الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
[ ص: 111 ] باب ما جاء في المغتصبة

1541 - قال مالك : الأمر عندنا في المرأة توجد حاملا ولا زوج لها ، فتقول : قد استكرهت ، أو تقول : تزوجت . إن ذلك لا يقبل منها ، وإنها يقام عليها الحد ، إلا أن يكون لها على ما ادعت من النكاح بينة ، أو على أنها استكرهت ، أو جاءت تدمى ، إن كانت بكرا ، أو استغاثت حتى أتيت وهي على ذلك الحال ، أو ما أشبه هذا ، من الأمر الذي تبلغ فيه فضيحة نفسها ، قال : فإن لم تأت بشيء من هذا ، أقيم عليها الحد ، ولم يقبل منها ما ادعت من ذلك .


35625 - قال أبو عمر : قد مضى القول في هذا الباب ، في باب الرجم ، عند قول عمر بن الخطاب : الرجم في كتاب الله حق ، على من زنى من الرجال والنساء ، إذ أحصن ، إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف . فجعل وجود الحبل كالبينة أو الاعتراف ، فلا وجه لإعادة ما قد مضى ، إلا أن نذكر [ ص: 112 ] طرفا هنا ، ونقول : إنه قد روي عن عمر خلاف ما رواه مالك عنه ، وإن كان إسناد حديث مالك أعلى ، ولكنه محتمل للتأويل .

35626 - وروى عبد الرزاق ، عن الثوري ، عن قيس بن مسلم ، عن طارق بن شهاب ، قال : قد بلغ عمر ، أن امرأة متعبدة حملت ، فقال عمر : أتراها قامت من الليل تصلي ، فخشعت ، فسجدت ، فأتاها غاو من الغواة ، فتجشمها ، فحدثته بذلك سواء فخلى سبيلها .

35627 - وعن ابن عيينة ، عن عاصم بن كليب الجرمي ، عن أبيه ، أن أبا موسى كتب إلى عمر في امرأة أتاها رجل وهي نائمة ، فقالت : إن رجلا أتاني ، وأنا نائمة ، فوالله ما علمت حتى قذف في مثل شهاب النار .

فكتب عمر تهامية تنومت ، قد كان يكون مثل هذا ، وأمر أن يدرأ عنها الحد .

35628 - وروي عن عمر أيضا ، أنه أتي بامرأة حبلى بالموسم وهي تبكي ، فقالوا : زنت . زنت . فقال عمر : ما يبكيك ، فإن المرأة ربما استكرهت على نفسها . يلقنها ذلك ، فأخبرت أن رجلا ركبها نائمة ، فقال : لو قتلت هذه ، لخشيت أن يدخل ما بين هذين الأخشبين النار ، وخلى سبيلها .

35629 - وروي عن علي - رضي الله عنه - أنه قال لشراحة ، حين أقرت بالزنا : لعلك غصبت على نفسك . فقالت : بل أتيت طائعة ، غير مكرهة .

35630 - واختلف الفقهاء في الرجل والمرأة ، يوجدان في بيت ، فيقران [ ص: 113 ] بالوطء ، ويدعيان الزوجية ؟ .

35631 - فقال مالك : إن لم يقيما البينة ، بما ادعيا من الزوجية ، بعد إقرارهما بالوطء ، أو بعد أن شهد عليهما به ، أقيم عليهما الحد .

35632 - قال ابن القاسم : إلا أن يكونا طارئين .

35633 - وقال عثمان البتي : إن كان يرى قبل ذلك يدخل إليها ، ويذكرها ، أو كانا طارئين ، لا يعرفان قبل ذلك ، فلا حد عليهما ، وإن كان لم يأتيا شيئا من ذلك ، فهما زانيان ما اجتمعا ، وعليهما الحد .

35634 - وقال أبو حنيفة وأصحابه : إذا وجد رجل وامرأة ، وأقرا بالوطء ، وادعيا أنهما زوجان ، لم يحدا ، ويخلى بينه وبينها .

35635 - وهو قول الشافعي .

35636 - قال أبو عمر : لا خلاف عليه علمته بين علماء السلف والخلف أن المكرهة على الزنا ، لا حد عليها ، إذا صح إكراهها ، واغتصابها نفسها .

35637 - وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " تجاوز الله عن أمتي ، الخطأ ، والنسيان ، وما استكرهوا عليه " .

35638 - والأصل المجتمع عليه ، أن الدماء الممنوع منها بالكتاب والسنة لا ينبغي أن يراق شيء منها ، ولا يستباح إلا بيقين .

