الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1562 [ ص: 85 ] بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم تسليما

( 2 ) باب ما جاء فيمن اعترف على نفسه بالزنا

1536 - مالك عن زيد بن أسلم ؛ أن رجلا اعترف على نفسه بالزنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسوط ، فأتي بسوط مكسور ، فقال : " فوق هذا " فأتي بسوط جديد ، لم تقطع ثمرته ، فقال : " دون هذا " فأتي بسوط قد ركب به ولان ، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلد ، ثم قال : " أيها الناس ، قد آن لكم أن تنتهوا عن حدود الله ، من أصاب من هذه القاذورات شيئا ، فليستتر بستر الله ، فإنه من يبدي لنا صفحته ، نقم عليه كتاب الله " .


35489 - قال أبو عمر : لم يختلف عن مالك ، في إرسال هذا الحديث ، ولا أعلمه يستند بهذا اللفظ من وجه من الوجوه .

[ ص: 86 ] 35490 - وقد ذكر ابن وهب في " موطئه " ، عن مخرمة بن بكير ، عن أبيه ، قال : سمعت عبيد الله بن مقسم ، يقول : سمعت كريبا مولى ابن عباس ، أو حدثت عنه ، أنه قال : أتى رجل النبي صلى الله عليه وسلم فاعترف على نفسه بالزنا ، ولم يكن الرجل أحصن ، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم سوطا ، فوجد رأسه شديدا ، فرده ، ثم أخذ سوطا ، فوجد رأسه لينا ، فأمر رجلا من القوم ، فجلده مائة جلدة ، ثم قام على المنبر ، فقال : " أيها الناس ، اتقوا الله ، واستتروا بستر الله " .

وقال : " انظروا ما كره الله لكم ، فاجتنبوه " .

أو قال : " احذروا ما حذركم الله من الأعمال ، فاجتنبوه ، إنه ما نؤتى به من امرئ " .

35491 - قال ابن وهب : معناه نقم عليه كتاب الله .

35492 - قال أبو عمر : هذا معنى حديث قول مالك ، وإن كان خلاف لفظه ، وفيه كراهة الاعتراف بالزنا ، وحب الستر على نفسه ، والفزع إلى الله عز وجل ، في التوبة ، وقد تقدم هذا المعنى في الباب قبل هذا ، وتقدم كثير من معاني هذا الحديث في ذلك الباب ، والحمد لله .

35493 - وفي حديث هذا الباب أيضا ، أن السلطان إذا أقر عنده المقر بحد من حدود الله عز وجل ، ثم لم يرجع عنه ، لزمه إقامة الحد عليه ، ولم يجز له العفو عنه .

[ ص: 87 ] 35494 - وقد ذكرنا في فضل الستر على المسلم ، وستر المرء على نفسه ، أحاديث كثيرة في " التمهيد " .

35495 - منها ما حدثني أحمد بن عمر ، قال : حدثني عبد الله بن محمد ، قال : حدثني محمد بن فطيس ، قال : حدثني مالك بن عبد الله بن سيف ، قال حدثني عمر بن الربيع بن طارق ، قال : أخبرني يحيى بن أيوب ، عن عيسى بن موسى بن إياس بن البكير ، أن صفوان بن سليم ، حدثه ، عن أنس بن مالك ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : " اطلبوا الخير دهركم كله ، وتعرضوا نفحات الله عز وجل ؛ فإن لله نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء من عباده ، وسلوه أن يستر عوراتكم ، ويؤمن روعاتكم " .

35496 - حدثني عبد الرحمن بن مروان ، قال : حدثني أحمد بن سليمان بن عمرو البغدادي ، بمصر ، قال : حدثني أبو عمران موسى بن سهيل البصري ، قال : حدثني عبد الواحد بن غياث ، قال : حدثني فضال بن جبير ، عن أبي أمامة الباهلي ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ثلاث ؛ لو حلفت عليهن ، لبررت ، والرابعة ، لو حلفت عليها ، لرجوت أن لا آثم ، لا يجعل الله من له سهم في الإسلام كمن لا سهم له ، ولا يتولى الله عبدا ، فيوليه إلى غيره . ولا يحب قوم عبدا ، إلا بعثه الله فيهم " أو قال معهم ، " ولا يستر الله على عبد في الدنيا ، إلا ستر عليه عند المعاد .

