعيب بن أبي حمزة ، وعقيل بن خالد ، عن ابن شهاب ، عن أبي سلمة ، وسعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة ، أن ماعزا الأسلمي أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فاعترف عنده بالزنا ، فرده أربع مرات ، وذكر الحديث .

35197 - قال ابن شهاب : وحدثني من سمع جابر بن عبد الله ، يقول : كنت فيمن رجمه ، فلما أذلقته الحجارة هرب ، فأدركناه بالحرة ، فرجمناه .

[ ص: 29 ] 35198 - وقد ذكرنا طرق حديث ابن شهاب ، وألفاظ ناقديه بالأسانيد ، في كتاب " التمهيد " .

35199 - وقد روى حديث ماعز ، في قصة اعترافه بالزنا ، ورجمه ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ابن عباس .

35200 - وروى حديثه أيضا من وجوه جابر بن عبد الله ، وجابر بن سمرة ، وسهل بن سعد ، ونعيم بن هزال ، وأبو سعيد الخدري ، وفي أكثرها أنه اعترف أربع مرات ، وفي بعضها مرتين ، وفي بعضها ثلاث مرات ، وقد ذكرنا ذلك في " التمهيد " .

35201 - وفي رواية شعبة ، وإسرائيل ، وأبي عوانة ، عن سماك ، عن جابر بن سمرة أنه اعترف مرتين ، فأمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرجم .

35202 - واختلف الفقهاء ، في عدد الإقرار بالزنا .

[ ص: 30 ] 35203 - فقال مالك ، والشافعي ، والليث ، وعثمان البتي : إذا أقر مرة واحدة بالزنا ، حد .

35204 - وهو قول الحسن البصري ، وحماد الكوفي .

35205 - وبه قال أبو ثور ، وداود ، والطبري .

35206 - ومن حجتهم على من خالفهم ، أن الآثار مختلفة في إقرار ماعز ، وروي فيها أنه أقر مرة ، وروي أنه أقر مرتين ، وروي أنه أقر ثلاثا ، وروي أنه أقر أربع مرات ، وسقط الاحتجاج به .

35207 - وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله ، عن أبي هريرة ، وزيد بن خالد : " واغد يا أنيس على امرأة هذا ، فإن اعترفت ، فارجمها " . ولم يقل : إن اعترفت أربع مرات ، وكل ما وقع عليه اعتراف ، وجب به الحد .

35208 - وقد أجمع العلماء ، على أن الإقرار في الأموال يجب مرة واحدة ؛ فدل ذلك على أنه لا يراعى عدد الشهود ؛ لأن الشهادة لا تصح بأقل من شاهدين .

35209 - وقال أبو حنيفة وأصحابه ، والثوري ، وابن أبي ليلى ، والحسن بن حي : لا يجب عليه الحد ، في الزنا ، حتى يقر أربع مرات .

[ ص: 31 ] 35210 - وهو قول الحكم بن عتيبة .

35211 - وبه قال أحمد ، وإسحاق .

35212 - وقال أبو حنيفة وأصحابه أربع مرات ، في مجالس مفترقة .

35213 - وقال أبو يوسف ، ومحمد : يحد في الخمر بإقراره مرة واحدة .

35214 - وقال زفر : لا يحد في الخمر حتى يقر مرتين ، في موطنين .

35215 - وقال أبو حنيفة وزفر ، ومحمد : إذا أقر مرة واحدة ، في السرقة ، صح إقراره .

35216 - وقال أبو يوسف : حتى يقر مرتين .

35217 - قال أبو عمر : من حجتهم حديث سعيد بن جبير ، عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رد ماعزا حتى أقر أربع مرات ، ثم أمر برجمه .

35218 - وأحاديث كثيرة فيها الإقرار منه أربع مرات ، قد ذكرتها في " التمهيد " .

35219 - قالوا : وليس تقصير من قصر فيما حفظ غيره ، بحجة عليه .

35220 - ومن حفظ " أربع مرات " ، فقد زاد حفظه على حفظ غيره ، وشهادته أولى ؛ لأنه سمع ما لم يسمع غيره .

[ ص: 32 ] 35221 - وسنذكر ما يلزم من رجع عن إقراره بالزنا ، وأكذب نفسه ، وما للفقهاء من التنازع ، في باب من اعترف على نفسه بالزنا ، من هذا الكتاب إن شاء الله - عز وجل - .

التالي السابق


الخدمات العلمية