35639 - واليقين : الشهادة القاطعة ، أو الإقرار الذي يقيم عليه صاحبه ، فإن [ ص: 114 ] لم يكن ذلك ، فلأن يخطئ الإمام في العفو ، خير له من أن يخطئ في العقوبة ، فإذا صحت التهمة ، فلا حرج عليه في تعزير المتهم ، وتأديبه بالسجن ، وغيره ، وبالله التوفيق .

35640 - وقد مضى القول في صداق المغتصبة ، لا تنكح حتى تستبرئ نفسها بثلاث حيض ، فإن ارتابت من حيضتها ، فلا تنكح حتى تستبرئ نفسها من تلك الريبة .

35641 - قال أبو عمر : قد تقدم ، في كتاب النكاح هذا المعنى ، وما فيه للعلماء ونعيده مختصرا هنا ، لإعادة مالك له في هذا الباب .

35642 - قال مالك : إذا زنى الرجل بالمرأة ، ثم أراد نكاحها ، فذلك جائز له ، بعد أن يستبرئها عن مائه الفاسد .

35643 - قال : وإن عقد النكاح قبل أن يستبرئها ، فهو كالناكح في العدة ، ولا يحل له أبدا ، إن كان وطؤه في ذلك .

35644 - قال مالك : وإذا تزوج امرأة حرة ، فدخل بها ، فجاءت بولد بعد شهر ، أنه لا ينكحها أبدا لأنه وطأها في عدة .

35645 - وقال الشافعي : يجوز نكاح الزانية ، وإن كانت حبلى من زنى ، ولا يطؤها حتى يستبرئها ، وأحب إلي أن لا يعقد عليها حتى تضع .

35645 - وقال زفر : إذا زنت المرأة ، فعليها العدة ، وإن تزوجت قبل انقضاء العدة ، لم يجز النكاح .

35647 - وقال أبو حنيفة في رجل رأى امرأة تزني ، ثم تزوجها ، فله أن [ ص: 115 ] يطأها قبل أن يستبرئها ، كما لو رأى امرأته تزني ، لم يحرم عليه وطؤها عنده .

35648 - وقال محمد بن الحسن : لا أحب له أن يطأها حتى يستبرئها ، وإن تزوج امرأة ، وبها حمل من زنا ، جاز النكاح ، ولا يطؤها حتى تضع ، ولم يفرق بين الزاني وغيره .

35649 - وقال عثمان البتي : لا بأس بتزويج الزانية الزاني وغيره ، وأحب إلي أن لا يقربها وفيها ماء خبيث .

35650 - وقال أبو يوسف : النكاح فاسد ، إذا كان الحمل من زنا .

35651 - وهو قول الثوري وزاد الثوري : وكان الحمل منه .

35652 - وقد روي عن أبي يوسف كقول أبي حنيفة .

35653 - وقال الأوزاعي : لا يتزوج الزاني الزانية إلا بعد حيضة ، وأحب إلي أن تحيض ثلاثا .

35654 - قال أبو عمر : أما حجة مالك ؛ فإنه قاس استبراء الرحم من الزنا بثلاث حيض في الحرة ، على حكم النكاح الفاسد المفسوخ ؛ لأن حكم النكاح الفاسد عند الجميع ، كالنكاح الصحيح في العدة ، فكذلك الزنا ؛ لأنه لا يستبرئ رحم غيره في حرة بأقل من ثلاث حيض ، قياسا على العدة .

35655 - وحجة الشافعي ، وأبي حنيفة ، أن العدة في الأصول ، لا تجب إلا بأسباب تقدمتها ؛ بنكاح ، ثم طلاق ، أو موت ، فلم يكن قبل الزنا بسبب [ ص: 116 ] تجب العدة بزواله ، وكذلك لم يجب عندهم فيه عدة ، والقياس عندهم في الحمل مثله في استبراء الرحم .

35656 - وقد احتج الشافعي بالحديث عن عمر ، أنه حد غلاما وجارية فجرا ، ثم حرص على أن يجمع بينهما ، فأبى الغلام . قال : فلم يكن عنده أن عليها عدة من زنى ، ولا مخالف له من الصحابة .

35657 - قال : ولا وجه لمن جعل ماء الزاني كماء المطلق ، فقاسه عليه ، وأباح للزاني نكاحا دون عدة ؛ لأن العدة فيها حق للزوج ، وعبادة عليه ، لقوله عز وجل : ( وأحصوا العدة ) [ الطلاق : 1 ] . ولقوله : ( فما لكم عليهن من عدة ) [ الأحزاب : 49 ] .

35658 - والعدة من الزنا ، لو وجبت ، لم يكن للزاني فيها حق ، وهو من سائر الناس ؛ لأنه لا فراش له ، ولا ولد يلحق به ، فلما لم يمنع الزاني من نكاحها ، لم يمنع غيره .

التالي السابق


الخدمات العلمية