[ ص: 88 ] 35497 - حدثني سعيد بن نصر ، قال : حدثني قاسم بن أصبغ ، قال : حدثني ابن وضاح ، قال : حدثني أبو بكر بن أبي شيبة ، قال : حدثني عفان ، قال : حدثني همام ، قال : سمعت إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة ، قال : حدثني شيبة الحضرمي ، أنه شهد عروة يحدث عمر بن عبد العزيز ، عن عائشة ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ما ستر الله على عبد في الدنيا ، إلا ستر عليه في الآخرة " .

35498 - أخبرنا عبد الرحمن بن يحيى ، قال : حدثني أحمد بن سعيد ، قال : حدثني محمد بن محمد الباهلي ، قال : حدثني سليمان بن عمرو ، وهو الأقطع ، قال : حدثني عيسى بن يونس ، عن حنظلة السدوسي ، قال : سمعت أنس بن مالك ، يقول : كان يؤمر بالسوط ، فتقطع ثمرته ، ثم يدق بين حجرين حتى يلين ، ثم يضرب به . قلنا لأنس : في زمان من كان هذا ؟ . قال : في زمن عمر بن الخطاب .

35499 - واختلف الفقهاء ، في الموضع التي يضرب بها الإنسان في الحدود .

35500 - فقال مالك : الحدود كلها لا تضرب إلا في الظهر .

[ ص: 89 ] 35501 - قال : وكذلك التعزير ، لا يضرب إلا في الظهر عندنا .

35502 - وقال الشافعي وأصحابه يتقى الفرج والوجه ، وتضرب سائر الأعضاء .

35503 - وروي عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - مثل قول الشافعي ؛ أنه كان يقول : اتقوا وجهه ، والمذاكير .

35504 - وقال أبو حنيفة ، ومحمد بن الحسن : تضرب الأعضاء كلها في الحدود ، إلا الفرج والرأس .

35505 - وقال أبو يوسف : يضرب الرأس أيضا .

35506 - قال أبو عمر : روى سفيان ، عن عاصم ، عن أبي عثمان أن عمر [ ص: 90 ] - رضي الله عنه - أتي برجل في حد ، فقال للجلاد : اضرب ، ولا نرى إبطك ، وأعط كل عضو حقه .

33507 - وروي عن عمر ، وابن عمر ، أنهما قالا : لا يضرب الرأس .

35508 - قال ابن عمر : لا يؤمر أن يضرب الرأس .

35509 - واختلفوا في كيفية ضرب الرجال ، والنساء ؛ قياما أو قعودا .

35510 - فقال مالك : الرجل والمرأة في الحدود كلها سواء ، لا يقام واحد منهما ، يضربان قاعدين ، ويجرد الرجل في جميع الحدود ، ويترك على المرأة ما يسترها ، وينزع عنها ما يقيها من الضرب .

35511 - وقال الثوري : لا يجرد الرجل ، ولا يمد ، ويضرب قائما ، والمرأة قاعدة .

35512 - وقال الليث بن سعد ، وأبو حنيفة ، والشافعي : الضرب في الحدود كلها ، وفي التعزير ، مجردا ، قائما ، غير ممدود ، إلا حد القذف ؛ فإنه يضرب وعليه ثيابه ، وينزع عنه المحشو ، والبرد ، والفرو .

35513 - قال أبو عمر : في حديث ابن عمر ، في رجم اليهوديين ، ما يدل على أن الرجل ، كان قائما ، والمرأة قاعدة ؛ لقوله فيه : فرأيت الرجل يحني على المرأة ، يقيها الحجارة .

[ ص: 91 ] 35514 - وما جاء عن عمر ، وعلي ، في ضرب الأعضاء ، ما يدل على القيام ، والله أعلم .

35515 - ومما يدل على الضرب قائما ؛ ما رواه شعبة ، عن أبي ميمونة ، قال : أتيت المدينة ، فدخلت المسجد ، وقيدت بعيري ، فجاء رجل ، فجلد فقلت له : يا نائك أمه ، فرفعني إلى أبي هريرة ، وهو خليفة لمروان ، فضربني ثمانين ، قال : فركبت بعيري ، وقلت :


لعمرك إنني يوم أضرب قائما ثمانين سوطا ، إنني لصبور

.

35516 - واختلفوا في أشد الحدود ضربا ؛

35517 - فقال مالك وأصحابه ، والليث بن سعد : الضرب في الحدود كلها سواء ، ضرب غير مبرح ، ضرب بين ضربين .

35518 - وقال أبو حنيفة وأصحابه : التعزير أشد الضرب ، وضرب الزنا أشد من الضرب في الخمر ، وضرب السارق أشد من ضرب القاذف .

35519 - وقال الثوري : ضرب الزنا ، أشد من ضرب القذف ، وضرب القذف أشد من ضرب الشرب .

35520 - وقال الحسن بن حي : ضرب الزنا أشد من ضرب الشرب والقذف .

35521 - وعن الحسن البصري مثله ، وزاد : وضرب الشرب أشد من [ ص: 92 ] التعزير .

35522 - وقال عطاء بن أبي رباح : حد الزنية أشد من حد الفرية ، وحد الفرية والخمر واحد .

35523 - قال أبو عمر : القياس أن يكون الضرب في الحدود كلها واحدا ؛ لورود التوقيف فيها على عدد الجلدات ، ولا يرد في شيء منها تخفيف ولا تثقيل عما يجب التسليم له ، فوجبت التسوية في ذلك ، ومن فرق بين شيء من ذلك ، احتاج إلى دليل ، وقد ذكرنا ما نزعت به كل فرقة ، من الآثار لأقوالهم ، في كتاب " التمهيد " .

35524 - قال أبو عمر : روى شعبة ، عن واصل ، عن المعرور بن سويد ، قال : أتي عمر بن الخطاب بامرأة زنت ، فقال : أفسدت حسبها ، اضربوها حدها ، ولا تخرقوا عليها جلدها .

35525 - وروي عن علي ، أنه قال لقنبر في العبد الذي أقر عنده بالزنا : اضربه كذا وكذا ، ولا تنهك .

35526 - وروي عن علي وعمر - رضي الله عنهما - دليل على أن قول الله عز وجل : ( ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله ) [ النور : 2 ] لم يرد به شدة الضرب ، والإسراف فيه ، وإنما أراد تعطيل الحدود ، وأن لا تأخذ الحكام رأفة على الزناة ، فلا يجلدونهم ويعطلوا الحدود .

[ ص: 93 ] 35527 - وهذا قول جماعة أهل التفسير .

35528 - وممن قال ذلك ؛ الحسن ، ومجاهد ، وعطاء ، وعكرمة ، وزيد بن أسلم .

35529 - وروى وكيع ، عن عمران بن حدير ، عن أبي مجلز ، في قوله عز وجل : ( ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله ) [ النور : 2 ] . قال : إقامة الحدود إذا رفعت إلى السلطان .

35530 - وروى نافع ، عن ابن عمر الجمحي ، عن ابن أبي مليكة ، عن عبيد أو عبد الله بن عمر ، قال : ضرب ابن عمر جارية له أحدثت ، فجعل يضرب رجليها ، قال : وأحسبه قال : ظهرها .

قال : فقلت : ( ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله ) [ النور : 2 ] . قال يا بني ، وأخذتني بهما رأفة ، إن الله عز وجل ، لم يأمرني أن أقتلها ، أما أنا ؛ فقد أوجعت حين ضربت .

التالي السابق


الخدمات العلمية